هم أصدقاؤه ما دفعوا بسخاء، فهو لا يحب قليل المال، يأخذ على قدر الغنى، وفي صوته شي لإرث قديم لـ”رعاة البقر”، يقول مدججًا بقوته: “ادفع بالتي هي أحسن”، ومن ذلك ما كشفه من مكالمة كانت طي الغرف بينه وبين الملك سلمان بن عبدالعزيز، فمنطقه لامس في المرات الأخيرة حدود “الابتزاز” الصريح للملك وولي عهده.
ذاك هو ترامب، وذاك هو إسلوب خطاب “الرجل المبتز”، ليس الرجل الأمريكي أول من ابتدع هذا الإسلوب مع حلفائه أو خصومه، لكنه بات في عهده آلية يستخدمها الفاعلون الدوليون لتحقيق مصالحهم بأساليب غير مشروعة، وبما يضمن لهم التأثير على الفاعلين الآخرين عن طريق الضغط والإكراه.
ممارسة الابتزاز في كل حالاته.. ترامب في المقدمة
تتعدد أشكال الابتزاز بين الدول الخصوم، ولعل النمط الأكثر شيوعًا في هذا السياق هـو “الابتزاز الصلب”، ويعني ممارسة الأطراف الأقوى الابتزاز بالتلويح باستخدام قوتها، وميل نمط الاعتماد المتبادل غير المتواززن لصالحها عسـكريًا واقتصاديًا.
ويعد الابتزاز من خلال استخدام الأدوات الصلبة هو النمط الأكثر شيوعًا في العلاقات الدولية من الناحية التاريخية، وهـو يرتبط بتهديد فاعل دولي آخر، بهدف التأثير على سلوكه وإجباره على القيام بسلوك معين أو منعه من القيام بسلوك ما.
يمكن أن يأخذ الابتـزاز شـكلاً معاكسًا حيت يأتي من جانب الخصم الأضعـف، كحالة التهديدات النووية مـن جانب دول أضعـف مثل كوريا الشمالية أو إيران
ويظهـر جانب من ذلك بشكل واضح في ممارسات إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالتلويح المباشر بمراجعة المعونات الأمريكية المقدمة إلى مختلـف الـدول حسـب نمط سلوكها التصويتي فـي الجمعية العامة للأمم المتحدة فـي بعض القرارات ذات الأهمية للإدارة الأمريكية.
مثال على ذلك، قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القـدس؛ فقد هدد ترامب بقطع المساعدات عــن الدول التي تصوت ضد الموقـف الأمريكي فـي جلسة الجمعية العامة بشأن القـدس، قائلاً: “إنهـم يحصلون على مئات الملايين مـن الدولارات، بل حتى مليارات الدولارات، ثم يصوتون ضدنا، حسنًا نحن نراقب تلك الأصوات”.
يشكل التهديد الكوري الشمالي نوعًا من “الابتزاز النووي”
وتأتي سياسة الولايات المتحدة ضد إيران وانسحاب ترامب مـن الاتفاق النووي بين مجموعة (5+1) وإيران، كأحد الأمثلة على استخدام الولايات المتحدة سلاح التهديد والابتزاز للحصـول على أكبر قدر من المنافع أو التنازلات من إيران.
ويمكن أن يأخذ الابتـزاز شكلاً معاكسًا حيت يأتي من جانب الخصم الأضعف، كحالة التهديدات النووية مـن جانب دول أضعف مثل كوريا الشمالية أو إيران، ضد أطراف أكبر وأقـوى مثل الولايات المتحدة وحلفائها، وذلك باعتراف وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس.
لا تقتصر ممارسات الابتزاز على الخصوم، ولكنها تمتد أيضًا إلـى الحلفاء، ويتنوع ذلك فـي العلاقات بين الدول الكبرى والدول الأصغر
وعلى الرغم من أن سلوك دول مثل إيران وكوريا الشمالية في تهديدهما المتمثل في تطوير برامج نووية يشكل نوعًا من “الابتزاز النووي” بسبب التهديد بامتلاك قدرات غير تقليدية لتحقيق مصالحهما أو الحصول على امتيازات في مواجهة دول الجوار الإقليمي والولايات المتحدة للتراجع عن هذه البرامج أو تحجيم نطاقها؛ فإن ما تقوم به الدولتان – من منظور نخبها وحلفائها – هو مخاولة لحماية مصالحهما وردع تعرضهما للابتزاز في صورة عقوبات، بل واحتمالات للتدخل العسكري، حال التخلي غير المشروط عن عناصر القوة المختلفة للدولة ومن بينها البرامج النووية.
الكل معرَّض للابتزاز.. الحلفاء يفعلون ذلك
لا تقتصر ممارسات الابتزاز على الخصوم، ولكنها تمتد أيضًا إلـى الحلفاء، ويتنوع ذلك فـي العلاقات بين الدول الكبرى والدول الأصغر؛ حيث تبرز حالة الضغط الأمريكي على الحلفاء فـي جنوب فيتنام لقبول اتفاق التسوية السلمية، على الرغـم مما كان فيه من عيوب تضع سيطرة أكبر في يد القوات في شمال فيتنام، لكن واشنطن مارست ضغوطًا شديدة على حلفائها، وهددت بقطع المساعدات الاقتصادية عنهم إذا لم يلتزموا بالاتفاق وبإنهاء الحرب، مما يمكن الولايات المتحدة من سحب قواتها من فيتنام.
تقوم سياسة ترامب بشكل أساسي على محاولة الحصول على أكبر قدر ممكن من المزايا المالية والاقتصادية من جانب الحلفاء مقابل تقديم الدعم الأمريكي السياسي والعسكري
وينطبق الأمر نفسه على علاقة الولايات المتحدة بحلفائها الأساسيين مثـل الاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية ودول حلف “الناتو”، حيـث تقوم سياسة ترامب بشكل أساسي على محاولة الحصول على أكبر قدر ممكن من المزايا المالية والاقتصادية من جانب الحلفاء مقابل تقديم الدعم الأمريكي السياسي والعسكري.
وليس أكثر دلالة على ذلك من الابتزاز المالي المتواصل الذي يمارسه ترامب على للسعودية، فرجل الأعمال الأمريكي لم يشبع بعد من الدعم المالي السعودي لبلاده؛ فها هو – بعد توقيع إدارته الصيف الماضي اتفاقيات مع الرياض بقيمة 460 مليار دولار- يعود ليذِّكر الملك سلمان مرارًا وتكرارًا بأن بلاده يهددها هجوم لن ترده إلا بحماية من واشنطن.
ليس أكثر دلالة على ذلك من الابتزاز المالي المتواصل الذي يمارسه ترامب على للسعودية
وتمتد ممارسات الابتـزاز أيضًا حتى بين الدول الكبرى وبعضها البعض، وتتعدد الأمثلة التي تعكس توظيف ترامب لآليات التهديد والابتزاز في علاقات الولايات المتحدة الأمريكية مع حلفائها الكبار، ففي المجال الاقتصادي، قام ترامب بفرض رسوم على واردات الولايات المتحـدة مـن الألومنيون والصلب من معظم الشركاء بما فيهم الاتحاد الأوروبي والمكسيك وكنـدا، بحجة أن المزايا الجمركية التي يحصل عليها الـشركاء التجاريون تمكنهـم مــن إدخال بضائعهم إلى السوق الأمريكي علـى حساب السوق المحلي.
استدعى هـذا السلوك الأمريكي تصرفًا من جانب الاتحاد الأوروبي الذي قرر هو الآخر الرد برفع التعريفة الجمركية على الصادرات الأمريكية، إلا أن الولايات المتحدة نجحت فـي إقناع أطراف أخرى بقبول نظام الحصص مـرة أخرى على صادراتها إلى السوق الأمريكي بما في ذلـك كوريا الجنوبية وأستراليا والأرجنتين والبرازيل.
تبرز أمثلة عديدة على توظيف إيران لعلاقاتها مع الجماعات الشيعية في دول المنطقة العربية، كما في حالة “حزب الله” في لبنان وجماعة الحوثي في اليمن والميليشيات الشيعية في العراق وسوريا
من ناحية أخرى، يـستمر ترامب في إطلاق تهديدات وانتقادات بخصـوص تحمل الولايات المتحدة العبء الأكبر لتكلفة حماية الدول الأوروبية ودول حلف الأطلسي “الناتو“، وتأكيده على أن الولايات المتحدة ليس عليها أن تنفق تلك المبالغ الهائلة لتأمين الدول الأوروبية التي يجب أن تتحمل عـبء الدفاع عن نفسها وتكاليفه المادية، حيــث تطرق إلى ذلك بشكل واضح في قمة السبع الكبار التي عقدت في كندا في يونيـو 2018.
توظف إيران علاقاتها مع الجماعات الشيعية في دول المنطقة العربية
الابتزاز الناعم كبديل للقوة العسكرية
وفي سياق الحديث عن الابتزاز الصلب، فقد برزت أنماط جديدة تعتد على توظيف القوة العسكرية مؤخرًا أو الاقتصادية للفاعل الذي يمارس التهديد أو الابتزاز بشكل مباشـر ضد الفاعلين الآخرين، وإنما من خلال تصاعد ظاهرة قيام بعض الدول بتوظيف بعض الفاعلين من بعض الدول على أسس مختلفة سواء كانت أسسًا دينية أو إثنية أو لغويـة أو حتى مصلحية، واستخدامها كورقة تهديد تؤثر بها على مصالح الأطراف الأخرى.
ومن بين الأمثلة على ذلك استخدام روسيا الأقليات الروسية الموجودة فــي “كومنولث الدول المستقلة” (رابطة تتكون من 12 دولة كانت تكوِّن في السابق جمهوريات الاتحاد السوفييتي) كورقة ضغط لتهديد هذه الدول، والتلويح بإمكانية التدخل فيها تحت دعاوى حماية الأقليات الروسية من التعرض لاضطهاد.
وتبرز أمثلة عديدة على توظيف إيران لعلاقاتها مع الجماعات الشيعية في دول المنطقة العربية، كمـا فـي حالة “حزب الله” في لبنان وجماعة الحوثي في اليمن والميليشيات الشيعية في العراق وسوريا وغيرها.
قد يمتد الأمر إلى توظيف الدول لعلاقاتها مـع بعض الفاعلين المسلحين من غير الدول، مثل العلاقات الأمريكية بوحدات حماية الشعب الكردية في شمال سوريا كآلية للضغط
لا يقتصر الأمر على استغلال الدول لعلاقاتها بجماعات تشترك معها على أسس دينية أو إثنية أو لغوية، وإنما قد يمتد الأمر إلى توظيف الدول لعلاقاتها مـع بعض الفاعلين المسلحين من غير الدول، مثل العلاقات الأمريكية بوحدات حماية الشعب الكردية في شمال سوريا كآلية للضغط، سواء في مواجهة النظام السوري وحلفائه أو في مواجهة تركيا.
في المقابل، يبزر نوع آخر من الابتزاز هو “الابتزاز الناعم” الذي يعتمد علـى أدوات غيـر صلبة لا ترتبط باستخدام القوة العسكرية أو فرض العقوبات الاقتصادية أو التلويح بإمكانية استخدامها.
وكبديل للخيارات العسكرية يمكن أن تستخدم الدول سياسة الإحراج والكشف عن انتهاكات أو ممارسات سلبية قامت بها دولة أو دول أخرى في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، أو التلويح بكشف قضايا فساد، مثـل تورط مسؤولين أو قيادات فيها، أو تسريب معلومات تتعلـق بمخالفات معينة، سواء علـى المستوى الداخلي أو في إطار علاقاتهم الخارجية.
There is no political necessity to keep Canada in the new NAFTA deal. If we don’t make a fair deal for the U.S. after decades of abuse, Canada will be out. Congress should not interfere w/ these negotiations or I will simply terminate NAFTA entirely & we will be far better off…
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) September 1, 2018
ويندرج ضمن هذا النمط أيضًا استخدام مواقع التواصل الاجتماعي من جانب كبار الشخصيات وصانعي القرار لإصدار تصريحات أو تعليقات موجهة ضد دولة أخرى أو فاعل آخر، حيث تأتي “تغريدات ترامب كأحد الأمثلة الواضحة على اسـتخدام تلـك الآليـة الرمزية فـي توجيه صانع القرار للتهديدات أو الانتقادات للخصوم والحلفاء على حد سواء.
على سـبيل المثال، وجَّه ترامب عبـر حسابه الشـخصي انتقـادات حـادة إلى إيران نظرًا لتراجع سـجل حقـوق الإنسان والديمقراطية بها، كنوع من تصعيـد الضغـط عليهــا في سـبيل الحصول على مزيد من التازلات فيما يتعلق بإعادة التفاوض حول الاتفاق النووي، بينما تراجعت وتيرة الانتقادات على المستوى الرمزي والدبلوماسي ضد كوريا الشمالية بالخصوص نفسه تماشيًا مع اتجاه العلاقات بيـن الطرفين إلـى التهدئة.