تجاوزت قضية الصَّحافي والكاتب السعودي المعارض جمال خاشقجي محيطها الإقليمي وأمست بين ليلة وضحاها قضية كبرى تشغل الرأي العام العالمي وتؤرق السياسيين والاقتصاديين ورجال الدول عامة، ولم تقتصر على أن تكون شأنًا سعوديًا داخليًا ولا حتى أمرًا عربيًا خاصًا، وهزت القضية بتفاصيلها المروعة التي تتكشف تباعًا أروقة البرلمانات العالمية والمؤسسات الدولية رسمية كانت أو مستقلة الداعمة لحقوق الإنسان والمطالبة بحرية الرأي والتعبير والمدافعة عن الديمقراطية، وهوت على إثر الجريمة مكانة المملكة العربية السعودية بين دول العالم وتشوهت صورتها، فعضو لجنة العلاقات الخارجية الأمريكية في الكونغرس بوب كوركر قال: “الرأي في الكونغرس عن المملكة السعودية وصل إلى الحضيض”.
حجم التنديد والاستياء الدولي والتضامن مع خاشقجي منذ اختفائه بعد دخوله لقنصلية بلاده في إسطنبول بتركيا يضع النظام السعودي أمام معضلتين مهمتين من المستحيل تجاوزهما بسلام: الأولى منهما أنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يفلت مرتكبو الجريمة ومشغلوهم من العقاب، وإن كان ظنهم حين أقدموا على جريمتهم النكراء أنه من الممكن ضمان نجاتهم بصفقة ما، لاعتقادهم أن العالم تجرد من الأخلاق وما عاد يحكمه إلا المال والصفقات، الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قال بحسب ما نقلت عنه وكالة رويترز: “يبدو أن الصحافي السعودي جمال خاشقجي قد مات وذلك أمر محزن”، وشدد على أن العواقب ستكون وخيمة للغاية إذا كان المسؤولون السعوديون ضالعين في مقتله.
وهنا تكمن المعضلة الثانية وتتمثل في الخطر الحقيقي الذي يترصد مكانة وصلاحيات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان حال ثبت تورطه في القضية، أستاذ الدراسات الشرقية في جامعة تل أبيب إيال زيسر قال: “القضية حطمت دفعة واحدة صورة الزعيم التقدمي المتنور التي صورها لنفسه، وطرحت علامات استفهام ثقيلة عن فكر ومدى تطور هذا الشخص الذي يتصدر السعودية اليوم“.
على وقع قضية خاشقجي توقع مسؤولون ومعلقون إسرائيليون بحسب ما نقلته عنهم موقع صحيفة جيروزاليم بوست أن يسهم التراجع الكبير بمكانة نظام الحكم السعودي في واشنطن إلى تراجع التعاون بين تل أبيب والرياض
وليس من المستبعد تحت ضغط المجتمع الدولي والمنظمات والهيئات الحقوقية الإطاحة بابن سلمان، وإزاحته بالكلية عن المشهد السياسي في المملكة السعودية وأن يتعرض للمساءلة ويلاحق ويطلب للمثول أمام المحاكم الدولية.
هذه النتيجة لن تَسر دولة الاحتلال الإسرائيلي ولا تسعد خاطرها، وقد وجدت نفسها مضطرة للتطرق لواقعة خاشقجي بعد أن التزمت الصمت في أيامها الأولى، ويكاد لسان حالها يتمنى لو أن الواقعة لم تكن، ليس ذلك حرصًا منها على الحريات ولا اصطفافًا منها في صف الديمقراطية، إنما انشغال تل أبيب بقضية خاشقجي يأتي انطلاقًا من الخوف على مصالحها الاحتلالية وخشية على مكاسبها السياسية التي يمكن أن تتهدد في حال أُحدث تغير جذري في رأس هرم السلطة في النظام السعودي وخصوصًا فيما يتعلق بولي العهد محمد بن سلمان الذي رأت فيه تل أبيب ممرًا سهلًا ومعبرًا يسيرًا يقودها إلى تصفية القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع الأزلي على الطريقة التي تريدها “إسرائيل” وترضاها، وكانت أوساط اليمين الحاكم في تل أبيب قد أبدت ارتياحًا عميقًا في أعقاب تسريبات عن ضغوط مارسها ابن سلمان على رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ليقبل بخطة التسوية التي أعدتها إدارة ترامب للقضية الفلسطينية، التي أُطلق عليها صفقة القرن.
لكن وعلى وقع قضية خاشقجي توقع مسؤولون ومعلقون إسرائيليون بحسب ما نقلته عنهم موقع صحيفة جيروزاليم بوست أن يسهم التراجع الكبير بمكانة نظام الحكم السعودي في واشنطن إلى تراجع التعاون بين تل أبيب والرياض، مما سيؤدي إلى عدم استفادة القيادة الإسرائيلية من دور ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في الضغط على الفلسطينيين لتقديم تنازلات سياسية.
العلاقات السعودية الإسرائيلية شهدت في الآونة الأخيرة تقاربًا وانسجامًا منقطع النظير برعاية ووصاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومبعوثه في الشرق الأوسط جاريد كوشنير، ولم يعد يدور ذلك خلف ستائر السرية إنما خرج للعلن واشتغلت وسائل الإعلام السعودية بمهاجمة الفلسطينيين وتجريمهم وتقزيم تضحياتهم وتشويه صورتهم، فيما حسنت من صورة دولة الاحتلال وأشادت بما لديها من إمكانات وتكنولوجيا وتطور، وعملت على إبرازها بمظهر الحليف الجدير بالثقة خصوصًا في مواجهة إيران وحركات الإسلام السياسي.
المحلل الأمني في صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية رونين بيرغمان قال: “في الفترة الأخيرة تم نشر تقارير كثيرة في الإعلام الغربي أكدت وجود تعاون في مجال الاستخبارات بين المملكة العربية السعودية و”إسرائيل”، بما في ذلك بذل الجهود المشتركة بينهما في الحرب ضد حركة المقاومة الإسلامية حماس في فلسطين، ومن المؤكد كما يقول عيران ليرمان أنه ليس من مصلحة “إسرائيل” أن تتقلص مكانة السعودية عند واشنطن.
دماء المغدور جمال خاشقجي المحب لفلسطين والمدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني والرافض للتطبيع السعودي الإسرائيلي ستسقط صفقة القرن أو على أضعف الاحتمالات ستعيقها وتؤخرها إلى أبعد الآجال
ستتأثر المصالح الإسرائيلية في المنطقة بشكل سلبي كبير خصوصًا ما يتعلق منها بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني في حال ثبت ضلوع النظام السعودي في اغتيال الكاتب جمال خاشقجي وقد يجهض ذلك وينهي محاولات إنفاذ صفقة القرن التي تبناها ولي العهد السعودي وتحمس لها طمعًا في نيل رضى “إسرائيل” والحوز على دعمها عند الإدارة الأمريكية وتنازل فيها عن القدس عاصمة لدولة فلسطين مقابل بلدة من أحيائها تمنح لهم كعاصمة، وتسهيلات اقتصادية وتنمية مزعومة، وعمل بشكل دؤوب لإنفاذها وتحقيقها وفرضها ولو بالقوة على الطرف الفلسطيني.
الدبلوماسي الإسرائيلي السابق شلومو شامير في صحيفة معاريف قال: “الأزمة المتوقعة بين واشنطن والرياض على خلفية قضية خاشقجي قد تضر بالعلاقات القائمة بين الرياض وتل أبيب من خلال إبداء ابن سلمان مواقف أكثر تصلبًا من خطة السلام الأمريكية المسماة صفقة القرن”، وأوضح أن “التوتر الحاصل اليوم بين السعودية والولايات المتحدة قد يلقي بظلال سلبية على معارضة السعودية لصفقة القرن، وبجانب ذلك قد تؤثر على مواصلة الاتصالات السعودية الإسرائيلية، وربما تعمل على وقفها“.
وفي حال حصل ذلك ستجد “إسرائيل” نفسها في موقف لا تحسد عليه وهي التي ظنت أنها تنفست الصعداء أخيرًا بشريكها ابن سلمان واعتقدت أنها سترتاح عما قريب في دولتها اليهودية المنشودة.
دماء المغدور جمال خاشقجي المحب لفلسطين والمدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني والرافض للتطبيع السعودي الإسرائيلي ستسقط صفقة القرن أو على أضعف الاحتمالات ستعيقها وتؤخرها إلى أبعد الآجال، وستصعب المسألة على “إسرائيل” وتضعها مجددًا أمام ذات المعضلة، وستحملها مرة أُخرى أعباء ومشقة البحث عن شريك عربي جديد يساعدها في تصفية القضية الفلسطينية وابتلاع حقوق الشعب الفلسطيني.