لم تتوقف الساحة السياسية عن الحركة وأن كان جزء كبير يجري في كواليس مغلقة دون المتلصصين. ذهاب وإياب في كل اتجاه وتحالفات تعقد وأخرى تنحل وأحزاب تذوب في أحزاب وإعلام يغير ولاءاته كل صباح. فيبيت مع زيد ليصبح مع عمرو والمال المجهول المصدر يعيد الظهور على السطح فيظهر أثره ولا ترى مصادره. بين أول أكتوبر ونهايته ستكون هناك ساحة سياسية جديدة. ولكن لا نميل إلى الاعتقاد أنها ستكون صلبة ومستقرة إلى حد الموعد الانتخابي بعد سنة. من يقف مع من وإلى متى ولماذا وبكم أسئلة تتراكم لكن الإجابات الواثقة لن تكون ضمن المقال القادم.
ضفدعة النداء تحاكي الفيل فتشرب ماء الرياحي
هناك يقين أن الحكومة ستغير بعض مكوناتها. وأن هذا التعديل سيكون حلا مقبولا من كثيرين كبديل عن تغيير كلي لحكومة الشاهد كما يريد الرئيس وفي كواليس تشكيل الحكومة القادمة جرت وتجري مفاوضات لتوزيع الحقائب
في ما استقيناه من تسريبات أن سليم الرياحي مالك حزب الوطني الحر طلب لنفسه وزارة العدل ضمن الحكومة الجديدة فرفض الشاهد إسناده ملف العدالة لأسباب تتعلق بنقاء ملفه القضائي. فانتقم لنفسه بنقل ثقله البرلماني وقدره عشرة نواب إلى جانب ابن الرئيس بعد أن كان أول القافزين إلى سفينة الشاهد. وأعلن ذوبان حزبه في حزب النداء ليتم تحجيم كتلة التوافق الوطني المساندة للشاهد وتنفخ في حجم كتلة النداء. وقد أسندت له الأمانة العامة لحزب النداء فصار قانونيا الشخصية الأولى في الحزب الذي ورث التجمع.
المشهد من هذه الزاوية يظهر بشعا وبلا أخلاق الحد الأدنى السياسي فالنواب المنتخبون ينقلون من موقف إلى آخر مضاد كما لو كانوا خرفانا في شاحنة تحمل إلى السوق بلا إرادة. يكشف هذا طبيعة التكوين السياسي للحزب الوطني الحر. فالنواب ملك رئيس الحزب يقامر بهم في سوق السياسة ويتموقع بهم كما يرى مصلحته الشخصية. كيف سايروه وكيف برروا ما يفعلون في نظر ناخبيهم. هذه آخر هموم رئيس الحزب ونوابه.
في زمن الدكتاتورية لم يكن شخص مثل الرياحي يحلم بأكثر من الجلوس قريبا من زعامات الحزب الحاكم أو يقدم لهم القهوة لكن أن يصل الرئيس الباجي السياسي المحترف (وريث بورقيبة)إلى الاستعانة به فهو علامة على هشاشة وضعف وتأهب لنهاية وبيلة.
من هذه الزاوية أيضا يمكننا أن نفهم التركيبة الحالية لحزب النداء أو من تبقى منه مع ابن الرئيس (والرئيس من خلفه يرتب المواقع والقوى.). حزب ببرنامج وحيد. وصول ابن الرئيس إلى موقع قيادي لا يقل عن رئاسة الجمهورية لكن بأية قوة؟ إن الفريق النيابي المتحول منه والثابت يكشف هشاشة حزب النداء كبيرة فهو يخوض معركة وجود أمام الشاهد الذي شفط قوته ويتقدم عليه ويؤلف فريقه وحكومته الجديدة التي قد تسبق مناقشة الميزانية في شهر ديسمبر القادم. الاستعانة بنواب من نوع نواب الوطني الحر يذكر دون كبير خيال بالضفدع التي يشرب الماء ليحاكي جسم الفيل. كم سيكون لدى الرياحي من مال ليرفد النداء ويشتري نوابا جددا في انتخابات جديدة. هذه السياحة السياسية وإن كانت مهينة لديمقراطية ناشئة فإنها كشفت طبيعة الزعامات الصغيرة المقامرة. وهي تسمح بدرس قاس لكل ذي كرامة ووعي سياسي. ليس بمثل هؤلاء تدار السياسات وتبني الحكومات وتتقدم الديمقراطية.
في زمن الدكتاتورية لم يكن شخص مثل الرياحي يحلم بأكثر من الجلوس قريبا من زعامات الحزب الحاكم أو يقدم لهم القهوة لكن أن يصل الرئيس الباجي السياسي المحترف (وريث بورقيبة)إلى الاستعانة به فهو علامة على هشاشة وضعف وتأهب لنهاية وبيلة.
مرزوق يقترب من العمل مع النهضة
كان محسن مرزوق أحد الطارئين على مشهد سياسي متحرك بعد الثورة. كان الجميع يعرف من يحركه ومن يملي عليه مواقفه. قاد حملة الرئيس الانتخابية وأفلح في فرض التصويت المفيد لصالحه على قاعدة الاستقطاب ضد الإسلام السياسي ولكن نجاحه رفع من طموحه فأراد أكثر ما يستطيع أو مما يستحق. فلما لم تنجح خطته في فرض حرب استئصال جديدة قسم حزب الباجي وهرب بثلث كتلته النيابية تحت اسم مشروع تونس.
بدأت الكتلة في التفت والتحق كثير منها بكتلة الشاهد. وكان مرزوق قد بدأ يفقد بريقه بعد اتضاح ولاءاته الخارجية (للإمارات تحديدا) خاصة لموقفه المتآمر على الجزائر. ويبدو (وهذا ليس يقينا) أنه فقد التمويل الخارجي فأظهر علامات تواضع في أفق انتخابات 2019 وبدأ الاتصال بحزب النهضة لتنسيق مواقف متخليا عن مشروعه الاستئصالي.
مشهد انتخابات 2014 قد انتهى هذا يقين، وهناك توليفة جديدة تتجمع.
اجتمع المعني برئيس مجلس شوري النهضة أكثر من مرة وأعرب عن رغبته في التعاون.وهو ينتظر لفتة رضا من الغنوشي في الأيام القادمة. ماذا سيعطي وماذا سيأخذ؟. هذا موكول بالأيام القادمة. لكن من اليقين أن كتلته النيابية ستقف مع الشاهد مقابل حقائب وزارية في الحكومة القادمة في انتظار تمكين أوسع في انتخابات 2019.
إن تحويل وزن كتلته إلى جانب الشاهد يقضى نهائيا على كل طموحات الرئيس في إسقاط الشاهد. ولكن المكسب الأهم هو أن جبهة الاستئصال قد فقدت أحد أركانها. بما سيعزل الجبهة اليسارية ونقابتها التي فضلت الوقوف مع التوريث على دفع المسار الانتقالي إلى مداه عبر الصندوق الانتخابي.
هنا يكون وزن مرزوق كبيرا لكن هل ستكون كتلته النيابية مطواعة مثل كتلة الرياحي فيحملها في شاحنته كخرفان إلى سوق السياسة. نرجح أن في كتلته إيديولوجيون متكلسون حول مبدأ عدم التعاون مع حزب النهضة الإسلامي.(الرجعي الظلامي الخ…) فإذا لم يطاوعه نوابه فإنه يفقد كل وزن ويصير تقربه من النهضة عملية إنقاذ لرأسه فقط وقد فقد دوره في تفعيل الخطة الإماراتية باستئصال النهضة. ويمكن الجزم منذ الآن أن بعض ارتدادات قضية خاشقجي هي سقوط محسن وصديقه حفتر في ليبيا من حسابات التمويل الخليجي. لن تكفي أموال الخليج لترضي طرمب الذي لا يشبع من الرز الخليجي.
هل اتضحت صورة المشهد السياسي قبل الانتخابات 2019؟
ليس بعد. ولكن مشهد انتخابات 2014 قد انتهى هذا يقين. وهناك توليفة جديدة تتجمع. توليفة يكون حزب النهضة عمودها الفقري ويكون الشاهد رأسها البارز. ستتجلى هنا معركة على الموقع الأول بين الشاهد والنهضة. من يكون رئيس حكومة ما بعد 2019؟. لن يخرج ذلك عن اتفاق بين الغنوشي والشاهد. بينما سيكون مرزوق ومن يشبهه من المتقافزين بين المواعيد الانتخابية بعض أثاث البيت السياسي الجديد.
ربما نقول ربما(مازال من المبكر جدا الجزم باستقرار الساحة السياسية) نشهد جبهة انتخابية مؤلفة من حزب النهضة ومن انحاز مع الشاهد من حزب النداء وفلول حزب المشروع لنيل أغلبية مريحة في برلمان 2019. بينما تتألف كتلة المعارضة من فلول النداء الباقين مع الرئيس ومعهم الجبهة الشعبية والنقابة التي تحولت إلى نيابة حزبية للجبهة.
إذا بدأ الناس يجنون ثمرة استقرار سياسي فإن التحالف المنتظر سيكون قد نجح في الانطلاق من صفر جديد نحو مستقبل ثابت بقطع النظر عما فيه من مقامرات شخصية مثل مقامرة مرزوق
سيربح الشاهد موقعا سياسيا متقدما ومؤثرا. ليس أقله رئاسة الحكومة وستربح النهضة قبولا كبيرا بين نخب الإدارة المعادية لوجودها وتوجه ضربة كبيرة للتيار الاستئصالي الذي لا يزال يتفضل عليها بجودها السياسي كما قال ذلك السيد بوجمعة الرميلي أحد أركان حزب الباجي.
سيرتبك كثيرون أمام هذا الاحتمال الانتخابي مثل حزب التيار الذي أصابه العجب نتيجة ما فاز به في البلديات الأخيرة فهو غير قادر على الاقتراب من تكتل فيه النهضة وغير قادر على التراجع إلى كتلة الباجي رغم المودة بينه وبين الجبهة التي تحتكر صفة التقدمية ولا تمنح منها للتيار بعض التقدمية وهي تقريبا نفس الورطة لحركة الشعب القومية. بينما سيكون مصير حزب مثل الحراك التحول إلى ذكريات جميلة عند المتبقين من أنصاره.
هل نضجت الطبخة؟ وهل هي ما يريده الشعب التونسي؟ ما كل اشتهت رياح الثورة سارت به سفن السياسة بعد الثورة. من المؤكد أن حرب الاستئصال تتدرج نحو النهاية وهذا مكسب لكنه سياسي بالدرجة الأولى لكن المكسب الحقيقي هو إعادة تثوير العملية الاقتصادية لتلبية المطالب المعيشية المتخلدة بذمة الحكومات المتعاقبة بعد الثورة.
إذا بدأ الناس يجنون ثمرة استقرار سياسي فإن التحالف المنتظر سيكون قد نجح في الانطلاق من صفر جديد نحو مستقبل ثابت بقطع النظر عما فيه من مقامرات شخصية مثل مقامرة مرزوق وسيغفر الناس لكثيرين عبثوا بمقدرات الثورة والبلد. لكن ذلك لا يزال احتمالا معلقا برقبة سياسيين أقرب إلى تجار المواشي منهم إلى زعماء ذوي برنامج مثل السيد سليم الرياحي. طعم الطبخة غير مستساغ بعد.