في يونيو/حزيران الماضي، التقى رئيس النظام السوري، بشار الأسد، وزير الخارجية الإيراني، علي باقري، وبحث معه “العلاقات الثنائية” بين دمشق وطهران، وآخر التطورات في الأراضي الفلسطينية.
وفي اللقاء نفسه قال بشار الأسد إن “المقاومة ضد الاحتلال بكل أشكاله ستبقى مبدأ أساسيًا وخيارًا استراتيجيًا باعتبارها النهج الصحيح في مواجهة الأعداء، خاصة أن التساهل معهم سيزيد من اعتدائهم ووحشيتهم”، بينما أكد باقري أن العلاقة بين إيران وسوريا “ستبقى عميقة واستراتيجية”.
كانت هذه التصريحات قبل نحو شهر من ارتفاع وتيرة المواجهات في جبهة جنوب لبنان وضاحية بيروت الجنوبية وشمال إسرائيل، التي بدأ فتيلُها بصاروخ أصاب معلب كرة قدم في مجدل شمس بالجولان السوري المحتل، وأعقبها اغتيال رئيس هيئة الأركان في “حزب الله”، فؤاد شكر، وما تبعه من تطورات وصلت إلى حد إعلان تل أبيب الحرب في الجبهة الشمالية، واغتيال زعيم “حزب الله” حسن نصر الله.
“الأب الإقليمي” لمحور إيران
غير أن الواقع اليوم قد يجعل بشار الأسد يراجع حساباته كثيرًا، ويفرض تساؤلات إن كان سيحافظ على نسق “التنسيق” نفسه، أو إن نظامه سيدخل مرحلة التغييرات الجذرية، مع بدء “إسرائيل” مرحلة عنوانها الظاهري “اجتثاث حزب الله”، وعنوانها البعيد “كسر عظم” إيران في المنطقة.
قبل أيام، أعلن الجيش الإسرائيلي إطلاق حصار عسكري بري وبحري وجوي على لبنان، من أجل تجفيف موارد الدعم والتسليح عن “حزب الله”، وفور إعلان هذا الإجراء باشرت طائرات إسرائيلية في اليوم نفسه موجة قصف غير مسبوق من الحدود السورية العراقية شرقًا، إلى ريف دمشق والحدود اللبنانية السورية جنوبًا، في تفسير عمليّ لمفهوم الحصار العسكري، في ظل وجود دولة واحدة تتقاسم الحدود البرية مع لبنان، وهي سوريا.
ويبدو من خلال موجات القصف في سوريا، والتي أعقبت خبر إعلان الحصار العسكري على لبنان، أن “إسرائيل” ليست غايتها فقط إغلاق المنافذ البرية السورية عن “حزب الله”، إنما ملاحقة جميع الأهداف والفصائل المرتبطة بإيران في الأراضي السورية، بعد 13 عامًا من صمت تل أبيب المُطبق عن تمدّد تلك الفصائل الولائية هناك.
وإذا كان القصف والغارات وإمكانية التدخّل البري واقعةً في لبنان حاليًا، فتشير توقّعات المحللين والخبراء إلى أن سوريا ستشكل جبهة ثانية موازية، تريد منها “إسرائيل” تحييد أي خطر يمكن أن يأتيها من هناك، لا سيما أنها حسمت أمرها لتحقيق هدف إنشاء المنطقة العازلة داخل الأراضي اللبنانية، وإعادة احتلال جنوب لبنان، في عودة لمشهد ما قبل مايو/أيار عام 2000.
ويتزامن الحراك الإسرائيلي غير المسبوق في سوريا، مع دعوات تطالب الجيش الإسرائيلي بالتركيز أكثر على الجبهة السورية، باعتبار أنها “الملعب القاتل” لإيران، وفق توصيف صحيفة معاريف العبرية.
ونشرت صحيفة “معاريف” مقالًا، يوضح فيه الكاتب أن الجبهة السورية ينبغي أن تصبح صاحبة الاهتمام الأكبر، في ظل الخسائر غير المسبوقة التي مُني بها “حزب الله” في لبنان، وقتل الصف الأول والثاني من قادته، مشيرة إلى أن “إخراج إيران بالقوة من سوريا”، بات يشكّل اليوم خطابًا رئيسيًا يدور في وسائل الإعلام الإسرائيلية، باعتبار أن سوريا أصبحت اليوم “الأب الإقليمي” لمحور إيران في الشرق الأوسط، أو ما يمكن تسميته بـ”محور فيلادلفيا الشمالي”.
ويشير مصطلح “محور فيلادلفيا الشمالي” إلى مخاوف إسرائيلية جدّية، من أن إضعاف قدرات “حزب الله” أو القضاء عليه لا تُعد خطوة كافية لضمان أمن “إسرائيل”، ما دامت البوابة السورية موجودة، وما دامت سوريا لا تزال “مستودعًا للنفوذ الإيراني”، وفق توصيف “معاريف” في المقال نفسه.
وخلال سنوات الحرب في سوريا، طالما فضلت “إسرائيل” ما يمكن تسميته بنموذج “الأسد الضعيف”، غير أن حالة الضعف التي وصل إليها الأسد أصبحت اليوم مشكلة حقيقية، في ظل انشغال روسيا بشكل شبه كلّي بحربها في أوكرانيا، ووجود إمكانية كبيرة بأن تكون إيران صاحبة التأثير الأضخم على قرار دمشق.
صحيفة معاريف نفسها وصفت سوريا أيضًا بأنها أصبحت “كعب أخيل” لمحور المقاومة، وذلك بسبب مركزيتها في الخطط الإيرانية، وهذا ما أكده كذلك موقع i24NEWS العبري، الذي نقل عن مصادره أن إيران نقلت آلاف المقاتلين إلى المناطق الحدودية مع سوريا ولبنان، وأنه خلال الشهرين الماضيين، غادر عدة آلاف من المقاتلين من العراق إلى سوريا، ما يعني أن طهران تستعد لتعزيز قوة الردع لديها.
وأضاف الموقع نفسه، أن الحلفاء في سوريا والعراق سيصبحون قنوات رئيسية لنقل موارد “حزب الله”، إضافة إلى أن العديد من قادة الحزب الميدانيين، تم نقلهم بالفعل مع عائلاتهم، من لبنان إلى سوريا.
انفصال عن الواقع
في وسط هذه المعمعة، والأجواء التي لا تختلف عن أجواء حرب شاملة في المنطقة تؤسس لخرائط وتحالفات وموازين قوى جديدة، يبدو بشار الأسد في صورة “المنفصل عن الواقع” تمامًا، غير مدرك أو غير آبه بالمشهد الحالي، أو أنه يدركه جيدًا لكنه لا يمتلك رفاهية الخيارات واللعب في الوقت بدل الضائع.
بينما كان آخر نشاط للأسد هو الاجتماع مع الحكومة الجديدة في 24 سبتمبر/أيلول الماضي، تواصل الطائرات الإسرائيلية شنّ غارات شبه يومية في كامل أنحاء الخريطة السورية، لا سيما في أطراف دمشق وفي قلبها أيضًا، وقد تكون برقيته التي أرسلها بعد اغتيال حسن نصر الله، تلخّص بشكل واضح كيف أن بشار الأسد لم يعد ملتزمًا بالتصريحات التي قالها أمام باقري، قبل ثلاثة شهور.
كانت رسالة التعزية أشبه ببيان حزبي بحت، أو بتضامن وارد من دولة تبعد عن لبنان آلاف الكيلومترات، ذكر فيها بشار الأسد أن المقاومة “لا تضعُفُ باستشهاد قائدها”، وأكد: “نحن على يقين بأن المقاومة الوطنية اللبنانية ستُكمل طريق النضال والحق في وجه الاحتلال، وستبقى الكتفَ الذي يسنُد الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل قضيته العادلة”.
يشير المناخ العام في النظام السوري إلى أن بشار الأسد حسم قراره باتخاذ موقف حيادي تام إزاء ما يجري، بما فيه الحياد العسكري عن الرد على الاستهدافات العسكرية لمواقعه المتداخلة مع مواقع “حزب الله” وإيران.
الخيارات المُرّة
ذكر تقرير سابق في موقع “نون بوست”، أن الضربات الإسرائيلية الحالية في الأراضي السورية، قد لا تؤثّر بشكل مباشر على نظام الأسد، باستثناء سقوط قتلى بأعداد كبيرة في قواته المنتشرة قرب مواقع “حزب الله” أو الفصائل الإيرانية الأخرى، لكن الثابت أن بشار الأسد سيكون في المرحلة القادمة أمام خيارات صعبة، في حال قررت “إسرائيل” توسيع عملياتها الجوية والبرية داخل الأراضي السورية، ولن يتمكن من مواصلة دفن رأسه بالتراب إلى النهاية.
إذ سيكون من الصعب على الأسد تلبية شروط ومتطلبات طرفين، ستكون الساحة السورية خلال وقت قريب مسرحًا كبيرًا لتصفية الحسابات بينهما، حيث تعتبر إيران مناطق نفوذها في سوريا تحدّيًا استراتيجيًا نوعيًا، في حال فقدته فلن يعود بإمكانها إنشاء مشروع “الهلال الشيعي” الذي حققته في العام 2017، وفي سبيل الحفاظ عليه ستعمل على تكثيف عمليات نقل المقاتلين من المعابر البرية العراقية، وستعمل كذلك على إعادة انتشار فصائلها في مواقع جديدة، ودمجها بالقوات السورية النظامية، كي تبدو الهجمات الإسرائيلية نوعًا من الحرب المفتوحة ضد النظام السوري تحديدًا، وليس تجاه فصائلها وأذرعها.
أثمان وتداعيات.. كيف أضعف التدخل في سوريا قدرة “حزب الله” على مواجهة “إسرائيل”؟
وفي الوقت نفسه، لن تكتفي “إسرائيل” بالموقف الحيادي من بشار الأسد، ولن تكون الضربات الجوية المحدودة والمتقطّعة كافية لفصل الارتباط بين قوات الأسد وإيران، ويرجّح أن تطلب تل أبيب من دمشق -في الأيام أو الأسابيع القليلة القادمة- تزويدها بخرائط حول مواقع الفصائل الإيرانية، تحت ذريعة عدم استهداف مواقع القوات النظامية السورية.
لا يسلتزم الأمر كثيرًا من التعليق حول هذه الخيارات “المرّة” جدًا، التي سيكون بشار الأسد واقعًا في خضمّها، فالمطلوب منه إيرانيًا أكبر من قدرته، والمطلوب منه إسرائيليًا أوسع مما يستطيع، واللافت في الأمر أنه في حال تلبية مطالب أي من الطرفين، فلن يكون بمنأى عن استهداف الطرف الآخر.
في حال انحاز للمطالب الإيرانية، فإن “إسرائيل” لن تعتبره طرفًا حياديًا، وسيكون في قائمة الاستهدافات العسكرية بشكل كبير، أما في حال اختياره تنفيذ الرغبات الإسرائيلية، فإن إيران ستعدّه “خائنًا”، وليس بعيدًا أن تتعامل معه كما تعاملت في العام 2017 مع الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، حين نقض تحالفه مع الحوثيين فكانت نهايته على أيديهم.
ليس معروفًا ماذا سيختار بشار الأسد في ظل موقف روسي “حيادي جدًا”، غير قادر على تقديم النصح أو الدعم أو الحماية، غير أن الثابث أن بشار الأسد لن يستطيع إمساك العصا من المنتصف، ولا يمتلك وصفة سحرية لإرضاء طرفين يحاول كل منهما إنهاء وجود الآخر في سوريا.