ترجمة حفصة جودة
لقد حقق بوفاته ما عمل لأجله طوال حياته، كان جمال خاشقجي سعوديًا وطنيًا ومصلحًا ساعدته مهنته في الصحافة على كشف حقيقة السعودية وعلاقتها المنافقة مع الغرب، ومن خلال وفاته القاسية والوحشية؛ نجح خاشقجي بفاعلية في مهمته بشكل لم يكن ليتخيله هو أو أحد آخر.
لقد كشفت وفاة الصحفي المعارض الطبيعة البغيضة للنظام الذي يحكم المملكة، فتفاصيل القتل المروعة حسب التسريبات التركية من استخدام الطبيب الشرعي لمنشار العظام وحثه لزملائه على استخدام سماعات الأذن والاستماع إلى الموسيقى لتشتيت انتباههم عن المهمة الشنيعة التي يقومون بها وإعادة طلاء جدران القنصلية بشكل سريع، كل هذا يؤكد الحقيقة التي نعرفها جميعًا، أن بيت آل سعود غارق في الدماء.
إضافة إلى سجلها في قطع الرؤوس وبتر الأطراف داخل البلاد، خلقت السعودية منذ 3 سنوات مذبحة في اليمن وجوعت أهله وحرمتهم من الطعام والدواء، مما خلق أزمة تقول عنها الأمم المتحدة إنها أسوأ كارثة إنسانية على وجه الأرض، يمكنني أن أتفهم إحباط النشطاء في اليمن وكيف أن وفاة شخص واحد جذبت انتباه العالم بينما تجاهل موت عشرات الآلاف في تلك الحرب القذرة، لكن في بعض الأحيان يحدث أن قصة أحدهم – حياته وموته – تنير الطريق لقصص أخرى، وهذا ما حدث مع خاشقجي.
لم يوضح موته حقيقة السعودية فقط، لكنه بشكل خاص كشف قبح ولي العهد وحاكمها الفعلي محمد بن سلمان، يقول المحللون إنه منذ البداية كان ابن سلمان يحاول إظهار قوته، من حرب اليمن التي كانت مقياسًا لقوة السعودية، مرورًا باعتقال المئات العام الماضي من بينهم أفراد في العائلة الحاكمة، وحتى الوقاحة المطلقة في قتل خاشقجي في دولة أجنبية بإرسال 15 مسؤولاً سعوديًا إلى إسطنبول ومعهم معدات تقطيع جسده ويليهم عمال النظافة لمحو الآثار قبل أن تفتش السلطات التركية المبنى، مما يعني أن هذا الحاكم يبعث برسالة: يمكنني أن أقتل أعدائي وأفلت من العقاب.
كثير ممن يغضبون لأجل المذبحة في اليمن لا يظهرون أي غضب تجاه سفك الدماء في سوريا
ومن يستطيع أن يلومه على هذا التفكير؟ فبعد كل شيء لم يتدخل العالم لإيقاف ما يحدث في اليمن ولم يعره أي انتباه، والأمر كذلك بالنسبة لاختطاف سعد الحريري رئيس وزراء لبنان في أثناء زيارته الرياض في نوفمبر الماضي وظهوره في مقطع فيديو مثل الرهائن وهو يقرأ بيان استقالته الذي كتبه له السعوديون.
إذًا؛ هذا هو أسلوب الشاب المستبد الذي لم يقم مؤخرًا سوى بإنشاء “فرقة سفاحين” لتنفيذ عملياته السرية الخاصة التي تبدو وكأنها فرقة موت مكلفة بقنص أي شخص لا يملك الكثير من الحظ ليجد نفسه في قائمة أعداء ابن سلمان.
يبدو أن ابن سلمان اختار مسؤول مخابرات ليكون ضحيته في عملية إسطنبول، لكنه دافع في البداية عنه، فلفترة من الوقت كانت وسائل الإعلام الرسمية السعودية تقول إن الـ15 مسؤولاً سعوديًا الذين سجلت وجودهم الكاميرات التركية هم في الحقيقة سياح والاتهامات الموجهة لهم غير عادلة.
بالطبع هذه التبريرات مثيرة للضحك وتعلن إفلات القتلة من العقاب، مثلما حدث في حادثة تسميم سكريبال “عميل روسي بريطاني”، حيث أصر القتلة أنهم كانوا يشاهدون معالم مدينة سالزبوري، هذه الجريمة تكشف لنا حقيقة أخرى تؤكدها وفاة خاشقجي ألا وهي: نفاق الغرب، فهؤلاء المسؤولون في واشنطن ولندن طالبوا موسكو مباشرة بعقاب المسؤولين عن محاولة قتل سكريبال، لكن لسانهم انعقد أمام ما تفعله الرياض وأصبحوا بحاجة لانتهاء التحقيقات التي تجريها السعودية بنفسها، لك أن تتخيل كم كانوا سيسخرون لو أن كبير محققي بوتين قام بالتحقيق في قضية سكريبال.
هذه المعايير المزدوجة لا تتعلق بالحكومات فقط، فالكثير ممن يدينون نفاق الغرب وطالبوا باتخاذ إجراء سريع ضد السعودية؛ كانوا يتعاملون بحذر في قضية سكريبال وكان متفهمين لجميع التبريرات حتى التفسيرات الشاذة.
يرى الآخرون أن الواقعية السياسية ستنتصر وأن الغرب لن يتخذ أي رد فعل ضد السعودية لأنه بحاجة لها
وبنفس الطريقة فكثير ممن يغضبون لأجل المذبحة في اليمن لا يظهرون أي غضب تجاه سفك الدماء في سوريا، لكن الروح التي يزهقونها هي روح سواء أزهقها حلفاء الغرب مثل السعودية أو “إسرائيل” أو أمريكا نفسها أو أزهقها أعداء الغرب مثل بشار الأسد وبوتين.
بالطبع لا جديد بشأن المعايير المزدوجة فحكومات أمريكا وبريطانيا يفعلون ذلك منذ عقود بسبب النفط السعودي ومبيعات الأسلحة، لكن خاشقجي سلط الضوء على الجديد في عهد ترامب، فترامب أكثر انفتاحًا من أسلافه وهو لا يخجل من الاعتراف بأنه لا يرغب في خسارة مكاسب صفقات السلاح.
كما أن ترامب يتساهل بشكل شخصي مع ابن سلمان بسبب الروابط التجارية، خاصة عندما أشار كوشنر – زوج ابنته – إلى أنه من الممكن الاعتماد ماديًا على ابن سلمان، الأكثر من ذلك أن الرؤوساء السابقين كانوا يتحدثون بخجل عن انتهاك السعودية لحقوق الإنسان، أما ترامب فهو يشجع ابن سلمان على كل خطوة مستبدة يخطوها، ففي الوقت الذي تُتهم في السعودية بقتل صحفي، كان ترامب يفخر بالسياسي الأمريكي الذي اعتدى بالضرب الشديد على أحد صحفيي الغارديان، ولذا فمرة أخرى من يلوم ابن سلمان إذا كان يؤمن بأن ترامب سيتساهل مع روايته عن الحادث لإيقاف الصحافة المزعجة عند حدها؟
وبحسب ما يقوله كوشنر فابن سلمان سيتمكن من تجاوز العاصفة الحاليّة وسوف تفقد وسائل الإعلام اهتمامها بالأمر قريبًا، ويرى الآخرون أن الواقعية السياسية ستنتصر وأن الغرب لن يتخذ أي رد فعل ضد السعودية لأنه بحاجة لها، لكن الرياض لا تتعاون مع الغرب ضد إيران والإرهاب دون مقابل فهي تفعل ذلك لأجل مصلحتها الخاصة.
هذه المصلحة الشخصية ستظل موجودة حتى لو فرضت الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهم عقوبات على غرار قانون “ماغنيتسكي” (قانون يسمح للولايات المتحدة بمعاقبة منتهكي حقوق الإنسان في جميع دول العالم) ومعاقبة المسؤولين عن تلك الجريمة، وأقل ما يمكن أن نفعله هو تكريم الرجل الذي حقق بموته ما سعى إليه طول حياته: إجبار العالم على البحث في ظلام مملكة الصحراء.
المصدر: الغارديان