في شهر تشرين الأول\أوكتوبر من عام 1389 للميلاد، وقعت معركة “كوسوفو”، إحدى أشهر المعارك التي شهدها التاريخ الحديث وأكثرها شراسةً والتي شكّلت منعطفًا حاسمًا ومحورًا مفصليًا في تاريخ العثمانيّين من جهة وشبه جزيرة البلقان والوجود الإسلاميّ فيها من جهةٍ ثانية، حين قرّر الملك الصربيّ “لازار” حشد جيوشه والتحالف مع أمراء ألبانيا والبلغار لوقف التقدّم العثمانيّ المندفع بقوّة وسرعةٍ كبيرة نحو البلقان وشرق أوروبا.
أمّا إذا أردنا رواية القصة باختصار، فيمكننا القول أنّ الدولة العثمانية سعت منذ بداياتها للتوسّع غربًا والدخول في القارة الأوروبية. حتى جاء السلطان “مراد الأول” الذي تولّى الخلافة سنة 1360 ونهج نهجًا مدروسًا للغاية في التوسّع لا سيّما مع استغلاله اضعف الامبراطورية البيزنطية شرقيّ أوروبا نتيجة انشغالها في خلافاتها الداخلية بين حكّام البلقان، أي في البوسنة وصربيا ومكدونيا وألبانيا وكوسوفو.
مدة المعركة كانت يومًا واحدًا فقط، انتهت بانتصارٍ تاريخيّ للمسلمين فتح فيما بعد أبواب الهيمنة العثمانية ليس فقط على إقليم كوسوفو الصغير، وإنما على مساحات شاسعة وكبيرة من منطقة البلقان.
شيئًا فشيئًا، استطاع مراد اقتحام بعضِ من حصون البلقان وفتحها، واحتلّ “نيس” ثالث أكبر مدينة في صربيا اليوم، ومنها أجرى صلحًا مع ملك صربيا مقابل دفع الجزية السنوية للدولة العثمانية كما كان متعارفٌ عليه آنذاك. وبهذا، أصبح العثمانيون يسيطرون على العديد من الأراضي والحصون المتاخمة والمجاورة لصربيا وألبانيا وبلغاريا.
لم يرضخ أمراء البلقان للأمر بسهولة. فقام تحالفٌ صليبيٌ مكوّن من جيشيْ صربيا والألبان ضدّ الدولة العثمانية لاستعادة أراضي البلقان، إلّا أنّ مراد الأول كان قد أعدّ جيوشه وجهّزهم لمقابلة التحالف في قلب البلقان، وتحديدًا في سهل كوسوفو أو كما كان يُعرف بالعثمانية باسم “قوصوه”، والذي استمدّ منه لاحقًا المكانُ المحيط به اسمه.
معركة قوصوه، بريشة آدم أسطفانوڤيچ (1870م)
مدة المعركة كانت يومًا واحدًا فقط، انتهت بانتصارٍ تاريخيّ للمسلمين فتح فيما بعد أبواب الهيمنة العثمانية ليس فقط على إقليم كوسوفو الصغير، وإنما على مساحات شاسعة وكبيرة من منطقة البلقان. وعلى الرغم من أنها انتهت بمقتل الملك الصربيّ “لازار”، لكنها في الوقت ذاته انتهت بموت السلطان العثمانيّ الذي قاد جيشه للنصر.
إذ تسرد الروايات التاريخية أنّ مراد الأول كان يتفقّد ساحة القتال قبل أن يباغته جنديّ صربيّ جريح ويطعنه بخنجرٍ يؤدي لاستشهاده في ساحة المعركة بعد انتهائها. وممّا يرويه التاريخ أيضًا، أنّ مراد الأول عاش ما يقارب 65 عامًا، خاض خلالها أكثر من 37 معركةً خرج منها جميعها منتصرًا ومحقّقًا الظفر لجيشه ودولته. جديرٌ بالذكر أنّ مدينة كوسوفو تحتوي بين ذراعيها قبرًا للسلطان مراد الأول يضمّ دمه وأحشائه، فيما نُقل جثمانه إلى مدينة بورصة التركية حيث توجد مقبرة السلاطين الستّة الأوائل من بني عثمان.
ضريح السلطان مراد في كوسوفو حيث دُفنت أحشاؤه قبل نقل جثمانه إلى بورصة
يصف السياسي والحقوقيّ المصريّ الذي تعود أصوله إلى تركيا “محمد فريد” في كتابه “تاريخ الدولة العثمانية“، والذي تتبّع فيه تاريخ الدولة منذ تأسيسها وحتى سقوطها في بداية القرن العشرين، المعركة قائلًا: “وانتشب الْقِتَال بَين الجيشين بِحَالَة يشيب من هولها الْولدَان، دَافع فِي خلاله الصربيون دفاع الأبطال، وَبقيت الْحَرْب بَينهمَا سجالا مُدَّة من الزَّمن تناثرت فِيهَا الرؤوس، وزهقت النُّفُوس، وأخيرا فرّ صهر الْملك لازار الْمَدْعُو فوك برانكوفتش وَمَعَهُ عشرَة آلَاف فَارس والتحق بِجَيْش الْمُسلمين، فدارت الدائرة على الصربيين، وجُرح لازار، وَوَقع أسيرًا فِي أيدي العثمانيين فَقَتَلُوهُ، وبهذه الْوَاقِعَة المهمة الَّتِي بَقِي ذكرها شهيرا فِي أوروبا بأسرها زَالَ اسْتِقْلَال الصرب، كما فقدت البلغار والروملي والأناضول استقلالها من قبلُ، وكما ستفقد اليونان وَغَيرهَا الِاسْتِقْلَال فِيمَا بعد”.
ظلّت شعوب البلقان على دينها باستثناء الألبان والبشناق الذين تحوّلوا إلى الإسلام بالكامل، ولعبوا أدوارًا سياسية وعسكرية مركزية في الدولة العثمانية
وبعد الانتصار في المعركة استطاع العثمانيون إخضاع قبضتهم على البلقان بأكمله ما عدا بلغراد. لاحقًا، سيستمر الحكم العثماني في البلقان لأكثر من خمسة قرون، حتى عام 1912 للميلاد، تركوا آثارهم في تاريخه وثقافته، فيما ظلّت شعوب البلقان معظمها على دينها باستثناء الألبان والبشناق الذين تحوّلوا إلى الإسلام بالكامل، ولعبوا فيما بعد أدوارًا سياسية وعسكرية مهمّة ومركزية في الدولة العثمانية وشاركوا في حروبها وفتوحاتها اللاحقة حتى وصلت جيوشها إلى بلغراد وقامت بفتحها في عهد السلطان سليم القانوني.
روايات على هامش المعركة
مّما يرتبط بهذه المعركة الفاصلة أيضًا، أنّ العلم العثمانيّ أو التركيّ استمدّ لونه الأحمر تيّمنًا بدماء الشهداء التي سقطت جرّاء معركة كوسوفو. إذ يروي محمد حرب في كتابه “العثمانيون في التاريخ والحضارة” أنّ العلم العثمانيّ ارتبط منذ بداية ظهوره بأسطورة شهيرة عن انعكاس القمر على دماء الشهداء التي كانت مثل البحيرة في معركة كوسوفو، فمن هنا جاء اللون الأحمر ومعه الهلال قبل أنْ تُضاف إليه النجمة لاحقًا.
تروي الأسطورة أنّ القمر انعكس على دماء الشهداء التي كانت مثل البحيرة في معركة كوسوفو، ومن هنا استلهم العثمانيون فكرة علمهم
وفي التراث الشعبي الجمعي في لدى الصرب والألبان والأتراك والبلغار واليونان، أصبحت المعركة منذ وقت حدوثها جزءًا من المخيلة الشعبية للأفراد، حيث ظهرت الكثير من الملاحم والأغاني الشعبية التقليدية التي ترتكز حولها وتسرد تفاصيلها. وكان لتحوّل تلك الأساطير والملاحم إلى التراث الغنائي الموسيقي دورًا كبيرًا في الحفاظ عليه والإبقاء على روح المعركة حيًّا حتى بعد مرور أكثر من6 قرونٍ عليها.
السلطان مراد الأول- ثالث السلاطين العثمانيين وقائد جيشهم في معركة كوسوفو
إذ روى الرحّالة التركي “أوليا جلبي” في مذكّرات رحلاته في كوسوفو عام 1622 عن تعلّق شعوب كوسوفو وألبانيا بالملاحم والأشعار والأساطير التي ألّفوها بعد المعركة. أما الملاحم التي أُلّفت بعد الأعوام الأولى من المعركة، فقد اكتسبت بعض العناصر الأسطورية لا سيّما فيما يتعلّق بالسلطان مراد الأول، فاتح كوسوفو. فقد أصبحت تلك الملاحم تركّز على تقواه وحرصه على نشر الإسلام والتضحية بنفسه في سبيل ذلك. ولا عجب فقد أضحت هذه الروايات والأساطير تتعلّق بالدين الجديد الذي اتّبعه سكّان المنطقة، الإسلام.