منذ أن سرق بروميثيوس النّار من مجتمع الآلهة، وهي في حالة استعارة متبادلةٍ مع فكرة الإنسان عن الحقيقةِ. ذلك أنّ الأولى تشحذ حواسّ المرءِ وتستفزّها. وبلسعتها، ودخانها ووهجها و فحيحها، تُدْرَكُ حتّى الألمِ وحتّى يستحيل تجاهُلها. وكذلك الحقيقةُ.
ويبدو أنّ تشانغدونغ لي Chang-dong Lee كان مدركا لهذه الدّيناميكيّة حين أنجز فيلمه الأخير “حارق” Beoning، فمشى على حافّتها بمهارة محيّرةٍ.
لمن لا يعرفُ الرّجلَ، فـتشانغدونغ لي من أهمّ المخرجين الكوريّين، وسبق أن حصل على جوائز في كانّ Cannes وفي البندقيّة عن فيلمي الشِّعر Poetry وأشعّة الشمس السرّيّة Secret Sunshine، وهو الفيلم الكوريُّ الوحيد الّذي تقترحُه مجموعةُ كرايتيريون Criterion Collection المرموقةُ للأفلام الكلاسيكيّة والمعاصرة.
وفي فيلم “حارق” Beoning (والأصل هي الكلمة الإنكليزية Burning لكن هكذا ينطقها الإخوة الكوريّون)، يواصلُ لِي عملَه على سينما الواقعية السحريّة أو الواقعيّة الشِّعريّة، لكنَّه يضيفُ إليها بهارات الإثارة Thriller بحرفيّةٍ أدارت إليها الرّقاب في مهرجان كانّ Cannes الأخير. فسادَ الاعتقادُ في الكواليسِ بأنّه المرشّح الأول للسّعفة الذهبية، لكنّ اللجنة كانت قد فضّلت فيلم يابانيّا.
يتأسّس الفيلمُ على ثنائيّاتٍ عديدةٍ متقابلةٍ ومتناقضةٍ
من الصّعب تقديم الفيلمِ بقصّته. فالأحداثُ فيها ملتبسةٌ تتسرّبُ من بين أصابعِ الإدراكِ. وهو ما سأطرحُه لاحقا. يصوّرُ ظاهرُ القصّةِ بعضًا من حياة جونغسو Jong-Su، ابن الفلاّح السّجينِ، الّذي يريد أن يصبحَ كاتبا. إذ يلتقي الفتى بصديقة الطّفولةِ هَايْمِي Hae-Mi فتتوطّدُ علاقتُهما قبيلَ سفرها المفاجئ إلى إفريقيا. لكنّها تعودُ رفقةَ بِينْ Ben الكوريِّ الثريِّ دون أن توضِّح علاقتهما، وتبدأ قصّةٌ ثلاثيةٌ مُرْبِكةٌ وضبابيّةٌ، يتأرجحُ فيها المشهدُ بين عالَمِ بِينْ المُترَفِ العجائبيّ وبين عالمِ جونغسو الرّيفيِّ البائس عند الحدودِ الكوريّة الشمالية. ثمّ، مع اختفاءِ إحدى الشّخصيّاتِ المفاجئ، يأخذُ (المشهد) طابعَ الغموض والإثارةِ، وينتهي بشكلٍ عنيفٍ ومباغتٍ لا أرغبُ في كشفِ تفاصيله. لكنّ ظاهر القصّةِ لا يشتركُ في الكثير مع باطنها، بل إنّ هذا الظاهرَ العالقَ بقشرةِ الأحداثِ لا يكفي لفهمها (القصّة)، وإنّما نحن بحاجةٍ إلى الكثير من المجازِ والتّأويلِ للعثورِ على الحقيقةِ.
يتأسّس الفيلمُ على ثنائيّاتٍ عديدةٍ متقابلةٍ ومتناقضةٍ. وأهمُّها ولا شكَّ، شخصيّتا بِينْ وجونغسو. فعدا التّقابل بين الاسم الانكليزيّ والاسم الكوريِّ، ينتمي الأوّلُ بكلِّ شكلٍ إلى ضواحي العاصمةِ الأكثر دَعةً، وينتمي الثّاني إلى إحدى القرى الحدوديّةِ التّابعة لمدينة باجو Paju، حيثُ لا تنقطعُ مكبّرات الصوتِ الكوريّة الشماليّة عن ترديد خطب البروباغندا الاستفزازيّةِ. يعيشُ الأوّلُ في منزلٍ أنيقٍ تنبعث فيه الموسيقى مداعبةً داعيةً إلى الحياة، ويعيشُ الثاني في منزل ريفيٍّ تتكدّس أغراضُه في مللٍ وقنوطٍ. يستعملُ هذا شاحنةَ أبيهِ الفلاحيّة الصدئة، ويتسلّى ذاك بسيّارة بورشه Porsche يتمنّى غيرُه أن يراها عن قرب لا أكثر. طبقتان اجتماعيّتان شديدتا التباينِ، تتقاسمان مساحة الوطن، ولا تتقاسمان الحياة فيه. لا يمكنُ اعتبار جونغسو من طبقة فقيرة، وإنّما من طبقة الّذين فشلوا أن يكونوا في الأعلى. يعاني من البطالة الّتي أصبحت مشكلا مخيفا في البلادِ، في حين غيّر غريمُه من مفهوم العملِ والمتعةِ فصار عاطلاً باختياره لا معطَّلاً. يمتدُّ التَّرفُ إلى رؤية العالمِ، وأسلوب الحياةِ. فلا يطبخُ لحاجةٍ “حقيقيّةٍ” له كما يفعلُ بطلُنا، وإنّما ليمنحَ ذاتَه المؤلّهةَ قربانًا يليق بالمقام. وفي إحدى الانتقالات العبقريّةِ من لقطة إلى أخرى Transition، قابل المخرجُ بين حفلات سيول الصّاخبة بيئةُ بِينْ الطبيعيّة، وبين حفلة الغناءِ الفرديِّ الّتي يمارسُها جونغسو أثناء الاعتناء ببقرته. وأخيرا، فإنّ هايمي تبدو عند بينْ تسليةً مؤقّتةً يسهلُ استبدالها بينما هيَ الحبُّ الكبيرُ عندَ جونغسو وهي البدايةُ والنهاية.
إنّها أيضا نقطةُ التقائهما، فقد تعارفا من خلالها، وما كان عالماهما ليجتمعا لولا طبيعةُ شخصيّتها الاستثنائيِّة. لقد سمحتْ لها أصولها الرّيفيّةُ بأن تعرفَ جونغسو منذ الطفولة، وسمح لها سفرُها المُكلفُ أن تختلط بأثرياءٍ من أمثال بين. تمشي هايمي بين العالمين بمنتهى الغموضِ والتّلاعبِ. تدعو هذا لاستقبالها في المطار، وتطلب من ذاك مرافقتها إلى المنزل. لا تحدّدُ طبيعة علاقاتها، ولا تجزم القول في شيء تقريبا. هل قال لها في صباه أنّها دميمة؟ وهل سقطتْ في طفولتِها في البئرِ فأنقذها؟ لقد حاول جونغسو أن يتبيّنَ فخابَ وظلَّ الأمرُ يحتملُ الأمرَ ونقيضه. لا يمكن تصديق كلامها، ولا يمكن تجاهلهُ. ولقد تعاظم الغموض حتّى بلغ ذروته مع الاختفاء المفاجئ. إلى الحدِّ الّذي يجعل المرءَ يتساءل إن كان الاختفاءُ نفسه حقيقيّا.
تملكُ شين هايمي ميزةً ثالثةً كشخصيّةٍ محوريّةٍِ بين طرفيْ نقيضٍ. فلا تكتفي بأن تمثِّل غموضَ الحقيقةِ ورحلةَ البحثِ عنها، بل تمنحُ أيضا مفتاحَ العثورِ عليها.
إذا كان الشّابّانِ يمثّلان رؤيتين متناقضتين لكوريا، فإنَّ هايمي تمثِّل رؤيةً أكثر تعقيدا وضبابيّةً. إنّها تمثّلُ طبيعةَ الحقيقةِ المُتَمنّعةِ. ومن المدهشِ أنّها في الآنِ ذاتِه الشخصيّةُ الوحيدةُ الّتي تعلنُ البحثَ عن الحقيقةِ هدفًا صريحا. بل لعلّه الشيءُ الثابتُ الوحيدُ بخصوصها. تسافرُ إلى مجاهل الصحراءِ الإفريقيةِ بحثا عن الامتلاءِ، أو بحثا عن الانتماء إلى مجازٍ يعبّر عن جوعها. فهناك في عالمِ قبائل البُوشْمِنْ Bushmen بين بوتسوانا وجنوب إفريقيا، يسمّى الجوعُ إلى الطّعامِ الجوعَ الصّغيرَ ويخصّصُ الجوعُ الكبير Great Hunger للحاجةِ المضنيةِ للحقيقةِ. إنّ هايمي بشكل ما، تشبهنا نحن المتفرّجين. فبسيرِها على حدودِ العالميْنِ، تعبِّر عن جوعِها الكبيرِ لمعرفةِ حقيقتِها وحقيقةِ انتمائها. ونحنُ أيضا نحاول تبيُّن الحقيقةِ الموضوعيّةِ لأحداثِ القصَّةِ من بين ركامِ الذّاتيّةِ الّتي تفرِضُها أو تفترضُها غرابةُ ما يحصلُ (هل تملكُ قطّا؟ ماذا يفعلُ حوضُ القططِ عندها؟ وماذا تفعلُ فيه فضلاتُ القطط؟). عَكْسَ كلِّ شيءٍ متراقصٍ في حياتها، يسبّب الجوعُ إلى الحقيقةِ ألمًا عميقا في صدرها، فتعبّر عنه برقصاتها البديعةِ، ومنها ذلك المشهد الأيقونيُّ الّذي رقصت فيه على أنغام مايلز دايفس Miles Davis بشكلٍ لن يفارق ذاكرتي. من المدهش أنّ هذه هي التجربة التّمثيلية الأولى لـجونغسيو دجون Jong-seo Jeon لأنّ حضورها يملأ الصّورةَ، وعيناها تعبّران عن راحةٍ تامّة في التّعامل مع البيئة التصويريّةِ.
تملكُ شين هايمي ميزةً ثالثةً كشخصيّةٍ محوريّةٍِ بين طرفيْ نقيضٍ. فلا تكتفي بأن تمثِّل غموضَ الحقيقةِ ورحلةَ البحثِ عنها، بل تمنحُ أيضا مفتاحَ العثورِ عليها.
ينبغي العودةُ إلى السّهرة الأولى الّتي جمعتها بـجونغسو. إذ نراها تقطف الهواء بيدها، وتحاكي تقشير اليوسفيّ (المندلينة) ثمّ تعبُّ الهواء كأنّها تأكل منها. تقولُ للشّاب المندهشِ أمامها، تلك الحكمةَ الّتي سوف تظلُّ تتردّدُ طوال الفيلم: لكيْ ترى الثّمرة، يجبُ أن تنسى أنّها غيرُ موجودةٍ.
وكان على جونغسو أن يستعمل ذات المنطقِ كي يتعاملَ مع قطِّها الّذي كُلِّفَ بالعنايةِ به طوال غيابها في صحراء كالاهاري. ومع حادثةِ الاختفاءِ، كان ضروريًّا أن نسترجِعَ هذه الحكمةَ. هل يجب أن ننسى عدم وجودها حتّى نراها؟ لكنّنا لا نراها بالفعل، فهل كنّا نراها لأنّنا نسينا لوهلةٍ أنّها غير موجودةٍ؟ لم يفكّر جونغسو في هذا الاحتمالِ المخيفِ الّذي قد يعني جنونه، وهو مع ذلك قد تعاملَ مع شيء مماثلٍ حين كان يحاولُ الإمساك بالقطِّ الهاربِ من شقّةِ بين. كيف فكّرَ أنّه يحملُ اسمَ قطِّ هايمي الوهميِّ؟ هل نسيَ أخيرا عدمَ وجودهِ؟
يربكنا المنطقُ، ويربكُنا أكثر إصرارُ المخرجِ لي على تقنية التّذكير المستعملة عادةً في الأعمال التشكيليّةِ التّجريديّة. تؤوَّلُ فكرةُ التّذكير بعنصر أو تفصيل في سياقات مختلفةٍ، على أنّ هناك معنًى خفيّا يسوَّقُ. لكنّها في متاهة البحثِ عن الحقيقةِ قد تتحوَّل إلى مجرَّد حركات استيطيقيّة لا غير، أو عمليّةُ تمويهٍ للتأكيد على طبيعةِ الحقيقةِ الغامضةِ. إلى ما يرمزُ شعاعُ الشّمسِ الّذي في لحظاتِ النّشوةِ القصيرةِ؟ ولماذا اقترنَ ببحث جونغسو عن الانتشاءِ بمفردِه (في غيابِ حبيبته)؟ وإلى ما يرمزُ غيابُ القطِّ في شقّةِ هايمي وحضورُه قربَ منزل بين بُعَيْدَ الاختفاءِ؟ وماذا عن تكرّر فكرة الاحتراقِ؟ ما الجامعُ بين حرقِ ملابسِ أمِّه الغائبةِ بلا رجعةٍ، وبين حرقِ البيوتِ المكيَّفةِ الّتي يمارسُها بين على سبيل تزجية الوقتِ؟ هل من حقيقةٍ وسط كلِّ هذا؟
يمنحنا لي بفيلمِ “حارق” Beoning لحظاتٍ مربكة وبسيطةً، قد لا نظفر منها بمعنًى وقد نظفر منها بالكثير من المعاني، وفي الحالتين، سنظفر بالكثير من المشاعرِ والكثير من الجمال “الحارقِ”
لا أعتقدُ ذلكَ واسمحوا لي بحرق الأحداثِ (أو لكم أن تنتقلوا إلى الخاتمةِ). يقولُ ظاهرُ الأمرِ بحدوثِ الجريمةِ. فالتّطابق بين اختفاءِ هايمي وإقدامِ بين على حرقِ بيت مكيّفةٍ يشجّع على هكذا استنتاجٍ. أضف إلى ذلك عبارته المستفزَّة عن تبخُّرها، واستبداله إيّاها بفتاة أخرى، وحديثه المخيفَ عن تعاليه عن ثنائيّةِ الخير والشرّ، لتسيطرَ علينا القراءةُ المباشرةُ.
لكنَّها قراءةٌ تتجاهلُ عناصرَ كثيرةٍ أخرى، أطنبَ المخرجُ في زرعها في المَشاهدِ. إنّ الوضعَ قابلٌ لتأويلاتٍ ربّما أشدُّها منطقيّةً أشدُّها غرابةً.
لو أخذنا بحكمةِ هايمي، فهي لم تعُد تُرى لأنّ جونغسو تذكّر أنّها غير موجودةٍ. حين استفاق من غفوته، وبدأ رحلة البحثِ عنها، اكتشفَ أنّ كلَّ أولئك الّذين يعرفونها لم يروها منذ مدّة، كأنَّ ما عاشه جونغسو معها، أضغاثُ أحلامٍ، وألعابُ لاوعيٍ.
في سهرةِ العودةِ من إفريقيا، وصفتْ هايمي ما سيحدثُ بدقّة بالغة. تحدّثت عن مشهدِ الغروب ورغبتها العارمة في الاختفاء كأنّما لم تكن. ثمَّ كان اختفاؤها بعدَ مشهد رقصتها عند الغروب.
تتزامنُ عودةُ هايمي إلى حياتهِ، بعودةِ أمّه أيضا. أوّلا عبر الاتّصالات الهاتفيّة المجهولةِ، ثمَّ بالتّصريح، فاللّقاءِ الّذي لا يحدثُ إلاّ باختفائها. لا يمكن تجاهل العلاقةِ بين حياةِ البطلِ العائليّةِ وقصته مع هايمي وبين. لقد أرغمه أبوه في صباه على حرق أغراضِ أمّه الهاربة، تلك الأغراض الّتي تمثّل كلَّ ما بقي له منها. واليومَ يلتقي بشخصٍ مولعٍ بحرق البيوت المكيّفةِ وقد يكونُ وراءَ اختفاءِ حبيبتهِ. إنّ العلاقة الأوديبيّة واضحةٌ، وهو ما يعطي لفعل الحرقِ منطقا مناسبا.
هل كانت هايمي حقيقيّةً؟ هل اختفت بإرادتها أم قتلها بين؟ لا تبدو الحقيقةُ حاسمةً في هذه المسائلِ، ولكنَّ جونغسو يعرفُ ماهو حقيقيٌّ. إنّها المشاعرُ الحارقةُ الّتي تتولّدُ داخله، إما بفضل الحبِّ، وإما بسبب الغيرةِ، أو الغضب والرغبة في الانتقامِ، أو ربّما الحقدِ الطبقيِّ، أو الجوعِ الكبيرِ لمعرفةِ الحقيقةِ. إنّ ماهو حقيقيٌّ هو ذلك المسار الطويلُ نحو الاختفاء، وهو ألمُ احتمالها، وهو النسيانُ الحارقُ لعدم وجودها.
يمنحنا لي بفيلمِ “حارق” Beoning لحظاتٍ مربكة وبسيطةً، قد لا نظفر منها بمعنًى وقد نظفر منها بالكثير من المعاني، وفي الحالتين، سنظفر بالكثير من المشاعرِ والكثير من الجمال “الحارقِ”.