في الوقت الذي فرضت فيه قضية اختفاء الصحفي السعودي جمال خاشقجي نفسها على موائد اهتمام العالم وأثارت قلق الجميع لما تنطوي عليه من دلالات خطيرة، سواء من حيث الشكل أم المضمون، فضلاً عن تفاصيلها المرعبة، غابت إيران عن المشهد بصورة شبه كاملة رغم كونها أحد خيوط اللعبة وإن كان من بعيد.
ورغم علاقة طهران بأطراف القضية الثلاث، السعودية الخصم التقليدي، وتركيا المتطلعة إلى تعميق العلاقات معها في الآونة الأخيرة، وأمريكا صاحبة العقوبات المفروضة ضدها، فإنها لم تحرك ساكنًا حيال الحادثة التي مر عليها قرابة الأسبوعين، مكتفية بمتابعة الأحداث من بعيد حسبما جاء على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي.
لماذا غابت إيران عن هذه القضية تحديدًا؟ سؤال فرض نفسه على ألسنة المحللين، ورغم أهمية ما يمكن أن يتمخض عن هذه الأزمة من تداعيات قد تصب في النهاية في صالح طهران بالمنطقة لا سيما حال ثبوت إدانة المملكة، المنافس التقليدي لها، فقد اكتفت بالمشاهدة من مقاعد المتفرجين، على عكس الآلة الإعلامية التي تتابع القضية وتطوراتها لحظة بلحظة في مشهد يوحي بأن هناك نية متعمدة لعدم الإدلاء بأي تصريحات مع أو ضد أي طرف من الأطراف الثلاث وترك الإعلام يقوم بالدور البديل.
نشرت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية “إرنا” تقريرًا تحت عنوان “دبلوماسية الخطف والقتل.. خاشقجي ليس الأول بتاريخ السعودية”
الإعلام بديل للمواقف الرسمية
على عكس الموقف الرسمي كان الإعلام الإيراني حاضرًا وبقوة في مشهد الأزمة منذ بدايتها، متجاوزًا بذلك معالجة الموضوع إنسانيًا وحقوقيًا، إلى آفاق أخرى وزوايا إقليمية ودولية منها تداعيات هذا الموضوع على علاقات السعودية بكل من تركيا والولايات المتحدة، فضلاً عن ارتداداته على الأوضاع الداخلية والمستقبل السياسي لولي العهد وفريقه.
وتحت عنوان “دبلوماسية الخطف والقتل.. خاشقجي ليس الأول بتاريخ السعودية“.. نشرت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية “إرنا” تقريرًا أشارت فيه إلى أن “اختطاف الإعلامي السعودي جمال خاشقجي – الذي رجحت تركيا قتله بالقنصلية السعودية – أعاد إلى الأذهان عمليات خطف عديدة طالت معارضين سعوديين بارزين خارج المملكة بينهم أمراء من الأسرة الحاكمة، حيث أعيدوا إلى الرياض ليدفعوا ثمن انتقاد سياسة بلادهم”.
الوكالة ذاتها نقلت عن الخبير الأمني العراقي والمستشار السابق في رئاسة الجمهورية الفريق الركن وفيق السامرائي، أن قضية اختفاء خاشقجي، أسقطت ما يوصف بالاعتدال السعودي دفعة واحدة، وستقوي حجة من يقول أن منبع الإرهاب الأول سعودي ولا يرتبط بدعاة فقط، وذلك من خلال تقرير عنونت له بـ”قضية خاشقجي ستفاقم مشاكل السعودية وتزيد عزلتها“.
التقرير نقل عن الخبير الأمني قوله: “قضية خاشقجي ستصعف حجج السعودية في حرب اليمن وتقيد ضرباتها الجوية، وتعيد إثارة عمليات استهداف التجمعات والمواقع المدنية، وتجبرها على التراجع أو الفشل وتُخضِعها للحساب، وكذلك فإن الدور السعودي سيحجم في لبنان”، مؤكدًا أن حادثة اختفاء الخاشقجي تعيد إلى الذاكرة ما نشر عما وصف باحتجاز الحريري.
من المحتمل أن تزداد قوة إيران على وقع الإجراءات التعسفية لعدوها ومنافسها الكبير السعودية إن ثبت تورط الأخيرة وفق ما تذهب إليه المؤشرات حتى الآن
أما صحيفة “كيهان” المقربة من دوائر صنع القرار في إيران فكشفت أن “ما حدث للنظام السعودي خلال الأسبوعين الأخيرين من فضيحة مدوية ممزوجة بقتل مروع وسفك بدم بارد يمكن تصنيفه الأبشع في عصرنا الحديث، أمر قلب المعادلات على رؤوس آل سعود الذين شكلوا صورة مزيفة لهم طيلة العقود الأخيرة على أنهم خدمة الحرمين الشريفين وقادة العالم الإسلامي”.
وفي افتتاحية لها بعنوان “مقتل خاشقجي.. مأزق جديد للسعودية” أشارت إلى أن “جمال خاشقجي قتل بعد انتقاده لقتل الأطفال اليمنيين، بينما لا المعارضة ولا مقتله لن يغيرا من الواقع الميداني في اليمن شيئًا، لأن هذه الحرب تحولت إلى كابوس للسعودية، فمشكلة الرياض وأبو ظبي أن حماتهم في هذه الحرب توصلوا إلى قناعة بعدم إمكانية الانتصار، لذلك بعد الهزيمة النكراء للعملية الغربية العربية للسيطرة على الحديدة لا يمر يوم إلا وشخصية أو مؤسسة غربية تقر بالفشل السعودي”.
فيما نقلت “وكالة نادي المراسلين الشباب للأنباء” عن مساعد رئيس البرلمان الإيراني للشؤون الدولية حسين أمير عبد اللهيان قوله إنه لا يستبعد أن تكون السعودية اغتالت الصحفي جمال خاشقجي، مضيفًا “أعتقد أن السعودية التي قتلت الآلاف في الشهور الماضية من المدنيين والنساء والأطفال في اليمن، لا يستغرب أن تعامل معارضيها ومنتقديها بذات الطريقة”.
الضجة التي أثارتها القضية منذ بدايتها تخفف من وطأة ضغوط واشنطن السياسية والإعلامية على إيران ولو بشكل مؤقت
كما استعرض المصدر ذاته ملامح خطة تسوية القضية، حيث أشار في تقرير له إلى أنه “عندما يعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن عناصر غير منضبطة قد تكون وراء قتل الصحافي خاشقجي بالقنصلية السعودية في إسطنبول، وأن العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز أكد له، وبشكل حازم، أن يكون على علم بأي شيء، فهذا يعني أن البحث عن كبش فداء لإلصاق الجريمة به، قد بدأ، وأن صفقة ثلاثية أمريكية تركية سعودية جرى التوصل إليها لإغلاق هذا الملف وربما إلى الأبد”.
وبجانب الإعلام كان لبعض المؤسسات الإعلامية الإيرانية – غير الرسمية – موقف من القضية، إذ أصدرت رابطة الصحفيين في طهران بيانًا على خلفية اختفاء خاشقجي، مطالبة الدول كافة ببذل الجهود لحماية أمن الإعلاميين وأصحاب وكالات الأنباء، معربة عن أملها “أن يكون الصحفي السعودي، وبغض النظر عن آرائه السياسية والاجتماعية، على قيد الحياة وبصحة جيدة رغم أن هذا الأمل يبدو بمرور الوقت معدومًا” على حد تعبير البيان.
وأكدت الرابطة على جميع البلدان التي تضطلع بدور مباشر في هذا الخصوص، أن تزود المجتمع الدولي بمعلومات دقيقة عن مصير خاشقجي، مدينة الممارسات كافة التي تستهدف الصحفيين، مؤكدًا أنه لا يمكن مواصلة الأنشطة الصحفية دون توفير الأمان للصحفيين؛ بما يلزم جميع البلدان أن تبذل جهودها بهدف حماية الإعلاميين في أنحاء العالم.
لماذا غابت إيران؟
إذا أردت أن تعرف موقع أي دولة من قضية ما فعليك أولاً بالنظر إلى قائمة المستفيدين، وإن كانت إيران ليست في الواجهة بالنسبة لأزمة اختفاء خاشقجي غير أن موقعها يتحدد بناء على ما يمكن أن تستفيده من تداعياتها، إذ من المحتمل أن تزداد قوتها على وقع الإجراءات التعسفية لعدوها ومنافسها الكبير السعودية إن ثبت تورطه وفق ما تذهب إليه المؤشرات حتى الآن.
يعلم الإيرانيون جيدًا أن لهذه الأزمة تداعيات سلبية على صورة المملكة في الخارج، ما يعزز مكانتهم الإقليمية بالطبع، وكان بإمكانهم استغلالها إعلاميًا وصب المزيد من الوقود على النار المشتعلة ضد خصمها التاريخي، غير أن الدبلوماسية التي تنتهجها دفعتها للتريث قبل أن تقحم نفسها كطرف في الأزمة، خاصة أن علاقاتها تتشابك إيجابًا أو سلبًا مع أطراف القضية الثلاث.
إيران بموقفها الحاليّ إن لم تحقق تقدمًا ملحوظًا في نفوذها الإقليمي على حساب السعودية حال ثبوت الإدانة وفرض عقوبات أو ملاحقات دولية على النظام الحاكم في المملكة، وهو ما يتمناه الإيرانيون بلا شك
تراجع طهران عن اتخاذ موقف رسمي حيال أزمة خاشقجي يبعدها رويدًا عن الأضواء المسلطة عليها منذ فترة، ومن ثم فإن الضجة التي أثارتها القضية منذ بدايتها تخفف من وطأة ضغوط واشنطن السياسية والإعلامية على إيران ولو بشكل مؤقت، كما أنه يفترض أن ترتد سلبًا على جهود اللوبي السعودي في الولايات المتحدة الأمريكية، التي تركزت على إثارة الملف الإيراني بشكل لافت خلال العام الأخير بعد مجيء ترامب إلى السلطة.
من مصلحة إيران أن تستمر هذه الأزمة لسنوات وسنوات، تخضع فيها الرياض لمزيد من الضغوط السياسية والاقتصادية من قوى الغرب، ما ينعكس سلبًا على قدراتها وثقلها الإقليمي، فضلاً عن اهتزاز صورة النظام الداخلي لدى الشارع السعودي، كل هذه الأمور ستنعكس ايجابًا على الموقف الإيراني وصورته، ومن ثم تعزيز قدراته على حساب منافسه التقليدي.
سيناريو لوكيربي هو السيناريو الأمثل الذي يتمناه الإيرانيون مع السعودية، إذ إنه سيضع مستقبل النظام الحاليّ تحت مقصلة الابتزاز، ومن ثم سيكون له ارتدادات على موقف الرياض في اليمن وسوريا ونفوذها في لبنان والعراق، هذا بخلاف تخفيف الضغط نسبيًا على الشيعة المقيمين داخل المملكة.
لا شك أن التلويح بتحسين العلاقات مع إيران كورقة ضغط سعودية تم إثارتها في مقال تركي الدخيل، المقرب من ولي العهد، خلال مقال له على موقع “العربية” كان أحد الأسباب وراء تجنب طهران الزج بنفسها في الأزمة بصورة رسمية، فإيران ورغم كل ما يثار من تحرش بينها وبين السعودية تتجنب الدخول في صدامات جديدة، خاصة في ظل الضغوط المفروضة عليها.
قضية خاشقجي بلا شك أساءت لصورة خصم طهران في المحافل الدولية، مفندة ما كان يُتشدق به حول الرؤية الإصلاحية التي يتبناها ولي العهد
ورغم علم الإيرانيين جيدًا أن تصريح الدخيل لا يعدو كونه دعاية وضغط على الجانب الأمريكي من المستبعد أن يترجم على أرض الواقع، فإنهم ارتأوا لأنفسهم ألا يكونوا طرفًا في الأزمة، عبر تبني موقف مع أو ضد، في محاولة للحفاظ على شعرة معاوية حتى مع حلفاء السعودية الذين هم حلفاء إيران في نفس الوقت وعلى رأسهم الإمارات العربية المتحدة.
التسوية قادمة بين الأمريكان والسعوديين، هكذا تقتنع طهران بصورة أو بأخرى، وهو ما اتضح من خلال معالجة الإعلام الرسمي لزيارة وزير الخارجية الأمريكي للرياض والمئة مليون دولار التي وضعت في حسابات أمريكية تزامنًا مع الزيارة، ولعل هذا ما يفسر موقفها الحاليّ، الذي ينتهج سياسة مسك العصا من المنتصف، فرغم غياب الموقف الرسمي الذي قد يكون له تبعات سلبية مستقبلاً، فإن الإعلام يقوم بدوره على أكمل وجه، متابعة دورية وتفاعل مع التطورات لحظة بلحظة بصورة تعكس النوايا الحقيقية لطهران الرسمية بشأن تمني التشفي في خصمها اللدود.
وفي المجمل فإن إيران بموقفها الحالي إن لم تحقق تقدمًا ملحوظًا في نفوذها الإقليمي على حساب السعودية حال ثبوت الإدانة وفرض عقوبات أو ملاحقات دولية على النظام الحاكم في المملكة، وهو ما يتمناه الإيرانيون بلا شك، فإنها لن تخسر شيئًا حال الوصول إلى تسوية فعلية، إذ إن الأزمة بتفاصيلها ساهمت بشكل أو بآخر في تخفيف الضغط عليها ولو مؤقتًا، فضلاً عما أساءت لصورة خصمها في المحافل الدولية مفندة ما كان يتشدق به بشأن الرؤية الإصلاحية التي يتبناها ولي العهد.