في البدء سكن الكنعانيون الأوائل حيفا وعُثر على آثارهم داخل مغرِ في جبل الكرمل الذي يحمل السواد الأعظم من المدينة، فيما تمتد بقية الأحياء في حيفا على ساحل المتوسط، هذا الساحل والميناء الذي عرّف حيفا وعرّف العالم بحيفا، واتخذت اسمها منه، فكلمة حف تعني الشاطئ أو الناحية، كانت حيفا ممرًا للجميع، صيادون اتخذوها بلدًا لهم وقراصنة جاؤوها غازين، وزعماء وعصابات جاءوها فاتحين ومحتلين.
الأدب ليس كل الدرب ليدلنا على حيفا، كونه يصف الضياع والتشرد وإنكار المدينة لأبنائها الأصليين، فالأدب عن هذه المدينة ضربٌ من الحنين والذاكرة وصراع هواياتي ووجودي، مركز لا هامش له في أدب كرس صورة حيفا المحتلة التي أبى الأدباء وضعها بخلفية حدث اجتماعي تاريخي أو ثقافي ما.
“حيفا أمي”
ولد أحمد حسين (توفي2017)، وعاش طفولته في حيفا حتى النكبة ثم هجر منها لقرية في وادي عارة، هذا الصبي الذي عاش في حيفا يصفها في قصته بأنها “أكبر من العالم” ويصف حي واد النسناس بأنه “أكبر من العالم الذي خلقه الله في ستة أيام”، في مقطع من قصة انهيار يقول الصبي: “لم أشك للحظة في أنه يكون الأمر ممكنًا أو صحيحًا، ومع ذلك تملكني ذلك الشعور بالمهانة لمجرد أن يفكر أحدٌ في أن هناك بلدًا أكبر من حيفا”.
“أحبه كما أحب ميناء حيفا وهو يغص بقوارب الكنعانيين الشراعية”، بهذه العبارة تحدث الأديب والمفكر أحمد حسين عن علاقته بصديقه الشاعر طه محمد علي (توفي 2011)، فهذه هي الأركيولوجيا في شعر أحمد حسين يطرد الغرباء المحتلين من حاضر وذاكرة حيفا ويعلن هويتها الفلسطينية منذ زمن بدايات الحجر الكنعاني الأول.
وفي قصيدته “قراءات في ساحة الإعدام”، يقول أحمد حسين:
“لقد بليت علي معاطفُ الرغباتِ لا برٌ يطاوعني إلى حيفا
ولا بحرٌ يناولني السفينة (…)
أعود النشأة الأولى، إذا العبريُ خلف النهرِ، لم يعبرْ.
وأذود الرمل عن أقدامه وأصيح ملءَ مسامع الوديان:-
لن تعبرْ! (…)
ما دام في كنعان أيامٌ وأطفالٌ، وفوق سفوحها زعترْ”
أحمد حسين عاشق حيفا يرسم لك هوية حيفا الكنعانية ليجول بك في حيفا والكرمل بخطى واثقة لا نكران فيها للعروبة والمكان الذي تبدلت ملامحه فعلًا، ويذكرك دائمًا “لا نستطيع أن نكره حيفا لأنها غادرت ملامحها”، فتدخل معه بتجربة العشق كصوفي ولا فكاك لك من شعره ومن حيفا.
“عائد إلى حيفا” رواية غسان كنفاني الشهيرة (استشهد في 1972) هي نحيبٌ مدوٍ في شوارع ومفارق وأحياء كاملة خلت من أهلها
يحرك الشاعر حسن البحيري (توفي 1998) المولود في حيفا وهُجر عنها عام 1948، وجداننا الوطني ويكشف لنا صورًا عن الوجه المقاوم لحيفا ينعكس فيه الشيخ عز الدين القسام الذي اعتلى منبر جامع الاستقلال وأطلق صيحة الجهاد، فأغلب قصائده تحمل صوت قذائف النار وروح المقاومة التي شهدتها المدينة.
والبحيري هو شاعر حيفا ومغنيها المناضل المقاتل الذي تعرف على مجموعة من الثوار منهم جماعة عز الدين القسام والشاعر عبد الرحيم محمود وأدرك أهمية عملهم في الدفاع عن الأرض فكان الثائر الشاهد على المعارك في حيفا:
رددي يا ريحَ قولًا يعشق الحقُ سماعه
ما بنى الغاصب في ده -رٍ هدمناه بساعة
يُذكَر أن الشاعر فجر طاحون حيفا الذي يقع بالقرب من محطة السكك الحديدية الذي كان اليهود يستخدمونه لقنص العرب، وكتب تلك الأبيات على جدار قريب من المكان، للشاعر ديوان اسمه “حيفا في سواد العيون” هي قصائد رومانسية مستوحاة من طبيعة حيفا والمناطق المجاورة لها فيصحبنا إلى دير مار إلياس ومقام الخضر أو قرية الكبابير قبل الغروب أمام البحر الأبيض المتوسط ويروح بنا إلى الشاطئان الشاطئ الأزرق وشاطئ الزورا، فيقول:
وشارفت أرجاء الخليج بظلها وأمواجه بين البسط والقبض (…)
تصورت صبحا حيفا وسحرها وبقية ليل شاطئه الفضي
“حبيبتي حيفا” اسم الديوان الذي وجده ابن شقيقه المهندس مخطوطًا وأعاد نشره عام 2001.
ولد الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور (توفي 2017) في حيفا قبل النكبة بعامين، وعاش غريبًا عنها في منافي اللجوء، يقول على لسان والدته في قصيدته مسافر مقيم: “وحيفا هذه ليست مدينة، إنها الجنة، ومن لا يصدق فليسأل أمي”، وسيرى الشاعر حيفا دائمًا خضراء، وثياب الناس فيها ليست سميكة في الشتاء، وسيطلب من أمه أن تأخذه إلى حيفا، وستجيبه: “غدًا تكبر يا حبيبي، وتأخذني أنت إليها”، لا يمكن الحديث عن حيفا دون المرور بشعر أحمد دحبور الذي يروي لنا حيفا عبر ذاكرة شعبية من ذاكرة أهلها وأحيانًا يستلهم التراث الشعبي لينقل لنا صور البلد وحاله في حوار جميل بين الشعبي واللغة الأدبية العالية.
أبرز الأعمال عن المدينة
“عائد إلى حيفا” رواية غسان كنفاني الشهيرة (استشهد في 1972) هي نحيبٌ مدوٍ في شوارع ومفارق وأحياء كاملة خلت من أهلها، جَرِب قراءة هذه الرواية، وادخل حيفا من خلالها، لكن ستار دموع سعيد وصفية ستحجب عنك الرؤيا، وستسأل نفسك كما سأل سعيد نفسه وصفيه: “من أين نبدأ؟!”، فأغلب أسماء الشوارع التي عرفها سعيد وصفية قبل نكبة محيت وغيبت قصرًا عن المكان، ساحة الحناطير أصبح اسمها ساحة باريس وشوارع جديدة استيطانية وغيرها شقت طريقها إلى المدينة وداخلها.
تعود بنا الرواية إلى 21 من أبريل/نيسان 1948 يوم بدأت معركة حيفا حين قصفت العصابات الصهيونية الأحياء العربية والزوارق التي نقلت الحيفاويين عنوة إلى عكا، أما حين وجدا ابنهما الذي خلفاه في منزلهما بالحليصة وحيدًا، أدركا أنه لا يمكن استرداده لأنه أصبح ابنًا لعائلة يهودية وجنديًا في جيش الاحتلال، وأن فلسطين الحقيقية والعودة إلى حيفا تستحق قتالًا حقيقيًا، وهنا قال الراوي: “أفتش عن فلسطين الحقيقية، فلسطين التي هي أكثر من ذاكرة، أكثر من ريشة طاووس، أكثر من ولد، أكثر من خرابيش قلم رصاص على جدار السلم” كانت حيفا في رواية غسان كنفاني خريطة طبوغرافية لمدينة من بقايا ذاكرة وحق سليب علينا النضال من أجل استرداده.
كتب الروائي الشاب مجد كيال، روايته “مأساة السيد مطر”، وهي رواية كابوسية غرائبية لا تقصد من حيفا إلا المكان
تدور معظم أحداث رواية “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل” للكاتب الفلسطيني إميل حبيبي (توفي في 1996)، في مدينة حيفا بعد النكبة وتحديدًا في فترة الحكم العسكري الذي فرضه الاحتلال الإسرائيلي على الفلسطينيين الباقين بقراهم ومدنهم العربية، عن صراع الهوية وصراع الذاكرة وصراع الانتماء الذي يفصم سعيد فيأتي سرد الرواية غرائبيًا في جزء منه وفي جزئه الآخر بسيطًا بدائيًا، في نظام السرد البسيط نراه يزور منزله في حيفا فيرى يهوديًا قد سكنه، ويرى الزوجة تلم الغسيل من على الشرفة ثم تنادي زوجها ليساعدها فيعتقد سعيد أن المرأة نادت زوجها ليطلق النار عليه.
التقى بحبه الأول كان اسمها يُعاد وكذلك حبه الثاني تحمل ذات الاسم، يُعاد، يدعي بعض القراء والنقاد أن يعاد الأولى هي النكبة والثانية النكسة بدلالة أن سعيد عاش الفاجعتين في حيفا، يروي لنا سعيد في ليلة من ليالي الست العفريتية، أي حرب الأيام الست، رفع راية بيضاء فوق سطح منزله في حيفا ملبيًا أمر المذيع في إذاعة صوت “إسرائيل” الناطقة بالعربية، بأن على العرب المهزومين رفع الراية البيضاء على أسطح منازلهم، اعتبر الرجل الكبير “ضابط المخابرات” عمل سعيد هذا خيانة لـ”إسرائيل” بإشارة إلى أن حيفا أرض محتلة ليست عربية، فيسجن وبعد الإفراج يلتقي بيعاد الثانية ويقرر بعدها الاختفاء مع الفضائيين ويبعث سيرته كرسائل من الفضائيين لإميل حبيبي الكاتب.
من الجدير بالذكر أن مؤلفات إميل حبيبي في غالبها الأعم تقع أحداثها في حيفا وشوارعها، ويمكن أن تكون بجزء منها تسجيلًا وتوثيقًا اجتماعيًا سياسيًا عن هذه المدينة وأهلها.
حيفا وسؤال الحيز
كتب الروائي الشاب مجد كيال، روايته “مأساة السيد مطر”، وهي رواية كابوسية غرائبية لا تقصد من حيفا إلا المكان، يمكن من خلالها رؤية حيفا التي هودت مسميات الشوارع، ونشهد تحرك اليهودي في حيز هذه المدينة، فهذا هو أمنون (أحد الشخصيات) حارسٌ يهودي شرقي لمدرسة عربية يدرُس بها السيد مطر الذي لم يولد أصلًا، عبر توظيف شخصية أمنون، كأن الكاتب يريدنا أن نصل للحقيقة بقلب الواقع رأسًا على عقب، فمن غير المعقول أن يحرس يهودي عربًا في مدرسة عربية، لذلك مال الكاتب لتذكيرنا بأن السيد مطر لم يولد ولم يوجد.
في أثناء تناول الرواية، سيفهم القارئ المتمرس فورًا أن هذا الحيز المختلط بين العرب اليهود (حيفا) هو ليس حيزا مشتركًا ولن يكون يومًا كذلك، وأن كل عربي قبل أن يولد هو خطر على أمنون، مما يوجب على كل يهودي في حيفا وخارجها الاحتراس منه فضلًا عن حراسته.
تتواصل رواية الكاتبة ابتسام عازم “سارق النوم غريب حيفاوي” مع ذات السؤال، أين العربي من الحيز الجديد المختلط العربي اليهودي؟ عبر دراسة عنوان الرواية كمدخل للنص نستطيع أن نقول إن العربي بات غريبًا في مدينته، في حيز ملكه سابقًا، وانتزعه منه اليهود ليصير هو الغريب وهم أصحاب المكان يطبعون فيه مسمياتهم وروائحهم وملامحهم وغبارهم، فيقرر غريب البحث عن حيز آخر في مدن أخرى في الداخل ولكنه يصطدم ويصدم من واقعه المحتل في كل مرة.
لا بد أن نشير في النهاية إلى أن هناك أعمالًا أدبية أخرى ورد فيها ذكر حيفا مثل رواية “قناديل ملك الجليل” التي تحدثت عن الظاهر عمر ومساهمته في إعمار الجليل ومدن مثل عكا الناصرة طبريا صفد وحيفا، وكذلك لا يمكن لمحمود درويش أن يكتب شعرًا دون أن تحضر حيفا والكرمل الذي بدأت منه حيفا.
حاول هذا المقال تقديم حيفا من منظور أدبي، ليجد أن الأدب بشعره ونثره يرسم حيفا كنعانية عربية ليذود ويبني هوية عربية لمكان احتل وطرد أهله منه عنوة عام 1948، مصادر هذا الأدب كانت التاريخ والخيال والذاكرة الشخصية التي ترتبط بالوجدان والحنين، كما تُسقط في أحيان كثيرة الحياة الاجتماعية والثقافية في حيفا مثل الاحتفالات الموسمية والأعياد والرمضانات وهكذا، لذلك، ومن أجل تكوين صورة شاملة عن المدينة علينا بقراءة للبحث عن مرويات من الذاكرة الشعبية لسكان حيفا، وقراءات تاريخية عن المدينة اسمها وحكايتها.