في بداية القرن التاسع عشر، تطورت حركة الاستشراق وتوسعت اهتماماتها ودراساتها، وكانت أبرز أبحاثها عن المواضيع الإسلامية واللغوية والتاريخية التي وضعت اللغة العربية تحت مجهر الغرب، فمنهم من انتقدها وحاول التقليل من قيمتها، ومنهم من أنصفها واستفاد منها وقدر بلاغتها وفصاحتها
فقد استطاعت اللغة العربية بمتانة قواعدها وثراء مفرداتها ودقة تعبيراتها أن تحصد إعجاب واهتمام العديد من المستشرقين الذين انبهروا بكمالها بالرغم من عداوة بعضهم للحضارة الإسلامية واستعلائهم على علومها وإصداراتها، ومنهم:
“لا نعرف شبيهًا بهذه اللغة”
قالها المستشرق الفرنسي إرنست رينان المعروف بموقفه السلبي تجاه الدين الإسلامي وتاريخه ونظرته الدونية والتشككية للفلسفة العربية، فقال إن أصول هذه العلوم تعود إلى الحضارة الإغريقية على اعتبار أن الإسلام لم يدع للعلم مكانًا، ومع ذلك فقد رأي أن القرآن الكريم “ثورة أدبية” بقدر ما هو ثورة دينية، واعترف بكمال اللغة العربية، قائلًا:
“إن من أغرب المدهِشات أن تنبتَ تلك اللغة القومية وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحاري عند أمة من الرحالة، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرةِ مفرداتها ودقة معانيها وحسنِ نظامِ مبانيها، ولم يُعرف لها في كل أطوار حياتها طفولة ولا شيخوخة، ولا نكاد نعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى، ولا نعرف شبيهاً بهذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملةً من غير تدرج وبقيت حافظةً لكيانها من كل شائبة”.
“بعد دراستي اللغة العربية، اكتشفت أنه قد أصبح لفمي عقل”
عُرفت المستشرقة البلغارية مايا تسينوفا بإعجابها الشديد باللغة العربية، فقد ترجمت العشرات من الأعمال الأدبية، مثل “مختارات جبران خليل جبران” و”أنطولوجيا محمود درويش” و”مختارات من الأدب العربي المعاصر” و”مختارات أمين الريحاني”، فمكان من الجمهور العربي إلا أن يستغرب من سبب انجذابها إلى واحدة من أصعب اللغات في العالم، فكان جوابها كالتالي: “كنت أبحث عن دراسة غريبة، وفي دليل جامعة صوفيا، لفتني عنوان “اللغات الشرقية في كلية اللغات الغربية”، وبدأت بتعلم العربية، وبعد الشهر الأول من السنة الأولى، شعرت أني وجدت مكاني”.
إلى جانب ذلك، اشتهرت تسينوفا بانتمائها إلى القضية الفلسطينية واهتمامها بمعرفة التفاصيل والمحطات المفصلية التي مرقت بها القضية، إذ تضيف قائلةً: “عام تل الزعتر هو من صنع مني الفلسطينية، وحين بدأت أحضر الندوات والمحاضرات التي تتحدث عن الفلسطينيين في سجون الاحتلال، أحسست لأول مرة أنني أفهم اللهجة الفلسطينية، وهذه كانت من أهم الأحداث في حياتي”.
عودةً للترجمة وحب العربية وكيف يمكن للمترجم البلغاري أن يستفيد من النصوص العربية، تجيب تسينوفا “العربية لغة الدقائق والتأمل، لغة الوقوف عند التفاصيل والتعمق بها، وليس التزحلق على سطحها، هذا ما أشعر به حين أقرأ المثقفين العرب، ويلفتون انتباهي بالتزامهم بقضايا وهموم بلادهم، يبحثون عن الأسباب ويفكرون بالحلول، وهذا لا أجده عند المثقف البلغاري”.
“مفرداتها في حالة كمال تام”
تداولت كتب التاريخ آراء المستشرق الألماني ثيودور نولدكة حول الحضارة الإسلامية، فبعد أن تعلم اللغة العربية واهتم بقواعدها وأسرارها، أصدر كتابًا باسم “مختارات من الشعر العربي” وألف كتابًا بعنوان “تاريخ القرآن”، وبالرغم من انحراف بعض آرائه، إلا أنه يعد واحد من أهم الأصوات الاستشراقية التي أنصفت اللغة العربية، إذ قال:
” إن اللغة العربية لم تَصِرْ حقّاً عالميةً إلا بسبب القرآن والإسلام ، وقد وضع أمامنا علماءُ اللغة العرب باجتهادهم أبنيةَ اللغة الكلاسيكية، وكذلك مفرداتها في حالة كمالٍ تامٍّ، وأنه لا بدّ أن يزداد تعجب المرء من وفرة مفردات اللغة العربية، عندما يعرف أن علاقات المعيشة لدى العرب بسيطةٌ جداً، ولكنهم في داخل هذه الدائرة يرمزون للفرق الدقيق في المعنى بكلمةٍ خاصّةٍ، والعربية الكلاسيكية ليست غنيّةً فقط بالمفردات ولكنها غنيةٌ أيضاً بالصيغ النحوية، وتهتمّ العربية بربط الجمل ببعضها … وهكذا أصبحت اللغة ( البدويّة ) لغةً للدين والمنتديات وشؤون الحياة الرفيعة، وفي شوارع المدينة، ثم أصبحت لغةَ المعاملات والعلوم”.