عرفت منطقة شمال إفريقيا تعاقب عديد الحضارات على حكمها، من ذلك الممالك الأمازيغية، ولعلّ أشهرها مملكة نوميديا التي وحّدت المنطقة تحت راية مملكة واحدة وأخرجتها من التشتّت إلى الاندماج لتكون قوّة كبيرة قاربت أن تضاهي قوة قرطاج وروما في ذلك الوقت.
مملكة نوميديا.. البدايات
تعدّدت الروايات الخاصة ببداية تاريخ تأسيس المملكة، غير أن الراجح منها يقول إن تأسيس “نوميديا” يعود إلى سنة 202 قبل الميلاد، تزامنا مع انتصار الرومان على القرطاجيين في الحرب البونيقية الثانية، المعروفة أيضا باسم الحرب الحنبعلية، التي استمرت من سنة 218 قبل الميلاد حتى سنة 201 قبل الميلاد.
مع انتصار الإمبراطورية الرومانية على القائد حنبعل، تمكّن “ماسينيسا” ملك الماسيلي والذي كان بالأصل حليفًا لقرطاجة خلال الحرب ثم انحاز في الأخير لدعم روما، من توحيد المنطقة تحت راية حكمه، وهزيمة قوات “سيفاكس” ملك الماسيسيلي الذي كان في البدء حليفًا لروما إلا أنه أنشق لمساندة قرطاجة في النهاية.
في هذا التاريخ، أصبح الملك ماسينيسا ملكًا على المنطقة بأسرها، حيث قام بضم سائر الأراضي التابعة للماسيسيلي تحت قيادته ليشكل بذلك مملكة نوميديا الموحدة، ومنذ ذلك الحين فقد توارت قبائل الماسيسيلي من التاريخ.
يعتبر الملك “ماسينيسا” مؤسس المملكة النوميدية أبرز ملوك الأمازيغ
تقول بعض المراجع إن “ماسينيسا” و”سيفاكس”، كلاهما كان ملك أمازيغي يحكم منطقة أمازيغية، عرفت الأولى باسم اتحاد قبائل الماسيسيلي وقد شغلت الجهة الغربية من المنطقة (غرب الجزائر)، فيما كانت الثانية تسمّى مملكة “الماسيلي”، وقد تركّزت في الشرق (شرق الجزائر وتونس).
مع توحيد المنطقة، اتخذ الملك “ماسينيسا”، مدينة سيرتا عاصمة لمملكته، وتقع هذه المدينة في منطقة الشرق الجزائري تسمى حاليا قسنطينة، وقد جعلها عاصمة المملكة النوميدية الموحدة سياسيا وثقافيا. وقد بناها في منطقة مسيجة بالجبال المنيعة وهي جبال الأوراس العتيدة، جعل للمدينة أسوارا وحصونا، وقسم المدينة إلى أحياء سكنية وتجارية ومرافق عمومية وإدارية ودينية.
وامتدّ حكم هذه المملكة على المنطقة، وفق مصادر تاريخية، إلى سنة 40 قبل الميلاد، وكان الملك “أرابيو” آخر الملوك على مملكة نوميديا، والذي بمقتله صارت نوميديا إحدى المقاطعات التابعة للإمبراطورية الرومانية، حيث تم تنصيب جوبا الثاني كحاكم للبلاد بواسطة أغسطس قيصر امبراطور روما. وقد نقل جوبا عاصمة المملكة إلى مملكة موريطنية المجاورة في بدايات عهده وركز أغلب جهوده على تلك المنطقة فقط.
“ماسينيسا”، أبرز ملوك الأمازيغ
يعتبر الملك “ماسينيسا” مؤسس المملكة النوميدية أبرز ملوك الأمازيغ، وقد تمكن هذا الملك الذي يلقب بملك المصيل من جعل بلاد الأمازيغ المقسمة دولة كبيرة تمتلك جيشا قويا، وقد بقي ماسينيسا في عرشه مدة طويلة ما يقرب من ستين سنة من حوالي 202 إلى 148 قبل الميلاد تاريخ وفاته. ويوجد قبره إلى حد الآن في مدينة الخروب في ضواحي مدينة قسنطينة.
خلال عملية توحيده للمنطقة، اعتمد “ماسينيسا” فضلا عن جيشه القوي الذي يجمع بين المشاة والفرسان، على أسس السياسية التقليدية كالاعتماد على المصاهرات والتعاقد مع زعماء القبائل واستغلال الشعور الوطني المبني على الهوية الأمازيغية وإيقاظ المشاعر الدينية في خدمة الشعور الوطني والاعتماد على الحروب عند الضرورة القصوى.
وتقول بعض المراجع التاريخية، إن الملك “ماسينيسا”، أراد الحفاظ على وحدة الشعب الأمازيغي بمهادنة الحكومة الرومانية والاستفادة من تشجيعاته، ومعاداة قرطاج التي يرى أنها استولت على أرضهم غصبا، وحرمت أهله أي الأمازيغ من حقوقهم.
خلال فترة حكمه، اهتم بالزراعة حتى يستقرّ السكان الأمازيغ الرّحل، ما جعلهم يتعلقون بالأرض ويتشبثون بها، فقد شيّد القرى الزراعية وأنشأ ضيعات ذات مدخول وافر. كما طور التبادلات التجارية مع معظم دول حوض البحر الأبيض المتوسط حيث أضحت نوميديا قوة تجارية من الطراز الأول يحميها أسطول حربي قوي، وفقا لما نقلته عنهم مصادر تاريخية متعدّدة.
إلى جانب ذلك، يعتبر “ماسينيسا”، من أوائل الملوك الذين صكّوا العملة في التاريخ، وكانت القطع النقدية النوميدية تصكّ من الرصاص والبرونز والنحاس والفضة، ولم تكن يقتصر تداولها في الداخل وإنما للتبادل التجاري بحيث تعدى استعمالها خارج نوميديا مما يدل على ازدهار وقوة العملات النوميدية حسب الشروحات المقدمة.
ونحت على وجه القطع النقدية صور الملوك على غرار ماسينيسا وسيفاكس ويوبا الثاني وبطليموس وغيرهم وعلى ظهرها حيوانات لاسيما الحصان في حركات مختلفة كونه يحمل عند النوميدين دلالة واقعية حيث كان أشهر الحيوانات عندهم وكانوا فرسان مشهورين.
وأعاد الملك الاعتبار للكتابة “تيفيناغ”، في تسيير دواليب الدولة وتدبير مرافقها السياسية والتربوية والعسكرية والاقتصادية، حتى يشير إلى الخاصية الحضارية التي تتميز بها مملكة نوميديا، و”تيفيناغ” هي الأبجدية التي يستخدمها الأمازيغ لتدوين لغاتهم وتعرف كذلك بالكتابة الليبية القديمة أوالأمازيغية، وتعني كلمة تيفيناغ بالأمازيغية “اكتشافنا”، وهي واحدة من أقدم الأبجديات.
“ميسيبسا”، قبلة العلماء وفلاسفة
عقب وفاته، انتقل الحكم لابنه “ميسيبسا” الذي يسمى أيضا “مكّوسن”، وقد حكم المملكة بين 118 قبل الميلاد و148 قبل الميلاد، ويذكر الجغرافي الإغريقي سترابون بأن مكوسن “كان يولي أهمية كبيرة للعلماء والمثقفين، فكان يجالسهم، وغالبا ما يقضي أوقات فراغه في دراسة الفلسفة“.
قتل يوغرطة في روما شنقا بعد أن تمّ تعذيبه، وتم بذلك الحاق نوميديا بروما
مكوسن هو “النطق الحقيقي لاسمه باللغة الليبية- الأمازيغية، وهو اسم شهرة يحمل دلالة العظمة والرّياسة، حسب “دليل الثقافة البربرية” للباحث في اللسانيات محند أكلي حدادو، أما في الكتابات اللاتينية فورد اسمه كما يلي: مكيبسا، وفي اللغة الفرنسية ميسبسا.
وتقول بعض المراجع، إن “ميسيبسا”، قد اختار النأي بمملكته عن الحروب والتفرّغ لبنائها وإعمارها ونهضتها، ويقول سترابون في هذا الشأن “ابتعد مكوسن عن سياسة والده التوسعية وواصل سياسة تطوير دولته والاعتناء بعاصمته سيرتا، حيث زاد في تجميلها وتحصينها، فكانت قبلة العلماء والفنانين والفلاسفة الإغريق واللاّتين“.
نهاية مملكة نوميديا والتحاقها بروما
عقب وفاة “ميسيبسا”، انتقل الحكم لابن عمه يوغرطة، ويعني هذا الاسم بالأمازيغية “كبير القوم“، ويصف المؤرخ الروماني ساللوستيوس يوغرطة، في كتاب “الحرب اليوغرطية”، قائلا: “عندما كبر كان يتمتع بجسد قوي وملامح جميلة وله فوق ذلك عقل ثاقب، لم يترك نفسه تفسد بالبذخ والكسل، بل اتبع عادات قومه، فكان يمارس الفروسية ويرمي الرمح ويسابق أقرانه في العدو”.
تمكّن يوغرطة، من بسط نفوذه على المملكة، مباشرة إثر وفاة “ميسيبسا”، حيث هاجم غرب نوميديا وكان حاكمها حفص بعل، فقتله يوغرطة سنة 112 قبل الميلاد، واستولى على الحكم هناك. بعدها بسنة واحدة، قاد يوغرطة هجوما جديدا على سيرتا، ونجح في الاستيلاء عليها وقتل ابن عمه عزر بعل.
إثر ذلك، أعلن “يوغرطة” الحرب على روما، فابتلع كل المدن التي كانت تحت سيطرتها في نوميديا، ووجه نداء للنوميديين دعاهم فيه إلى طرد روما بكل ما أوتوا من قوة. وجاء في كتاب “الحرب اليوغرطية” لساللوستيوس، أن يوغرطة صاح في قومه: “إن الرومان شعب ظالم لا حدود لأطماعه، هم أعداء لمختلف الشعوب، فاليوم يوغرطة، وبالأمس كان القرطاجيون والملك بيرسي، وفي الغد سيعادون كل من يرونه أقوى منهم“.
استمرّت الحرب بين الطرفين أكثر من عشر سنوات، أنهك يوغرطة خلالها روما، غير أن هذه الأخيرة التجأت للخديعة، فقد كان يوغرطة صهرا لحاكم موريتانيا بوخوس، وكان الأخير مواليا لروما، فنصب كمينا ليوغرطة، إذ دعاه إلى موريتانيا من أجل التشاور معه حول خطط لطرد روما من نوميديا.
استجاب يوغرطة لدعوة صهره بوخوس وذهب إلى موريتانيا، وهناك اعتُقل وأُسر وسُلّم للقائد العسكري الروماني سولا سنة 104 قبل الميلاد. كان بوخوس قد اتفق مع القنصل الروماني غايوس ماريوس، على أن يسلمه يوغرطة مقابل منحه أراض جديدة في نوميديا ومزايا أخرى. وقد قتل يوغرطة في روما شنقا بعد أن تمّ تعذيبه، وتم بذلك الحاق نوميديا بروما.