بعد نحو شهرين من فتح أول معبر حدودي لها مع جارتها الغربية موريتانيا منذ استقلالهما عن الاستعمار الفرنسي، بدأت الجزائر في طرق أبواب نواكشوط وبدأت السلع الجزائرية تصل البلاد، في إطار سعي السلطات الجزائرية طي سنوات التوتر والفتور بين البلدين، فما الأسباب التي تقف وراء هذا التوجه؟
تطور العلاقات
وصف وزير الخارجية الجزائري عبد القادر مساهل العلاقات بين بلاده وموريتانيا بـ”التاريخية والمتينة” وهي العلاقات التي عرفت “قفزة نوعية في الآونة الأخيرة”، وفق قوله في ندوة صحفية جمعته مع نظيره الموريتاني، أول أمس الأحد في العاصمة الجزائر.
من جهته أعرب وزير الشؤون الخارجية الموريتاني إسماعيل ولد الشيخ أحمد عن رغبة بلاده في “تطوير علاقاتها التاريخية والمميزة” مع الجزائر والدفع بها إلى الأمام، مشيدًا بالتطورات الإيجابية التي شهدتها هذه العلاقات في الآونة الأخيرة، وأوضح ولد الشيخ أحمد أن العلاقات الجزائرية الموريتانية علاقات مميزة ولها تاريخ طويل.
في شهر أغسطس/آب الماضي فتح الطرفان معبرًا حدوديًا بريًا بينهما
في أثناء ذلك، بدأت بالعاصمة الموريتانية نواكشوط فعاليات الدورة الرابعة لمعرض المنتجات الجزائرية التي تستهدف بصفة خاصة ترقية الصادرات خارج المحروقات وتعزيز المبادلات مع موريتانيا، فضلًا عن إرساء ركائز التعاون الاقتصادي المتكامل مع دول الجوار، وفقًا للإذاعة الوطنية الجزائرية.
وحسب إحصاءات حديثة، فقد ارتفع حجم المبادلات التجارية بين البلدين إلى 50 مليون دولار سنة 2017 مقابل 38 مليون دولار سنة 2016، ما مكن الجزائر من احتلال مرتبة الممون الثاني لموريتانيا على المستوى الإفريقي خلال 2017.
مع نظيري الموريتاني إسماعيل ولد الشيخ أحمد. تباحثنا حول تعزيز التعاون الثنائي الذي يشهد ديناميكية استثنائية مع فتح المعبر الحدودي، ما يمهد الطريق لتطوير التبادلات البشرية والتجارية. #الجزائر #موريتانيا pic.twitter.com/KaLWEb9pH7
— Abdelkader Messahel (@Messahel_MAE) October 21, 2018
في شهر أغسطس/آب الماضي فتح الطرفان معبرًا حدوديًا بريًا بينهما على شكل مركزين حدوديين متقابلين على مستوى الشريط الحدودي المشترك بالمنطقة المسماة حاسي 75 العلامة الحدودية 8، وعلى مسافة تتراوح بين 400 إلى 800 متر من خط الحدود عند ولاية تندوف الجزائرية الواقعة في أقصى جنوب غرب البلاد.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2016 توصلت الدولتان إلى تفاهمات خلال اجتماع اللجنة العليا المشتركة الجزائرية – الموريتانية التي عقدت في الجزائر، من بينها اتفاقيات تتعلق بزيادة فرص تعليم الطلبة الموريتانيين في الجزائر، والكوادر العسكرية والأمنية الموريتانية في الأكاديميات العسكرية الجزائرية، وفتح شركات جزائرية لمقرات وأنشطة استثمارية وتجارية لها في نواكشوط.
طي صفحة التوتر
هذه الإجراءات الأخيرة تؤكد رغبة البلدين في طي صفحة التوتر بينهما، فرغم عدم الإفصاح عن ذلك، تعرف العلاقات الجزائرية الموريتانية فتورًا كبيرًا، حيث مرت العلاقات الثنائية بين البلدين بنوبات من المد والجزر السياسي والعسكري في العقد الأخير بصورة خاصة.
ففي عام 2012 أعلنت السلطات الجزائرية أن حدودها البرية مع كل من موريتانيا والنيجر ومالي هي مناطق عسكرية مغلقة، ثم شرعت في عام 2015 في حفر خنادق وإقامة سواتر ترابية على طول هذه الحدود البرية بداعي الوقاية من الإرهاب، وسبق هذا التوتر استياء نواكشوط من موقف الجزائر الرافض للانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب حينها سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، الذي حمل الرئيس محمد ولد عبد العزيز إلى الحكم في نواكشوط في أغسطس/آب 2008.
خلال فترة حكمه لم يقم الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بأي زيارة إلى نواكشوط
في نهاية أبريل/نيسان 2015 شهدت العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر وموريتانيا توترًا وفتورًا، بعد قرار موريتانيا طرد المستشار الأول بسفارة الجزائر في نواكشوط بلقاسم الشرواطي، إثر اتهامه بالوقوف خلف مقال نشر بإحدى الصحف الإلكترونية الموريتانية اعتبرت أنه يسيء لعلاقات موريتانيا الخارجية، وما تمخض عنه من رد فعل جزائري بطرد أحد المستشارين بسفارة موريتانيا في الجزائر ليلقي بظلاله القاتمة على العلاقات بين البلدين طيلة العامين الماضيين.
بعد 5 أشهر من ذلك التاريخ تحسنت العلاقات بين البلدين، حيث قررت الدولتان إنهاء الأزمة الدبلوماسية والعودة للتنسيق الأمني في ديسمبر/كانون الأول من نفس السنة، بفضل الوساطة التونسية التي أسفرت عن تخفيف التوتر بين الجانبين.
هذه التهدئة لم تدم طويلًا، فسرعان ما نشبت أزمة أخرى بين البلدين، جمدت الجزائر على إثرها تعاونها العسكري مع موريتانيا، على خلفية إقامة نواكشوط حلف أمني في منطقة الساحل مع جوارها الإفريقي (النيجر وتشاد وبوركينا فاسو ومالي) وتسيير دوريات أمنية من دون إشراك الجزائر، وهو ما اعتبرته الجزائر بمثابة محاولة خلق توازنات جديدة في المنطقة تضعها خارج مجريات الأحداث.
https://www.youtube.com/watch?v=CKwGyrIAZ7g
لم ينتهِ التوتر هنا، ففي يوليو/تموز 2017 أقدمت موريتانيا على غلق حدودها الشمالية مع الجزائر وجعلها منطقة عسكرية، محذرة المواطنين من دخولها لأن ذلك يعرضهم لخطر إطلاق النار، وأرجعت السلطات الموريتانية قرارها إلى اتساع حركة المهربين والصعوبة التي تواجهها في التفريق بين المهربين والمدنيين.
وخلال فترة حكمه، أي منذ سنة 1999، لم يقم الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بأي زيارة إلى نواكشوط، وهو ما يؤكد أن موريتانيا التي تشارك الجزائر مئات الكيلومترات على الحدود، كانت على هامش الخريطة الدبلوماسية في الجزائر.
دفع التعاون الاقتصادي والدخول إلى إفريقيا
الإعلامي الجزائري رياض معزوزي اعتبر أن التقارب الجزائري الموريتاني جاء نتاج تحصيل حاصل لما يقع في المنطقة سيما أمام الأبواب الموصدة باتجاه ليبيا بسبب الأوضاع الأمنية الصعبة، والحدود المغلقة مع المغرب بسبب الأزمة الدبلوماسية منذ تسعينيات القرن الماضي، والحدود الملغمة بالمشاكل جنوبًا مع مالي وتشاد والنيجر.
وأوضح الإعلامي الجزائري أن الباب الوحيد الذي تعتمد عليه الجزائر في شق التبادل التجاري بريًا هو مع تونس، لذا كان حتميًا فتح طرق أخرى ترفع من حدة التعاملات الاقتصادية مع دول الجوار، وموريتانيا هي بوابة ذلك، بعد فتح معبر حدودي، لن يكتفِ بربط الجزائر بموريتانيا، بل حتى بربط الجزائر مع دول العالم من خلال المحيط الأطلسي.
تسعى السلطات الجزائرية إلى مد جسور التعاون بين الجزائر – عبر نواكشوط – ودول القارة الإفريقية
وتابع “هذا الرأي يتأكد خاصة إذا علمنا أن الجنوب الجزائري يضم أكبر مناجم الحديد والذهب بمنطقة تندوف التي لا تبعد عن الحدود الموريتانية سوى بكيلومترات، وكذا الاكتشافات الجديدة للنفط والغاز بالجنوب الغربي الجزائري تجعل من حكومة البلاد تفكر كثيرًا بطرق تسويقه وبأقل تكاليف، وبالتالي فالظاهر أن ربط علاقات وطيدة بين الجزائر وموريتانيا لها أبعاد اقتصادية كبيرة.
باستثناء تونس التي تمتلك معابر حدودية دائمة مع الجزائر، لا توجد معابر بين الجزائر وجيرانها الـ5 الآخرين، وتعتبر موريتانيا الدولة الثانية التي تفتح الجزائر معها معبرًا حدوديًا، إذ لا توجد حدود مغلقة بينهما، وعكس الحدود الموريتانية – الجزائرية، فالحدود مع المغرب مغلقة منذ عام 1994، وأيضًا الحدود مع ليبيا مغلقة منذ عام 2014 بسبب أعمال العنف هناك، والحدود مع النيجر مغلقة للسبب ذاته، وأيضًا الحدود مع مالي.
https://www.youtube.com/watch?v=_RKseiX-L_I
من جهته اعتبر الباحث بكلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالجزائر محمد باشوش أن الجزائر تأخرت كثيرًا في الانفتاح على موريتانيا، وقال باشوش في تصريح لنون بوست: “في تقديري، ما عجّل التوجه الجديد للجزائر نحو موريتانيا هو حجم التحديات على باقي الحدود الجنوبية ومع ليبيا ما يعني أن الجزائر تحاول التنفس من خلال موريتانيا”.
تسعى السلطات الجزائرية إلى مد جسور التعاون بين الجزائر – عبر نواكشوط – ودول القارة الإفريقية، حيث تعتبر موريتانيا خط عبور لأسواق دول غرب القارة الإفريقية أو مجموعة الإيكواس، وهو ما تأمل أن يمكنها من التسويق لصادرات منجم “غار جبيلات” للحديد الذي يعد من أكبر مناجم الحديد في العالم باحتياطي يقدر بـ3.5 مليار طن وهو غير مستغل لحد الآن، والتسويق لباقي منتجاتها في القارة الإفريقية.
وتشجع الجزائر – التي تعيش على وقع أزمة اقتصادية بدأت صيف 2014 على إثر تراجع عائدات النفط – شركاتها على التوجه إلى العمق الإفريقي، حيث كسبت منافساتها المغربية تقدمًا كبيرًا هناك، لتنويع اقتصادها “المريض”.
تعزيز موقفها في قضية الصحراء
فضلًا عن تعزيز دورها الاقتصادي في المنطقة، تسعى الجزائر من خلال تقاربها مع موريتانيا وطي صفحة التوتر بينهما، إلى تعزيز موقفها في قضية الصحراء الغربية قبل أيام من عقد اجتماع جنيف الذي دعا إليه المبعوث الشخصي الخاص للأمين العام للأمم المتحدة المكلف بملف الصحراء هورست كوهلر، بهدف استئناف المفاوضات بخصوص قضية الصحراء الغربية.
وأوضح الإعلامي الجزائري رياض معزوزي “هناك لعبة سياسية في هذا التوجه الجزائري، خاصة بعد توتر العلاقات الموريتانية المغربية سابقًا، ومحاولة الجزائر استغلال هذا الشرخ لتقوية الجبهة الجنوبية الغربية من بوابة موريتانيا باعتبارها الدولة الوحيدة التي تشترك حدودها مع أزمة الصحراء، وتعزيز مكسب قضية الصحراء الغربية، وهي رسالة واضحة للمملكة المغربية التي كانت دائمًا تراهن على دعم إفريقي للقضية على مر السنوات الأخيرة”.
تتسم العلاقات بين الرباط ونواكشوط هي الأخرى بالتوتر
في هذا الشأن أوضح الباحث محمد باشوش أن “ملف الصحراء الغربية ما زال يشكل تحديًا إستراتيجيًا للجزائر، والراجح أن الانفتاح على موريتانيا سيعزز من الحضور الدبلوماسي للجزائر في المنطقة والأكيد أنه سيلقي بثقله على مجريات المفاوضات بين المغرب والصحراء الغربية”.
تشارك موريتانيا والجزائر في مفاوضات دولية بشأن الصحراء في ديسمبر/كانون الأول المقبل، إضافة إلى طرفي الصراع (المغرب والبوليساريو)، وتتسم المفاوضات بشأن هذه القضية بالجمود، وتعود آخرها هذه إلى شهر مارس/آذار 2012 في بلدة مانهاست (بالولايات المتحدة)، دون أن تتوج بنتائج تذكر.
البحث عن توريط موريتانيا في قضية الصحراء؟
لإن ربط البعض هذا الانفتاح الجزائري الأخير على موريتانيا بالجانب الاقتصادي، فقد استبعد رئيس المركز الأطلسي للدراسات الإستراتيجية والتحليل الأمني (مغربي) عبد الرحيم المنار أسليمي ذلك، حيث قال في تصريح لنون بوست “من الواضح أن الأمر لا علاقة له بمصالح اقتصادية أو تقارب حسن الجوار”.
وأوضح اسليمي في حديثه لنون “الأمر له علاقة بعداء الجزائر للمغرب، بالضبط ملف الصحراء، فالجزائر تحاول تعويم النزاع وتهريبه نحو موريتانيا، فالمعلومات تشير إلى أن أكبر عدد من صحراويي المخيمات باتوا فوق الأراضي الموريتانية، فالجزائر تغير البنية الديموغرافية لمخيمات تندوف وتدفع بجزء من الصحراويين نحو شمال موريتانيا، وهي وضعية ستنفجر خلال الشهور المقبلة”.
وربط رئيس المركز الأطلسي للدراسات الإستراتيجية والتحليل الأمني هذا التوجه باستعداد الجزائر للمشاركة في لقاءات جنيف المخصصة لتناول قضية الصحراء الغربية، وقال أسليمي إن هذا الطلب الجزائري على موريتانيا يزداد بدرجة أكبر قبل طاولة جنيف، لأن الجزائر تهرب من أن تكون طرفًا مباشرًا في طاولة المحادثات.
تسعى الجزائر لكسب ود موريتانيا
أضاف “يبدو اللقاء الموريتاني الجزائري في هذه المرحلة السابقة على جنيف فيه رسالة جزائرية للمغرب، تسعى من خلالها إلى توريط موريتانيا بإطلاق تصريحات قد تجعلها غير محايدة، فموقع الجزائر من نزاع الصحراء ليس هو موقع موريتانيا، ومحاولة الجزائريين دفع موريتانيا إلى تموضع جديد في ملف الصحراء سيورط موريتانيا وهو ما يبحث عنه الجزائريون”.
وختم عبد الرحيم المنار أسليمي كلامه بالقول “موريتانيا الآن توجد في وضعية صعبة بين رئيس دولة (محمد ولد عبد العزيز) أرسل إشارات متعددة إلى المغرب بكونه ينحاز إلى الجزائر، وقوى سياسية واقتصادية واجتماعية موريتانية لها ارتباطات تاريخية وعائلية بالمغرب”.
في مقابل ذلك، عبّر الباحث بكلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالجزائر محمد باشوش عن أسفه من عدم تمكّن الجزائر والمغرب من العمل بشكل تكاملي في المجال الحيوي الذي ينتميان إليه، مستبعدًا رغبة الجزائر في فرض نفوذها في المنطقة، لأن السياسة الخارجية للجزائر لا تزال سياسة “دفاعية” والعمق الإفريقي لا يحظى بالقدر الكافي من الجهد الدبلوماسي الرسمي في الجزائر، وفق قوله.
وتتسم العلاقات بين الرباط ونواكشوط هي الأخرى بالتوتر، عبر عنه الطرفان أكثر من مرة وترجمته بعض القرارات الدبلوماسية والسياسية السابقة للطرفين، قبل أن تشهد تحسنًا نسبيًا منذ أشهر قليلة أسفر عن تبادل السفراء بين البلدين.