عندما تذكر السابع من أكتوبر قبيل الانتخابات الأمريكية الوشيكة، فأنت لا تُلمح إلى نقطة فاصلة في تاريخ دولة هي حليف استراتيجي للولايات المتحدة، ولا محور مهم في سياستها الخارجية ومصالحها في الشرق الأوسط وحسب، بل يرتبط هذا التاريخ لدى المرشحين الأمريكيين، سواء للرئاسة أم للكونغرس والإدارات المختلفة، بقطاع واسع من الناخبين الذين يهمهم إما أمر “إسرائيل” وإما أمر من تعاديهم من الناحية الأخرى.
يرتبط هذا التاريخ أيضًا بفرص نادرة لتمويل الحملات الانتخابية، ممن يعرفون بالـ”مانحين الكبار” أو الـ”Mega Donors”، وهي الشخصيات التي تضخ ملايين الدولارات في اللجان السياسية والمجموعات الأخرى المتنافسة في الانتخابات والتي تركز على كيفية نظر الإدارة الأمريكية المقبلة للصراع في الشرق الأوسط.
استغل المرشحان الرئاسيان دونالد ترامب وكامالا هاريس ومن خلفهما الحزبان الجمهوري والديمقراطي وأبواقهما في الإعلام وأجهزة الأمن والإدارات المختلفة أحداث السابع من أكتوبر لتدعيم برامجهم الانتخابية، وبالتالي حظوظهم في كسب أصوات الناخبين قبيل انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، فمن أكبر قضية مطروحة على أجندة الرئيس القادم وهي الأمن القومي الأمريكي مرورًا بالعلاقات الخارجية ومسائل الهجرة وتكميم الأفواه والاحتجاجات في الشوارع والجامعات، كان طوفان الأقصى وما تبعه من حرب إبادية طاحنة في قطاع غزة ومؤخرًا في لبنان، حاضرًا في قلب الحدث.
يسعى هذا المقال إلى تسليط الضوء على مركزية أحداث السابع من أكتوبر في البرامج الانتخابية الرئاسية من جهة، وبسط مواقف وسياسات كل من المرشحين الرئاسيين هاريس وترامب من القضايا الأساسية المتعلقة بالأحداث وما تلاها من حرب إبادة وحشية في القطاع.
دفاع المستميت
تسابق المرشحان في مناظرتهما الرئاسية اليتيمة في سبتمبر/أيلول المنصرم على إظهار حبهما ودعمهما غير المشروط لـ”إسرائيل”، وفي الوقت عينه على التشكيك في نوايا وإخلاص الطرف الآخر تجاه الدولة المحظية، فقد استخدم ترامب فزاعة الأحداث والتهديد الذي تتعرض له “إسرائيل” حتى آخر مداه في ترويع المتبرعين اليهود ومن ورائهم الناخبين الصهاينة واليهود على السواء، محذرًا أنّ “إسرائيل” ستزول تمامًا من الوجود إذا تولت كامالا هاريس رئاسة الولايات المتحدة، وأن إدارة أمريكية تقودها هاريس ستتخلى تمامًا عن “إسرائيل”.
تحول هذا الادعاء الممجوج الذي توّجه ترامب بمقولة أن أحداث السابع من أكتوبر ما كانت لتحدث لو كان هو من يشغل منصب رئيس الولايات المتحدة إلى أداة لابتزاز حتى اليهود أنفسهم، فقد حمّلهم ترامب مسؤولية فشله في الانتخابات القادمة وعاب عليهم التصويت للديمقراطيين، مدعيًا أن لا يهودي عاقل يمكنه أن يتخلى عن جمهوري مخلص لصالح ديمقراطي لم يبذل الجهد ذاته لصالح دولة اليهود، وأن المصوتين لهاريس من اليهود “مجموعة من المغفلين الذين يحتاجون إلى فحص أدمغتهم”، الأمر الذي عدّه الكثير من اليهود أنفسهم معاداة للسامية وابتزازًا غير مقبول لليهود.
كما كان موضوع محاربة الإرهاب والعلاقة العضوية بين أمن “إسرائيل” وأمن الولايات المتحدة أهم موضوعات ترامب المطروحة في خطاباته خلال جولاته الانتخابية المتعددة.
في المقابل، أكدت حملة هاريس على دعمها الصلب والمطلق لحق دولة الكيان بالوجود والازدهار والدفاع المشروع عن نفسها، وقاومت ضغوطًا أمريكية داخلية وخارجية لوقف التسليح غير المشروط لـ”إسرائيل” في حربها على القطاع، فحتى وهي تدعو إلى وقف إطلاق النار وتدعم حل الدولتين تقدم هاريس مصلحة “إسرائيل” وأمنها على كل اعتبار.
يشهد لها تاريخها الحافل بدعم “إسرائيل”، فالمرشحة التي دخلت مجلس الشيوخ كنائبة عام 2017 توجهت مباشرة إلى “إسرائيل” كأول رحلة رسمية لها، وتقدمت بمشروع قرار يعارض قرار مجلس الأمن بإدانة “إسرائيل”، كما حافظت طول مدة خدمتها في الكونغرس على علاقات قوية بجماعات اللوبي الصهيوني والسفراء والمسؤولين الإسرائيليين.
وبينما اتهمت حملة ترامب، هاريس، بالتساهل مع أنصار حركة حماس وبكراهية “إسرائيل” واليهود، وادعت أن ترامب هو حامي اليهود في المنطقة، وهي التهم التي بهتت لها المرأة، لم تدع حملة الأخيرة فرصة معاداة السامية وكراهية اليهود تمر دون استغلال، فقد وجّه المتحدث باسم الحملة، مورجان فينكلستاين، أصابع الاتهام إلى ترامب بكونه “مروّعًا تاريخيًا لليهود”، وتعامل قديمًا مع شخصيات وجهات يمينة متطرفة ونازيين جدد يعادون اليهود، ومنهم نيك فونتس اليميني المتطرف الذي ينكر الهولوكوست ويعادي الأعراق المختلطة، حيث يملك ترامب بالشراكة مع فونتس مطعمًا خاصًا وفقًا لفينكلستان.
ورغم التكرار الممجوج للحب العميق الذي تكنه هاريس لـ”إسرائيل” ودعمها غير المشروط لها، تتمسك الأخيرة بسياسة بايدن بالموازنة بين العصا والجزرة، تمسكًا يكذّبه الواقع باستمرار تدفق الدعم المالي والعسكري والدبلوماسي لـ”إسرائيل”، فقد أكدت هاريس أنها لن تغمض عينًا عن معاناة أهل القطاع ولن تغض الطرف عن العدد المهول من المدنيين الذين سقطوا ضحايا لآلة الحرب الإسرائيلية، مؤكدة على حق الشعب الفلسطيني بالحرية والكرامة وتقرير المصير، وداعية نتنياهو للموافقة على مقترح وقف إطلاق النار.
مؤكدة كذلك أن إدارتها ستعمل دون توقف لإنجاز وقف إطلاق النار وعودة سالمة للرهائن وتحقيق حلم طال انتظاره بتنفيذ حل الدولتين، وهو ما يراه كثير من المتابعين محاولة أخيرة لخطب ود الناخبين العرب والمسلمين خاصة في الولايات المتأرجحة مثل ميشيغان والذين يشكلون ورقة رابحة للديمقراطيين في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
وهم الناخبون أنفسهم الذين تنكّروا لبايدن بسبب موقفه المتواطئ من حرب الإبادة الإسرائيلية في القطاع وأعلنوا مقاطعة الانتخابات القادمة قبل أن يتراجع بايدن عن فكرة إعادة الترشح ويفسح المجال لنائبته هاريس بالتقدم للمنصب.
التعويذة السحرية.. حل الدولتين
تؤيد هاريس، كما رئيسها بايدن، حل دولتين بالمقاييس الأمريكية، فهي ترى أنه لا بد من إقامة دولة فلسطينية، لكن لا وجود لحماس فيها، ولا مكان لوقف الدعم الأمريكي لـ”إسرائيل”، فحين سئلت هاريس هل معنى القلق من معاناة الفلسطينيين الذي ألمحت إليه كلاميًا أن إدارتها ستوقف دعم “إسرائيل” عسكريًا؟ نفت الأخيرة مؤكدةً أنه من المفترض “أن تظل إسرائيل قادرة على الدفاع عن نفسها”،ورغم ذلك تعارض هاريس إعادة احتلال قطاع غزة بعد انتهاء الحرب الدائرة.
وفق مراقبين، لا يبدو أن هاريس ستغير بشكل دراماتيكي من سياسة رئيسها بايدن حال توليها الكرسي مكانه، إذ قدم بايدن العجوز المداهن خدمات جليلة لـ”إسرائيل” خلال حربها الإبادية في القطاع رغم كل ما تنطع به بضرورة وقف إطلاق النار وعقد صفقة تبادل.
وسيظل مصطلح “حل الدولتين” شعارًا برّاقًا لا روح فيه ولا إمكانية معقولة لتحقيقه، فهاريس لم تقدم تفاصيل بشأن كيفية تحقيق هذا الحل في ظل كل العقبات على الأرض التي خلقتها إدارةٌ هي نائبتها ومن قبل حكومات خدمت فيها كمسؤولة من الصفوف الأولى.
الموقف ذاته يتعلق أيضًا بالإدارات الديمقراطية، بما فيها إدارة بايدن، التي حافظت تاريخيًا على موقف معلن من إدانة الاستيطان وتأييد حل الدولتين، لكنها لم ترفع إصبعًا باتجاه وقف مشروع الاستيطان، بل على العكس من ذلك، بقي دعمها للحكومة الإسرائيلية متدفقًا رغم إيقانها أن جزءًا لا يستهان به من ميزانية الدولة يذهب باتجاه تطوير المشروعات الاستيطانية.
كما أن التهديد المفرغ من محتواه بضرورة إيقاع عقوبات على جماعات وأسماء استيطانية بذاتها لارتكابهم أعمال عنف في الضفة، والذي ظلت إدارة بايدن تلوح به كمحاولة لامتصاص الغضب الشعبي والإحباط الداخلي والخارجي من الموقف المتواطئ لها من الحرب الحالية، لم يخرج بشكل فعلي إلى حيز الواقع رغم احتلاله مساحة واسعة في أروقة الإعلام والدبلوماسية والسياسة كمؤشر على توتر العلاقات بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو.
أما فيما يتعلق بحق الفلسطينيين في تقرير المصير بدولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، فبالمثل لم تحرك الإدارات الديمقراطية إصبعًا باتجاهها، بل على النقيض، لم تسع إدارة بايدن إلى عكس أثر القرار التنفيذي لإدارة ترامب بإغلاق القنصلية الفلسطينية في واشنطن وقطع العلاقات الدبلوماسية مع السلطة الفلسطينية، ولم تحرك ساكنًا بشأن موقعية سفارتها في القدس، إقرارًا منها بسياسة ترامب الرامية إلى تهميش الفلسطينيين وفرض الأمر الواقع عليهم.
يتفق ترامب مع هاريس بكون حماس حركة إرهابية لا مستقبل لها في المنطقة، إلا أنه ومن قبله الإدارات الجمهورية عمومًا أكثر تصالحًا مع النفس حين يتعلق الأمر بالحل المنظور للصراع في الشرق الأوسط، فترامب لا يرى الفلسطينيين ككل ويؤيد الاستيطان على أراضيهم ويرى في القدس كاملة عاصمة لـ”إسرائيل” ويعتقد بضرورة ضم الضفة الغربية والاعتراف بالجولان وبقية المناطق المحتلة كجزء أصيل من دولة “إسرائيل” التي يعطيها مطلق السيطرة والتحكم فيما أسماه “دولة فلسطينية منزوعة السلاح”.
تتضح هذه الرؤية من خلال سعي ترامب خلال فترة رئاسته السابقة حثيثًا لإنجاز صفقة القرن وتطبيع العلاقات الإسرائيلية العربية وتوسيع رقعة “إسرائيل” وتحييد كل ما من شأنه أن يقلق منامها، وهو اليوم لا يختلف عما كان عليه قبل سنوات أربع، فالرجل لا يريد وقفًا لإطلاق النار طالما أن “إسرائيل” لا تريد، بل ويعتقد أن دعوة هاريس لإيقاف إطلاق النار هي فرصة لحماس لإعادة تنظيم نفسها وإطلاق هجمات السابع من أكتوبر مجددًا.
إذًا، فترامب مع إنهاء الحرب لكن بما يحقق انتصارًا استراتيجيًا لـ”إسرائيل”، لا من ناحية الأمن وحسب، لكن من ناحية السيطرة والحكم وضم الأراضي، فحين سئل عن موقفه من تعنت نتنياهو في مواصلة الحرب، قال: “عليه أن يفعلها ولكن بسرعة”، وهذه دعوة مبطنة لارتكاب مهلكة جماعية عامة وطاغية بزمن قصير ونتائج كارثية.
بل إن ترامب صرّح بوضوح خلال مقابلة مع صحيفة “التايمز” أبريل/نيسان الماضي أن ما كان يؤمن به من “حل للدولتين”، وهو حل هزلي وصوري، بات صعبًا جدًا جدًا بعد هجمات السابع من أكتوبر، ما يعني أن الفلسطينيين بانتظار أيام عجاف في حال تربع ترامب مرة جديدة على عرش البيت الأبيض.
الهجرة والغزّي كمثال على الإرهاب
عادت قضية المهاجرين غير الشرعيين إلى الواجهة في برامج الجمهوريين بتوليفة جديدة هذه المرة، فالمسألة التي تعد لبّ السياسة الجمهورية والبعبع الذي يستخدمه الحزب لتوجيه الناخبين تمحورت حول المناطق الآهلة بالإرهابيين وكان قطاع غزة على رأسها بعد أن كانت قائمة منع تأشيرة السفر المعروفة بـ“منع المسلمين” والتي فرضها ترامب بقرار تنفيذي خلال الأسبوع الأول من فترة رئاسته السابقة تضم مناطق مثل سوريا واليمن والعديد من بلدان إفريقيا.
القرار الجدلي فرّق بين العديد من العائلات وتسبب في ترحيل عدد كبير من العرب والمسلمين عن أراضي الولايات المتحدة وإلغاء معاملات الهجرة لأعدادٍ هائلة منهم، لكن ما إن تولى بايدن فترة رئاسته الحالية حتى ألغى عددًا من قرارات ترامب التنفيذية ومن بينها قرار منع التأشيرة ودخول المسلمين.
يعود شبح التهديد ليراوح مكانه فوق رؤوس العائلات التي تحاول لمّ شملها على الأراضي الأمريكية مع تهديدات ترامب الأخيرة، وهو التهديد الذي لم يقتصر على الإرهاب الغزاوي لدى الحزب الجمهوري وأبواقه الإعلامية على الكلام فحسب، ففي سابقة خطيرة قامت قنوات إعلامية أمريكية بتلقف خبر محاولة حملة جوازات فلسطينية التسلل عبر حدود المكسيك إلى الولايات المتحدة، مستغلين جزئية سجلهم الأمني الذي يشير إلى اعتقالهم لدى سلطات الاحتلال قبل سنوات بتهمة رمي الزجاجات الحارقة، وهي تهمة معتادة بين الشباب الفلسطيني ولا تتجاوز مدة الحبس عليها، خاصة إذا لم تتسبب في أضرار فعلية، عدة أشهر.
أثار الخبر الذي تمت صياغته بكثير من التهويل باتجاه تسلل مجموعة إرهابية تخطط للقيام بعمليات تفجير على أراضي الولايات المتحدة بلبلة بين الأمريكيين وأوساط المسؤولين، وتمّ تسويق الواقعة كدليل على فشل إدارة بايدن وما ينتظر الأمريكي حال فوز هاريس خليفة بايدن ونائبته.
الإدارة الديمقراطية من ناحية أخرى تنتهج نهجًا مختلفًا في مسألة الهجرة، فمن ناحية قدمت تسهيلات عديدة للمهاجرين الفلسطينيين وحاملي الفيزا الذين تواجدوا على الأرض الأمريكية قبل السابع من أكتوبر ويرغبون بالبقاء في الولايات المتحدة خلال فترة الأحداث الدامية في الشرق الأوسط، منها تسهيل الحصول على لجوء سياسي وسن تشريعات تمدد فترة بقاء حاملي الفيزا وعملهم في الولايات المتحدة مؤقتًا لحين انتهاء الوضع القائم أو تحسن الظروف.
من ناحية أخرى، لم تفتح الإدارة باب الهجرة لسكان القطاع وقصرت إجراءات الهجرة على الفئات المعتادة التي تملك قريبًا من الدرجة الأولى كمواطن أمريكي ودون كثير من التسهيلات، كتلك المقدمة للمنكوبين في أوكرانيا.
ورغم أن هاريس لم تفصل في سياستها القادمة تجاه الهجرة، فإنها بينت أن حالات اللجوء السياسي سيتم مراقبتها وفرض قيود عليها لتنظيمها، لكنها لن تُمنع بصورة قطعية ولن يتم فصل العائلات بترحيلات جماعية مجحفة كما وعد ترامب.
سياسة تكميم الأفواه.. سنطرد الغزيين
استغل ترامب أيضًا مسألة الاحتجاجات التي اندلعت في شوارع الولايات المتحدة وحرم جامعاتها بعد السابع من أكتوبر. فقد ألبس المرشح الجمهوري المسألة التي تعدّ حرية تعبير مكفولة في الدستور الأمريكي لباس التخريب والإرهاب وتنفيذ الأجندات الداخلية، وتجاهل تمامًا حقيقة أن كثيرًا من المحتجين من الأمريكيين البيض، بل ومن اليهود أنفسهم، واتهمهم بالانتماء إلى حماس والعمل لصالحها داخل الأراضي الأمريكية، متوعدًا إياهم بالطرد منها.
أما الجامعات الأمريكية التي كان الحزب الجمهوري نفسه قد اتهمها بمعاداة السامية إبان الاحتجاجات الطلابية التي بلغت أوجها أبريل/نيسان ومايو/أيار الماضيين وجرّ رؤساءها إلى التحقيق والمساءلة، فقد كانت مادة دسمة لبرنامج ترامب الانتخابي، حيث توعد الأخير بسحب التمويل الفيدرالي من كل جامعة لا تلتزم بمحاربة معاداة السامية.
ويقصد هنا المعنى الموسع الذي صاغه تحالف إحياء ذكرى الهولوكوست وصادقت عليه إدارة ترامب السابقة والذي يضم في جنباته لا معاداة اليهود كمنتمين لديانة ما وحسب، لكن معاداة وانتقاد “إسرائيل” بوصفها التعبير الجمعي عن حق اليهود بتقرير المصير، ويحمل هذا التهديد قلقًا حقيقيًا من شكل موجات القمع التي تنتظر الجامعات وتحولها إلى المكارثية ومطاردة المحتجين والمعتصمين من طلاب وموظفين وأساتذة جامعيين.
أما بالنسبة لهاريس، فقد عبرت عن موقف وسطي فيما يتعلق بمظاهر الاحتجاج في الجامعات، فبينما انتقدت المرشحة الرئاسية بعض المواقف التي تحمل معاداة للسامية وبعض التجاوزات التي عمدت إلى التخريب والعنف، فقد وضحت هاريس أنها تتفهم تمامًا غضب الطلاب وأن العاطفة الإنسانية التي تقودهم جديرة بالاحتفاء والدعم.
تكرر هاريس بذلك موقف بايدن من المظاهرات وتتفوق عليه باللغة العاطفية التي تفصل في المعاناة الإنسانية وراء هذه الاحتجاجات مرة أخرى، دون أن تواجه السبب الرئيس الذي يساهم في استمرار هذه المعاناة وهو الدعم العسكري غير المحدود الذي تقدمه الولايات الأمريكية لـ”إسرائيل”.
البعبع الإيراني.. ضرب من وراء الحجب
لم يدع ترامب ملف إيران وحلفائها في المنطقة ليفلت من يده، فالرئيس السابق الذي فرض عقوبات غير مسبوقة على طهران وانسحب في قرار مفاجئ من الاتفاق النووي مع إيران، حمّل إدارة بايدن المسؤولية عن التغول الإيراني على “إسرائيل” بعد السابع من أكتوبر، سواء بصورة مباشرة أم عبر وكلائها في المنطقة.
وأكد ترامب أن رفع إدارة بايدن للعقوبات التي فرضتها إدارته ساهم في تمويل إيران وزيادة ثروتها والتي بدورها تدفقت إلى جماعات إرهابية مثل حماس و”حزب الله” والحوثيين، وأنه بمجرد عودته للبيت الأبيض سيتعامل مع هذه المسألة “بسرعة وفاعلية”.
بالمثل، فإن هاريس ترى في إيران العدو الحقيقي لـ”إسرائيل” والتهديد العضوي لوجود الدولة اليهودية ومصالحها في المنطقة، فقد أكدت في أكثر من مناسبة وفي أثناء المناظرة الرئاسية اليتيمة لها في مواجهة ترامب أنها ستواصل تسليح “إسرائيل” بهدف مواجهة إيران ووكلائها في المنطقة، وتابعت بكثير من القلق مع رئيسها بايدن من غرفة العمليات الهجمة الصاروخية الاخيرة لإيران على “إسرائيل”، مؤكدة إدانتها للهجمات وجهودها المتواصلة لردع إيران وإيقاف إرهابها في المنطقة.
غير أن سياسة هاريس تجاه إيران، كما يرى مراقبون، قد تقترب من سياسة باراك أوباما أكثر من رئيسها المباشر بايدن، وذلك لسبب بسيط وهي الأسماء التي تحيط بها وتشكّل فريقها المقرّب في حال فوزها بالانتخابات، فمعظم هذه الأسماء خدمت في إدارة أوباما وكانت لهم مواقف دبلوماسية من الملف النووي الإيراني وحل الدولتين.
يبرز من هذه الأسماء: فيلب جوردون وهو مستشار الأمن القومي لهاريس، وإيلان جولدنبيرج الذي يشغل منصب مستشار شؤون الشرق الأوسط لمكتب هاريس الحالي، وكلاهما مقربان من هاريس وملمّان بالقضية الفلسطينية والملف الإيراني، وسبق لهما العمل على هذه القضايا الشائكة مسبقًا تحت رئاسة أوباما.
يميل الرجلان أيضًا لاحتواء الخلافات بين “إسرائيل” وجيرانها وأعدائها التقليديين، كما تربطهما علاقة متوترة بحكومة نتنياهو وأطماعها الهستيرية في المنطقة، ورغم أن الظرف التاريخي الحالي مختلف تمامًا عمّا كانه قبل أعوامٍ عديدة، فالأرجح أن إدارة تقودها هاريس لن تدخل في مواجهة مفتوحة ومعلنة مع إيران وستحافظ على اللعب في الظل وفي حدود القواعد المعتادة ما لم يحدث تغير دراماتيكي مفاجئ بعدها.
توحدت الإدارات الأمريكية المتعاقبة جمهورية كانت أو ديمقراطية على خدمة “إسرائيل” وحمايتها وإن تغيرت الوجوه، إلا أن الوسائل اختلفت والسياسات تباينت، فبين من يسعى إلى مواجهة مفتوحة وإنهاء سريع وفعّال للقضية، ومن يسعى إلى إمساك العصا من المنتصف وتأجيل مصير محتوم للانفجار في الشرق الأوسط. مسافة شاسعة تحددها الانتخابات الأمريكية القادمة بلا شك، وتوجه دفّتها أحداث السابع من أكتوبر وما تلاها من تغير جوهري في المرحلة ومتطلباتها.