تحتضن الجزائر العديد من المدن الضاربة في التاريخ التي تشتهر بتراثها العلمي والحضاري ومناظرها الطبيعية الخلابة وعلمائها الأجلاء، من بينها مدينة بجاية عاصمة القبائل الصغرى الجزائرية، التي ستكون موضوع تقريرنا الذي بين يديك، فماذا يجب أن تعرف عن هذه المدينة التي واكبت مختلف الحضارات التي عرفتها البلاد؟
بجاية ..جمال طبيعي خلاب
“صالدى” و”الناصرية” و”بوجي”، كلّها أسماء لمدينة بجاية التي تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط، شرق العاصمة الجزائر، على بعد 250 كيلومترًا منها، و93 كيلومترًا شرق تيزي وزو، و81.5 كيلومتر شمال شرق برج بوعريريج، و70 كيلومترًا شمال غرب ولاية سطيف، وعلى بعد 61 كيلومترًا غرب ولاية جيجل.
تنطق بجاية بالأمازيغية “فكايث”، وقد اختُلف في تفسير معنى اسمها، بين من يقول إن الكلمة تعني الشمع، وهي المادة التي اشتهرت المدينة بصناعتها وتصديرها في قرون سابقة، وقائل إنها أطلقت على المدينة يوم كانت منارة للعلم يقصدها الأوروبيون للتعلم.
من أهم معالم بجاية السياحية جبل “يما قورايا” الذي يجسد شكل امرأة
تشتهر بجاية التي تعتبر عاصمة منطقة القبائل الصغرى التي تضم أيضًا شمال سطيف وأجزاء من ولاية برج بوعريريج، بمناظرها الطبيعية الخلابة التي جعلتها مزارًا للسياح، فهي تتميّز بشواطئها الرائعة ورمالها الذهبية ومناخها المعتدل.
تمتد بجاية من البحر المتوسط شرق الجزائر وتحيطها على اليابسة كل من جبال البابور شرقًا وجبال جرجرة غربًا التي تتجمع في جبال البيبان في الجنوب الشرقي وتطل على السهول ومادجانة وبرج بوعريرج بوادي الصومام حيث تعرجاته وتفصل جبال جرجرة والبيبان ويفتح جنوبًا على مدينة إغرام في سهل مزروع غني بأشجار الزيتون وأشجار الفاكهة وكروم العنب ومحاصيل أخرى.
تتمتع المدينة بغطاء غابي كثيف، تغلب عليه أشجار الرماد والصنوبر بنوعيه الحلبي والبحري والبلوط الأخضر والفليني والسنديان والفلين والأوكالبتوس، بالإضافة إلى الأرز الأطلسي وفستق الأطلس، والشجيرات الكبيرة الناشئة وسط المياه التي غالبًا ما تتبع مسارات واضحة من نضارة الحياة.
تتميز بجاية بمناطق طبيعية خلابة
من أهم معالم بجاية السياحية جبل “يما قورايا” الذي يجسد شكل امرأة تمد رجليها، إضافة إلى “مغارة أوقاس” المصنفة عالميًا وتسمى الكهوف العجيبة، وكذلك “رأس كربون” وهي منطقة تقع فوق رأس الجبل وتطل على كامل بجاية التي شيدت بها فنادق سياحية وشاليهات فاخرة.
كما تحتضن المدينة “بحيرة أكفادو” أو “البحيرة السوداء” في جبال جرجرة ضمن الحديقة الوطنية جرجرة، في قلب “غابة أكفادو”، ويُطلق عليها محليًا بالأمازيغية “أقولميم أفركان”، وتمثّل ملاذًا لعشاق الهدوء والراحة وسط غابة جميلة تتميز بانتشار أشجار البلوط فيها.
تاريخ كبير
عاصرت بجاية الفينيقيين والرومان والوندال والبيزنطيين، غير أن شهرتها بدأت مع دولة بني حماد التي حكمت المغرب الأوسط (الجزائر) بين 1014 و1152 ميلاديًا، فبعد هزيمتهم من تميم بن المعز الصنهاجي، وسيطرة القبائل الهلالية على إفريقية والأثبج على المغرب الأوسط، اضطر الحماديون إلى التخلّي عن “قلعة بني حماد” والتمركز في بجاية التي بناها الناصر بن علناس بن حماد واتخذها مركزًا له بعد سنة 1068 ميلاديًا ونقل إليها الناس وأسقط الخراج عن ساكنيها.
مثّلت بجاية انطلاقة الفتح العثماني وتخليص الجزائر من الاحتلال الإسباني
كانت بجاية العاصمة الثانية لدولة بني حماد، إحدى كبريات الدول الإسلامية المؤثرة التي كانت إحدى دول الأمازيغ في المغرب الأوسط، ومثّلت أول دولة أمازيغية مستقلة تحكم الجزائر بعد الفتح الإسلامي، وقد سادت الشمال الإفريقي فترة من الزمن تجاوزت القرن.
تاريخ المدينة لم ينته مع الحماديين، بل تواصل إلى دولة الموحدين، فلئن كانت مراكش عاصمة لهذه الدولة التي انتشرت أساسًا في المغرب، فقد كانت بجاية انطلاقة هذه الدولة، حيث احتضن مسجد ملالة الذي يبعد نحو ستة أميال عن بجاية أول لقاء بين عبد المؤمن بن علي الكومي الندرومي الجزائري، والمهدي ابن تومرت المصمودي مؤسسا الدولة الجديدة.
https://www.youtube.com/watch?v=31ZWK1erWNg
مثّلت بجاية أيضًا، انطلاقة الفتح العثماني وتخليص الجزائر من الاحتلال الإسباني، ففي سنة 1512 حاصر الإخوة عروج وإسحاق وخير الدين بربروس، مدينة بجاية بعد أن اتصل بهم علماء وأعيان المدينة، وأمير قسنطينة الحفصي أبو بكر، قادمين من حلق الوادي، فنظموا البحرية ووحدوا صفوف المقاومة فيها.
كان لبجاية أيضًا دور كبير في معركة التحرير ضدّ المستعمر الفرنسي، فقد احتضنت قرية إيفري التابعة لبلدية أوزلاقن التابعة لمحافظة بجاية في 20 من أغسطس/آب 1956 المؤتمر الأول لجبهة التحرير الوطني الذي عرف بـ “مؤتمر الصومام” الذي كان إيذانًا ببداية مرحلة جديدة في جهاد الشعب الجزائري.
قبلة العلماء وطالبي المعرفة
عرفت بجاية منذ القدم بكونها قبلة العلماء وطالبي المعرفة، فقد استطاعت أن تكون لأكثر من أربعة قرون قبلة العلماء ومهبطًا لأفئدة طالبي العلم وساحة لتبادل الأفكار والآراء وميدانًا للإبداع العلمي، حيث راجت حركة نشطة للتأليف في الفقه والتاريخ والرياضة والفنون والنحو.
وصفت المدينة قديمًا بأنها دار هجرة العلماء، فقد استقبلت رجال الفكر والأدب والعلماء والمحدثين من الأندلس الفارين بدينهم من محاكم التفتيش والاضطهاد الإسباني بعد سقوط دولة المسلمين هناك، كما استقبلت العلماء من العديد من الحواضر الفكرية، ما جعل منها مركزًا للإشعاع الفكري في المنطقة.
كما كانت المدينة مقصد طلاب العلم من كل مكان، قاصدين علماءها ومعاهدها التي بلغت شهرتها الآفاق، فجامعة “سيدي التواتي” التي أسسها الشيخ العلامة سيدي محمد تواتي بداية القرن الـ15 الميلادي، كانت تحتضن المئات من الطلبة خاصة البنات منهم.
في مدينة بجاية الجزائرية تعلم المهندس والرياضي الإيطالي ليوناردو فيبوناتشي
فضلاً عن استقبالها الأدباء، خرَّجت المدينة العلماء، وأنجبت المفكرين والمبدعين رجالًا ونساء، ونجد من العلماء البجاويين الذين صنعوا الوعي العربي الإسلامي فقيهها وقاضيها ومؤرخها أبو العباس الغبريني، صاحب كتاب “عوان الدراية فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية”.
يقول أبو العباس أحمد بن عبد الله الغبريني في كتابه “عنوان الدارية“: “أدركت ببجاية ما ينيف على تسعين مفتيًا”، إلا أنه لم يأت عليهم جميعًا، واكتفى بأن قال بعد أن أورد مجموعة منهم: “وقد بقي خلق كثير من أهل المئة السادسة، ممن لهم جلال وكمال، ولكن شرط الكتاب منع من ذكرهم.
من هؤلاء العلماء أيضًا، الفضيل الورتيلاني (1900 – 1959)، الذي يعتبر من أبرز أعلام الحركة الإسلامية في الجزائر وكان له دور مهم وفاعل في تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1931، حيث كان من أقرب الشخصيات للإمام عبد الحميد بن باديس والإمام البشير الإبراهيمي رحمهما الله، وقد كلّفه الإمام حسن البنا بملف اليمن، وجمعت بعض مقالاته في كتاب بعنوان الجزائر الثائرة.
اشتهرت المدينة بمجالس العلم
من بينهم أيضًا، أبو علي حسن بن علي بن محمد المسيلي الذي كان يسمى أبا حامد الغزالي الصغير، فقيه وإمام جمع بين العلم والعمل والورع، وبين علمي الظاهر والباطن، له المصنفات الحسنة والقصص العجيبة المستحسنة، درس بمدينة بجاية، وولي القضاء بها.
صيت المدينة وصل المشرق كذلك، ومن العلماء الأجلاء الذين صدّرتهم المدينة نجد، عبد السلام الزواوي الذي عرف باسم عبد السلام سيد الناس البجائي، ولد بباجة سنة 589 هجريًا، وانتقل في شبابه إلى مصر، ثم عاد واستقر بدمشق سنة 617 هجريًا وتوفى بها سنة 681 هجريًا.
هذا الصيت وصل أيضًا القارة الأوروبية، ففي مدينة بجاية الجزائرية تعلم المهندس والرياضي الإيطالي ليوناردو فيبوناتشي الذي يعتبر “أكثر رياضياتي غربي موهوب في العصور الوسطى”، العلوم الرياضية وخاصة علم الجبر والمقابلة وأدخلها إلى أوروبا.
علاقة متوترة مع النظام
تعرف بجاية بعلاقتها المتوترة مع النظام الجزائري الحاليّ، نتيجة التهميش الذي تعاني منه، حيث لم تكتمل المشاريع التنموية التي وُعد بتنفيذها منذ ست سنوات، من ذلك الطريق السريع الذي يربط بين بجاية والطريق السيار الممتد إلى شرق غربي الجزائر.
كما أنّ انتماء بجاية لمنطقة القبائل التي يقطنها الأمازيغ، مثّل عاملاً رئيسيًا لتوتر العلاقة بينها وبين السلطة، وتتميز المنطقة بطابع متمرّد وتوتر في العلاقة بين أمازيغ المنطقة والسلطات الحاكمة التي وصلت في بعض مراحلها إلى صدام دام خلف عديد من القتلى والجرحى.
يسيطر على الولاية حزبا المعارضة الرئيسيان في منطقة القبائل
وفي عام 1963 كانت منطقة بجاية جزءًا من منطقة تمردت فيها مجموعة بقيادة حسين آيت أحمد، على السلطة المركزية بعد انقلاب الجيش على الحكومة المؤقتة صيف سنة 1962، مباشرة بعد الاستقلال من المحتل الفرنسي، لكن السلطة الجديدة في الجزائر تمكنت من كبح التمرّد المسلّح.
وفي مارس/آذار عام 1980 كانت بجاية على موعد مع ما يعرف بـ”الربيع الأمازيغي” الذي بدأ من جامعة في منطقة تيزي وزو المجاورة، عقب منع السلطات الجزائرية تنظيم محاضرة عن الشعر الأمازيغي قديمًا كان مقررًا أن يُلقيها بجامعة تيزي وزو الكاتب الأمازيغي مولود معمري، وبلغت حصيلة الاحتجاجات أكثر من 120 قتيلاً وخمسة آلاف جريح.
كما كانت الولاية مركزية في “إضراب المحفظة” الذي نفذه التلاميذ في منطقة القبائل عام 1994، احتجاجًا على قانون تعميم استخدام اللغة العربية، في تلك السنة امتنع سكان منطقة “القبائل” عن إرسال أطفالهم إلى المدارس، كما لم يلتحق طلبة الثانويات بالدراسة، وكان هذا شكلاً جديدًا من أشكال الاحتجاج للمطالبة بالاعتراف بالهوية الأمازيغية.
شهدت بجاية العديد من الحركات الاحتجاجية المناهضة للسلطة
لم يتوقف الاحتجاج هنا، ففي أبريل/نيسان من عام 2001 اندلعت أحداث عنيفة عرفت بـ”الربيع الأسود”، في تيزي وزو وبجاية والبويرة بعد مقتل شاب أمازيغي، وتطوّرت هذه الأحداث التي استمرت أسابيع عدة، إلى حركة مطلبية رفعت خلالها مطالب تضمنتها أرض القصر، في بجاية، تتعلق بالاعتراف باللغة الأمازيغية كلغة وطنية في الدستور ومطالب أخرى تتعلق بالحريات والديمقراطية والتنمية والتعويضات لضحايا الأحداث.
جدير بالذكر أن الولاية يسيطر عليها حزبا المعارضة الرئيسيان في منطقة القبائل: جبهة القوى الاشتراكية والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، بحكم مرجعياتهما السياسية وتبنيهما للمطلب الأمازيغي كقضية رئيسية في نضالهما السياسي.