ترجمة وتحرير: نون بوست
بعد أن طالتها عمليات تدمير الآثار الأخيرة، تماما كما حدث في تمبكتو في مالي، يتم تطوير عدد متزايد من المشاريع الكبرى التي تعمل على تخليد ذكرى التراث المهدد. وقد تمت إعادة إحياء هذا التراث في صور ثلاثية الأبعاد، وذلك لتحقيق أهداف عديدة منها الحفاظ على ذكرى هذه الآثار حتى يُواصل الباحثون العمل عليها، علاوة على إبراز جمالية هذه المواقع الرائعة التي دمرتها الحروب.
في معرض “المدن الألفية” التابع لمعهد العالم العربي، وبفضل صور ثلاثية الأبعاد، نتجول بين أطلال مدينة الموصل العراقية، كما نتسلل إلى داخل أسواق حلب في سوريا. وتُعتبر هاته المعالم من أبرز كنوز الحضارة التي تم تدميرها إلى الأبد. فضلا عن ذلك، تم اختيار موقعين أثريين آخرين على غرار تدمر في سوريا ولبدة الكبرى في ليبيا.
افتتح المعرض في معهد العالم العربي في العاشر من تشرين الأول / أكتوبر.
لا تعتبر هذه المبادرة مجرد عرض، بل حافظة إلكترونية وذاكرة رقمية سيتم توريثها للأجيال القادمة. ووفقا لما شدّدت عليه أمينة المعرض، أوريلي كليمنتي رويز، لا يعرض معرض معهد العالم العربي عملا فنيا واحدا، حيث قالت: “قررنا أن ننظم معرضًا لا يقدم أعمالًا فنية. ففي الواقع، تُسبب لنا الصور كبيرة الحجم صدمة هائلة وهو ما يجعل الزائر يُدرك حجم الضرر الحالي الذي لحق بهذه الأماكن. ولهذا، اخترنا هذه المواقع لأنها كانت تحتوي على آثار جميلة للغاية”.
أوريلي كليمنتي رويز، أمينة معرض “المدن الألفية” في معهد العالم العربي.
كان الدمار الذي لحق بالعالم العربي في السنوات الأخيرة أشد قسوة وفتكا من ذاك الذي عرفته المنطقة على امتداد قرن كامل. ولذلك، هناك ضرورة ملحة تتمثل في تحديد قائمة المواقع الأثرية من أجل أن تظل خالدة.
تخليد التراث في الذاكرة من أجل إعادة البناء
أنتجت شركة “إيكونام” الصور التي تم عرضها في هذا المعرض. وقد تنقلت إلى عين المكان من أجل رقمنة عدد كبير من المواقع الأثرية. كما تم التقاط مئات آلاف الصور بواسطة الطائرات من دون طيار. وتنشط هذه الشركة اليوم في 25 دولة للحفاظ على المواقع عن طريق رقمنتها. وقد صّرح رئيس إيكونام، إيف أبيلمان، لوكالة “فرانس برس” قائلا: “لقد انتقلنا إلى حلب بعد المعركة مباشرة، قبل أن نبدأ بتنظيف المدينة. كما كان من الضروري الحفاظ على مخلفات الدمار”.
تمت رقمنة مدينة الموصل العراقية بناء على طلب من اليونسكو. ويقع جامع النوري الذي دمره تنظيم الدولة في صلب برنامج رئيسي يتمحور حول إحياء روح الموصل
إن امتلاك أثر ما يجعلك تُفكر في مسائل عديدة، على غرار: هل يجب الترميم، وإعادة البناء أم لا؟ وكيف سيتم ذلك؟ في الأثناء، تمنح البيانات، التي تم جمعها، فرصة للعلماء حتى يطرحوا على أنفسهم الأسئلة المناسبة ويواصلوا العمل على دراسة الآثار، حتى وإن كانت قد اختفت من هذا العالم.
من جانبها، تعترف أوريلي كليمنتي رويز أنه “بالنسبة لمدينة تدمر، التي تُعد موقعا قديما للغاية كان تنظيم الدولة قد دمر عدد من آثاره، وفي حال أعيد بناؤها، فكيف سيتم ذلك؟ هل سيتم إعادة إحياء صورتها الأصلية التي تعود إلى 20 قرنا خلت والتي لا يعرف عنها أحد شيئا، أو بنائها كما كانت قبل وصول تنظيم الدولة إليها؟ ففي موقع حضري كهذا، يكون الأمر مختلفا للغاية”. كما تابعت رويز أن “عددا من السكان يعيش هناك، ويجب إعادة بناء جميع هذه المنازل. ويريد السكان العودة إلى مدينتهم كما من الضروري إعادة الحياة الاجتماعية إلى ما كانت عليه قبل الدمار. وبطبيعة الحال، يُمكن لهذه الوسائل التكنولوجية تقديم المساعدة في هذه المسألة”.
صورة ثلاثية الأبعاد لساحة الجامع الأموي في حلب، سوريا، بعثة نيسان / أبريل 2017.
على سبيل المثال، تمت رقمنة مدينة الموصل العراقية بناء على طلب من اليونسكو. ويقع جامع النوري الذي دمره تنظيم الدولة صلب برنامج رئيسي يتمحور حول إحياء روح الموصل. ويشير معهد العالم العربي في باريس إلى وجود أموال مهمة للغاية موجهة لإعادة بناء هذا الجامع.
لكن، وفقا لأوريلي كليمنتي رويز، يتمثل السؤال الحقيقي المطروح الآن في “كيفية القيام بذلك. ويُمكن أن تُساعد جميع الصور التي تم التقاطها في تنفيذ هذه الخطوة. وفي الحقيقة، أصبح مبنى هذا الجامع في حالة خراب، ولم يتبق منه سوى جزء بسيط للغاية من القبة. كما باتت المئذنة مغطاة تحت الأنقاض. تجدر الإشارة إلى أن الجامع الذي يعود إلى القرن الثاني لم يعد موجودا تقريبا”.
يعكس مثال آخر ملموس هذا الأمر، وهو معبد بعل شمين في تدمر. وفي هذا الصدد، يقترح المعرض إعادة بناء افتراضية لهذا المعبد على الطريقة التي كان عليها قبل أن يتم تدميره من طرف تنظيم الدولة في سنة 2015. لذلك، عرض معهد العالم العربي صورا لشركة إيكونام ووثائق بول كولار التابعة لجامعة لوزان. وتمتلك الجامعة المحفوظات، والدفاتر، والرسومات أو الخطط، التي تتيح إمكانية إعادة إعمار هذا الحرم من جديد.
قاعدة بيانات للتراث السوري وبوابة ويب للشرق الأدنى
منذ سنتين، تم تسجيل أكبر المواقع السورية المهددة بالحرب في قاعدة بيانات ضخمة على الإنترنت، كانت ثلاثية الأبعاد. وقد تم إنشاء موقع “التراث السوري” بالشراكة مع إنريا ومايكروسوفت والمعهد الوطني للبحوث في علوم الحاسوب والأتمتة والمدرسة العليا للأساتذة. ويشمل هذا المشروع قلعة الحصن، وقلعة دمشق، والجامع الأموي أو المسرح الروماني في جبلة. وكانت النتيجة متميزة للغاية، حيث أنه بفضل الصور التي تم إنشاؤها بواسطة الكمبيوتر، بات من الممكن زيارة هذه المعالم افتراضيا وخياليا.
قامت شركة إيكونام الفرنسية المبتدئة والمديرية العامة للآثار والمتاحف السورية برقمنة مجموعة المتاحف السورية الرئيسية، على غرار متحف اللاذقية
في إحدى بياناته، يشرح مدير شؤون المتاحف في المديرية العامة للآثار السورية، مأمون عبد الكريم، أن “هذا الحل يمنح الأمل الحقيقي في إعادة إحياء هذه المواقع الأثرية، كما سيسمح بتخليدها في الذاكرة البشرية. وستُجنب العملية التي تقوم بها المديرية العامة للآثار والمتاحف السورية، بمشاركة إيكونام، البشرية خسارة فادحة لن يتم تعويضها أبدا”.
بالإضافة إلى هذه المواقع، قامت شركة إيكونام الفرنسية المبتدئة والمديرية العامة للآثار والمتاحف السورية برقمنة مجموعة المتاحف السورية الرئيسية، على غرار متحف اللاذقية. كما تم القيام بعمليات مماثلة في أفغانستان وإيطاليا، وتحديدا في موقع بومبي، فضلا عن سلطنة عمان وباكستان وهايتي.
هناك مشروع آخر مماثل للحفاظ على التراث في الشرق الأدنى بطرق رقمية، أطلقته وزارة الثقافة الفرنسية سنة 2016 على إحدى مواقعها. ويوفر هذا الموقع صورا جوية لمدينتيْ نمرود العراقية وماري الواقعة على ضفاف نهر الفرات في سوريا، وأخرى ثلاثية الأبعاد، فضلا عن صور لعلماء آثار ومقابلات حوارية مع العلماء.
المحافظة على التراث؛ أولوية اليونسكو
بتاريخ 20 آذار/ مارس 2017، وبالاشتراك مع فرنسا والإمارات، أعلنت اليونسكو عن مبادرة “التحالف الدولي لحماية التراث في مناطق النزاع”. وحين تم إطلاقها في متحف اللوفر في باريس، أعلن الرئيس الفرنسي آنذاك، فرانسوا هولاند، الذي جعل من هذا التحالف أولوية قصوى، أنه “لا يمكن فصل حماية التراث عن حماية الحياة البشرية”.
في سنة 2016، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي حكما بالسجن لمدة تسع سنوات على الجهادي المالي أحمد الفقي المهدي. وقد تمت إدانته بارتكاب جرائم حرب بسبب تدمير أضرحة مصنفة ضمن التراث العالمي في تمبكتو المالية.
من جهتها، أفادت باريزة خياري، العضوة السابقة في مجلس الشيوخ والرئيس السابقة لهذا التحالف قائلة: “قررنا إعادة تأهيل عدة مشاريع، بما في ذلك متحف الموصل، وقبور القديسين الصوفيين في مالي، ومن ثم ديراً في شمال العراق. كما سنقوم أيضا بإطلاق دورات تدريبية في هذه الدول لتعليمهم كيفية إعادة بناء المعالم الأثرية”. وتعود فكرة هذا التحالف إلى سنة 2015، عندما اقترح تقرير مكون من 50 إجراء إنشاء صندوق هبات دولي مخصص لحماية التراث وإعادة بنائه.
الجدير بالذكر أنه في سنة 2016، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي حكما بالسجن لمدة تسع سنوات على الجهادي المالي أحمد الفقي المهدي. وقد تمت إدانته بارتكاب جرائم حرب بسبب تدمير أضرحة مصنفة ضمن التراث العالمي في تمبكتو المالية. وكانت هذه المحاكمة تاريخية، ذلك أنها مثلت أولى الحالات التي يتم فيها اعتبار تدمير التراث الثقافي “جريمة حرب”.
المصدر: فرنس كيلتير