قد تسأل نفسك يوميًا وأنتَ تتابع نشرة أخبار أو تناقش جارك حيال ما يحدث من حولك في العالم عن الأسباب التي تدفع هذا العدد الهائل من الأشخاص للتزمّت والتحيّز تجاه رأيٍ سياسيّ أو تصريح ملَكيّ أو سياسة حزبية أو معتقد دينيّ. فالتشدد واردٌ في الأفكار التي يصدّقها الشخص ويعتقدها، وواردٌ في آرائه حيال تلك الآراء، تمامًا كما هو واردٌ في السلوكيات والتصرفات التي تصبح مجتمعةً نمط حياةٍ كامل يتمسك به الفرد بطريقةٍ غير مبررة على الإطلاق.
فلا بدّ وأنك مررتَ بفترةٍ من حياتك حيث كنتَ متزمّتًا لفكرةٍ بعينها، أو منحازًا لعقيدة أخرى، دون أنْ تترك لعقلك المجال والمساحة الكافية للخروج من دائرة تلك الفكرة وإفساح المجال لغيرها ليتم تداولها والتفكير بها تفكيرًا منطقيًا وعقلانيًا تبعًا للعديد من العوامل الأخرى المحيطة بك. ولعل أهمّ صفة يوصف بها المتشدّد، فردًا أو جماعةً أو حزبًا أو سلطة، هو عدم القابلية والقدرة على تغيير رأيه ووجهة نظره، تمامًا كما يجد صعوبة في قبول الاختلاف بين وجهات النظر وإمكانية صحّتها ومصداقيّتها، فما يؤمن به ويعتقده هو الصحيح الوحيد، وما غير ذلك فهو خاطئ.
لماذا يصعب علينا تغيير أفكارنا وحسب؟
في تجربتهم الكلاسيكية القديمة، قدّم عالما النفس عاموس تفرسكي ودانيال كانمان الوصف التالي لمجموعة من المشاركين: “توم دبليو ذو ذكاء مرتفع، إلا أنه يفتقر للإبداع ويحتاج للتنظيم والترتيب، كتاباته مملة نوعًا ما وشبه آلية، يتمتع بكفاءة عالية لكنه لا يحبّذ التفاعل مع الآخرين ويشعر بقليل من التعاطف تجاههم، أنانيّ ومع ذلك لديه حس عالٍ من الأخلاق”.
قُدّم للمشاركين تسعة تخصّصات جامعية بحيث عليهم اختيار تخصّصًا واحدًا منها هو الأقرب لشخصية توم. غالبية المشاركين اعتقدوا أنه أقرب لتخصص الهندسة في حين أنهم استبعدوا أن يكون طالبًا في كلية العلوم الاجتماعية. لاحقًا، طُلب منهم إعطاء نسبٍ تقريبية للتخصصات التسعة بناءً على احتمال أن يكون توم طالبًا فيها. الاحتمالات التي قدمها المشاركون في هذه المجموعة كانت مشابهة جدًا لتلك التي قدّموها في السؤال الأول.
يميل البشر إلى تصور العالم من خلال عددٍ من المعلومات البسيطة التي تتطلّب القليل من الجهد في التفكير أو التحليل أو الربط. تُعرف تلك المعلومات باسم “الاختصارات العقلية” أو “الاستدلالات”.
في المرحلة الثالثة من التجربة، طُلب من المشاركين تقديم نسب مئوية تقديرية لعدد الطلاب في السنة الأولى في كلٍ من التخصصات التسعة. ووفقًا للنتيجة، فقد وجد العالمان أنّ المشاركين يعتقدون فعليًا أن عدد طلاب الهندسة أقلّ بكثير مقارنة بعدد الطلاب في الكليات الأخرى. ومع ذلك فقد فضّلوا سابقًا الاعتقاد بأنّ توم هو طالب في كلية الهندسة متجاهلين النسبة المحتملة لالتحاقه بها.
تُخبرنا التجربة أنّ المعلومات والمواصفات التي قُدمت للمشتركين في البداية لاقت اتفاقًا مع معلومات سابقة في ذاكرتهم عن طلاب الهندسة ومواصفاتهم وميولهم، الأمر الذي أدى إلى توصّلهم لذلك الاستدلال بأنّ توم هو طالب في كلية الهندسة لا في العلوم الاجتماعية على سبيل المثال. فكيف نفهم هذه التجربة على ضوء تشدّدنا وتزمّتنا في بعض القضايا؟
ثمة مبدأ بسيط في آلية عمل دماغنا، إذ إنه غالبًا ما يميل إلى الاعتماد على المعلومات المختصرة لديه والتي كوّنها في أوقات سابقة للتعامل مع ما يمرّ به ويواجهه في حياته اليومية. مشكلة هذه المعلومات أنها تكون في معظم الأحيان غير كافية تمامًا للوصول إلى الفكر السليم أو اتخاذ القرار الصائب. لكن ووفقًا ما تخبرنا به نظرية “الكفاءة المعرفية”، فإنّ البشر يميلون إلى تصور العالم من خلال عددٍ من المعلومات البسيطة التي تتطلّب القليل من الجهد في التفكير أو التحليل أو الربط. تُعرف تلك المعلومات باسم “الاختصارات العقلية” أو “الاستدلالات“. يصبح الأمر كالآتي إذن: عندما تكثر الحجج والمعلومات من حولنا، أو عندما لا يكون لدينا الوقت الكافي للتفكير والنظر بالأحداث بشكلٍ كامل، فإنّنا نعتمد على الاختصارات العقلية أو الاستدلالات البسيطة، والتي قد تكون معتقدات سابقة، أو تصريحًا لخبير، أو إجماع الآخرين من حولنا.
نعتمد في وجهات نظرنا على الاختصارات العقلية أو الاستدلالات البسيطة، والتي قد تكون معتقدات سابقة، أو تصريحًا لخبير، أو إجماع الآخرين من حولنا
يستخدم علماء النفس مصطلح “الاستدلال السلطوي” للإشارة إلى كيفية تأثرنا بالسلطات العليا، سواء كانت أسرةً أو حاكمًا أو رئيس حزب أو رجل دينٍ أو أيّ شخصٍ آخر ممن نعتقد بخبرته وتفوّقه علينا في مسألةٍ ما. وهذا ما يفسّر لنا الأسباب التي قد تدفع بالملايين من الناس للتشدّد والتزمت في تصديق حاكمٍ ما، أو سياسة لحزبٍ أو رأيٍ لرجل دينٍ أو مفتٍ، أو أيّ معلومة قد يسمعونها من شخصٍ يعتقدون بفهمه وامتلاكه الخبرة.
وجهات نظرنا الأولى تسيطر على ما بعدها
من جهةٍ أخرى، يعمل الدماغ على إيلاء اهتمامٍ انتقائيّ لبعض الاستدلالات ومن ثم إعادة تفسيرها لتتناسب مع المعتقدات الموجودة من قبل ولتدعم وجهات النظر السابقة. خذ على سبيل المثال هنا عالم السياسة، وتخيل كيف للكثيرين من الأفراد تصديق ما يقوله الساسة أو قنواتهم التلفزيونية أو أبواقهم الإعلامية، مع أنّ الكثير ممّا يقولونه يمكن إثبات كذبه وخداعه. وإذا كنت لا تثق في حزبٍ سياسيّ، فإن نهجًا ما في سياسته محض هراء أو تهريج؛ أما إن كنت تثق في حزبٍ آخر، فإن نفس النهج يمكن أن يكون دليلا على رجاحة عقل وحنكة سياسية. وإذا سمعتَ شائعة بشأن شخص لا تحبّه، فإنك تميل إلى تصديقها والتفكير بطريقة “كنت أعلم أنه رجل سيء”؛ أما إذا سمعت الشائعة نفسها عن صديقٍ لك أو قريب، فمن المرجح ألا تصدقها بتاتًا وترفضها كليًا.
يعمل الدماغ على إيلاء اهتمامٍ انتقائيّ لبعض الاستدلالات ومن ثم إعادة تفسيرها لتتناسب مع المعتقدات الموجودة من قبل ولتدعم وجهات النظر السابقة
ففي واحدة من التجارب المهمة، قام شارلي لورد وزملائه، باستجواب عددٍ من المشاركين ممن لديهم وجهات نظر قوية بشأن عقوبة الإعدام، سواء مؤيدة لها أو معارضة. وقُدمت إليهم أدلة عديدة تدعم أفكارهم، بعضها يؤيد عقوبة الإعدام، وبعضها الآخر يرفضها. وكان من الواضح أنه وفقا لمعتقدات المشاركين السابقة، اعتبرت تلك الأدلة إما داعمة أو رافضة للعقوبة.
وقد أكدت النتائج أنّ الدليل أو المعلومات التي قُدمت لهم لم تكن مهمة، بقدر أهمية المعتقدات السابقة لديهم. فالدليل الذي قدم للمشاركين على أنه مؤيد لعقوبة الإعدام عمل على تعزيز وجهات نظرهم. وكذلك فعل الدليل المعارض لعقوبة الإعدام مع رافضي تلك العقوبة. وبالتالي، فقد أصبح الرافضون لعقوبة الإعدام أكثر رفضًا لها، والمؤيدون أكثر تاييدًا لها، مشيرين إلى نقاط القوة في أدلتهم ونقاط الضعف الواضحة في أدلة الجانب الآخر.
لذلك، هناك الكثير من العقبات المعرفية التي قد تقف في طريقة تفكيرنا وتعاملنا مع الأفكار والأمور ووجهات النظر المختلفة بموضوعية ومنطقية ممكنة. والرغبة وحدها في الإيمان بوجهات نظر غير منحازة ليست كافية. فكثيرًا ما يخضع الدماغ، بطريقةٍ لا واعية، للكسل في التعامل مع ما حوله، دون أن يبذل مزيد من الجهد والوقت في التفكير وتقليب الحقائق ودراسة الأدلة. لكنّ الأمر ليس بالغ الصعوبة بكلّ تأكيد، ومحاولة أن نكون أكثر انفتاحًا على الآخرين هي جزء من التحدي في مواجهة التشدد والتزمّت.