“كأنه إبرة قد اختفت في كومة قش”، كانت هذه الجملة الأخيرة التي صرح بها أحد قادة جيش الاحتلال الإسرائيلي المكلفين بعملية ملاحقة المطارد الفلسطيني الشاب أشرف نعالوة، منفذ عملية “بركان” البطولية التي أسفرت عن مقتل مستوطنَين إسرائيليين وإصابة ثالث بجراح خطيرة، شمال الضفة الغربية.
منذ الـ7 من أكتوبر/ تشرين أول الحاليّ -وهو موعد الذي حدده المطارد أشرف نعالوة لتنفيذ عمليته- يعيش جيش الاحتلال الإسرائيلي حالة تخبط وإرباك غير مسبوقة بعد فشل كل منظوماته الأمنية والاستخباراتية المتطورة، في إلقاء القبض عليه أو حتى العثور على طرف خيط صغير يوصل له.
المطارد الفلسطيني نعالوة، طوال الـ15 يومًا الماضية، نجح مرتين في ضرب منظومة أمن “إسرائيل” في مقتل، أولها كان بنجاحه في اقتحام مستوطنة “أرئيل” القريبة من مدينة سلفيت شمالي الضفة، وتنفيذ عمليته البطولية بتخطيط منفرد وذكاء وشجاعة تُحسب له، فيما تجلت الضربة الثانية بنجاحه في الهروب من جيش الاحتلال وتخفيه عن أعين عملائه وحتى أجهزة أمن السلطة الفلسطينية التي تجبرها لعنة “التنسيق الأمني” على مساعدة جيش الاحتلال في العثور على المطارد الفلسطيني.
العملية التي نفذها نعالوة صاحب الـ23 عامًا، وباتت تُعرف باسم “عملية بركان”، هزت أمن الاحتلال الذي لطالما تغنى بفرضه الهدوء النسبي في الضفة المحتلة
وفشلت “إسرائيل” طوال الأسبوعين الماضيين في القبض على المطارد نعالوة، وتكثف قوات الاحتلال عمليتها العسكرية الواسعة الأيام الأخيرة، في ضاحية شويكة وبلدة بيت ليد في طولكرم شمالي الضفة الغربية.
العملية التي نفذها نعالوة صاحب الـ23 عامًا، وباتت تُعرف باسم “عملية بركان”، هزت أمن الاحتلال الذي لطالما تغنى بفرضه الهدوء النسبي في الضفة المحتلة، وفشل في توقعها ثم في تعقب المطارد أشرف بعد تنفيذها، أو في العثور عليه بعد أيام من استنفار قواته بمساعدة مخابرات السلطة في العثور عليه.
فيديو يوثق انسحاب نعالوة بعد تنفيذ عمليته
القنبلة الموقوتة
ويظهر تخبط الاحتلال جليًا في معاقبته عائلة المطارد، فاعتقل أمجد شقيق المطارد أشرف وشقيقته فيروز التي أطلق سراحها بعد تحقيق لساعات عدة، واحتجز والده وأقاربه بظروف قاسية، وحقق معهم وسط سيل من التهديد والوعيد.
رامي أبو زبيدة المختص في الشأن العسكري والإسرائيلي، قال إن “عملية بركان تشكل رقمًا صعبًا وهاجسًا مخيفًا لدى قادة الاحتلال الإسرائيلي، بسبب فشله في توقعها أو العمل على الحد من وقوعها، حيث إنها لم تتخذ الطابع المنظم والهرمي في تنفيذها التي من الممكن إحباطها”.
“عملية بركان” أعادت بريق العمليات الفردية مجددًا على الساحة، لتثير مخاوف المستوطنين وأجهزة استخبارات الاحتلال
ويضيف أبو زبيدة أن الاحتلال راهن في الفترة الأخيرة على خفض وتيرة العمليات في الضفة، من خلال حملات الاعتقال اليومية ومتابعة النشطاء في الضفة وسطوة الأجهزة الأمنية، وتأتي عملية بركان لتكسر هذا التفكير، وتفشل جهوده في تدجين الضفة الغربية المحتلة، بحسب تعبيره.
مؤكدًا في الوقت نفسه أن “منفذ العملية ضرب منظومة الأمن الإسرائيلية من حيث لا تحتسب، وتتميز هذه العملية بدرجة الجرأة والتحدي لدى منفذها”، موضحًا أن تخطيطها ناجح ومحكم، لأنها تتلافى رقابة أمن الاحتلال بالكتمان والسرية والاحتياطات الأمنية الفعّالة والكفاءة القتالية بالتنفيذ والانسحاب.
لحظة انسحاب المنفذ نعالوة
ونوه الباحث العسكري أن اختباء منفذ العملية حتى اللحظة يمثل قنبلة موقوتة في وجه الأجهزة الأمنية لدى الاحتلال الإسرائيلي، حيث أصبح المطلوب رقم واحد في الضفة المحتلة، فهو شخص مسلح، ولديه القدرة على تنفيذ المزيد من العمليات الفدائية.
وبيّن أبو زبيدة أن أجهزة أمن الاحتلال ستجتهد في العثور على منفذ العملية بكل وسيلة ممكنة وبأسرع وقت، بالتعاون مع سلطة التنسيق الأمني، ولن تسمح بعودة نماذج المطاردين، لما تشكله من مصدر إلهام للشباب الفلسطيني، فتتعامل بمنطق القصاص أولًا بأول.
وختم أبو زبيدة القول بأن منفذ العملية له القدرة على التخفي فترة طويلة، بسبب عوامل التنسيق الأمني والمساعدة الأمنية التي توفرها الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية، كنماذج أحمد جرار وباسل الأعرج، ساهمت في سرعة طي هذه الملفات والتخلص منها، لما تمثله من خطر على سياسية التنسيق الأمني.
الذئب المنفرد
“عملية بركان” أعادت بريق العمليات الفردية مجددًا على الساحة، لتثير مخاوف المستوطنين وأجهزة استخبارات الاحتلال، ورغم تلقائية العمليات الفردية واعتمادها غالبًا على السلاح الأبيض أو الناري الخفيف أو المركبات للدهس، فإن تأثيرها النفسي على المستوطنين كبير للغاية.
العمليات الفردية تنفذ بقرار فردي غالبًا، وهذا يحرم الاحتلال من فرصة اكتشافها عبر التجسس على الاتصالات باستخدام التكنولوجيا المتطورة التي يمتلكها
ويشعر المستوطنون في السنوات الأخيرة بنوع من الاطمئنان وهم يتجولون في شوارع الضفة، مستفيدين من واقع أمني معقد، نتج عنه تراجع وتيرة العمليات المنظمة إلى حد كبير. وأخطر ما في العمليات الفردية – بحسب تقديرات الدوائر الأمنية الإسرائيلية – صعوبة التنبؤ مسبقًا بنوايا منفذيها ولا موعدها ولا مكانها، إلا بعد وقوعها أو قبل ثوانٍ معدودة فقط، ما يجعل من شبه المستحيل منعها.
فالعمليات الفردية تنفذ بقرار فردي غالبًا، وهذا يحرم الاحتلال من فرصة اكتشافها عبر التجسس على الاتصالات باستخدام التكنولوجيا المتطورة التي يمتلكها، وهذا الذي يميز تلك العمليات، كما يقول مختصون فلسطينيون.
ويؤكد في هذا السياق الباحث والمتابع للإعلام العبري عزام أبو العدس أن الإعلام العبري صنف هذه العملية فردية، ويطلق على هذه العمليات “الذئب المنفرد”، وهي العمليات التي لا يكون لمنفذها أي صفة أو خلفية تنظيمية.
وأوضح أبو العدس أن هناك تخوفًا كبيرًا لدى الاحتلال من عودة هذه العمليات، بفعل عوامل عديدة، أولها وأهمها انسداد الأفق السياسي وسياسة العقاب الجماعي والتضييق الاقتصادي وتوتر الأجواء بفعل “صفقة القرن” والخطوات الأمريكية والإسرائيلية والتصعيد في غزة وتزايد احتمالية شنّ حرب عليها.
أما العامل الثاني الذي يميز العمليات الفردية، بحسب أبو العدس، هو توفر الأسلحة والأدوات المستخدمة فيها، كالأدوات الحادة والمركبات، وسهولة الحصول عليها، دون الحاجة إلى إخفائها، بعكس الأسلحة النارية.
أنشأ الاحتلال وحدة “الحرب الإلكترونية”، ومهمتها مراقبة كل ما ينشر على شبكات التواصل، وعدّه مؤشرًا على نوايا الأفراد
جيش الاحتلال خلال عمليات المطاردة والبحث عن منفذ العملية
العامل الثالث، هو أن غالبية منفذي هذه العمليات ليسوا من الأشخاص الذين لديهم ماضٍ مقاومٍ، ولا يدخلون في دائرة المراقبة اليومية الحثيثة لأجهزته أو لأجهزة أمن السلطة، مثل الشاب نعالوة الحاصل على تصريح للعمل في المستوطنات.
ويشير أبو العدس إلى أن أجهزة الاحتلال راكمت خبرة كبيرة وطويلة في تتبع العمليات المنظمة وإحباطها قبل وقوعها، من خلال تتبع الاتصالات وحركة الأفراد وحركة نقل الأموال وعمليات شراء الأسلحة، وكلما زادت حركة أعضاء الخلية تزداد احتمالية اكتشافها.
ويوضح خبراء أن الاحتلال الإسرائيلي طور خلال السنوات الماضية من أساليب الحد من هذه العمليات، بالإضافة إلى سلاح الردع المتمثل بهدم منزل المنفذ والتنكيل بعائلته وحرمان أقربائه من تصاريح العمل.
ولجأ الاحتلال إلى عدة أساليب استباقيه منها تتبع منشورات شبكات التواصل الاجتماعي، ومتابعة كل منشور يوحي بنية صاحبه تنفيذ عملية، ويصل الأمر إلى اعتقاله والتحقيق معه وتهديد ذويه.
وأنشأ الاحتلال كذلك وحدة “الحرب الإلكترونية”، ومهمتها مراقبة كل ما ينشر على شبكات التواصل، وعدّه مؤشرًا على نوايا الأفراد، هو ما رفع من وتيرة الاعتقال الإداري على خلفية منشورات يفهم منها أن صاحبها يخطط لتنفيذ عملية.