بعد أسابيع طويلة من الانتظار، جاءت الموافقة الإسرائيلية، للمحامي خالد محاجنة – 39 عامًا – ليدخل أسوأ معتقل عسكري “سيديه تيمان” بتاريخ 19 يونيو/حزيران في صحراء النقب، للاطلاع على أوضاع الأسرى فيه، وذلك وسط إجراءات معقدة شعر خلالها بالخوف رغم أنه يعمل منذ 15 عامًا مع ملفات الأسرى.
على الرغم من الحراسات المشددة وأجهزة التنصت المزروعة في كل زاوية، نجح المحامي، خلال 45 دقيقة فقط من زيارته لسجن “سديه تيمان”، في الحصول على تفاصيل مهمة ومثيرة يخالف فيها الاحتلال القوانين الدولية والطبيعة البشرية لما يتعرض له الأسرى من انتهاكات وتعذيب على يد الجنود الإسرائيليين.
بمجرد خروج محاجنه من المعسكر تحدث عن هول ما شاهده من الأوضاع المزرية للأسرى والشهادات حول أساليب التعذيب التي ينتهجها الجنود عند معاقبة أسرى غزة لأسباب غير معقولة.
في حديثه مع “نون بوست”، كشف محاجنة وهو محامي هيئة شؤون الأسرى والمحررين ونادي الأسير الفلسطيني، عن تفاصيل مهمة حول معاناة أسرى غزة اليومية داخل سجن “سديه تيمان”، موضحًا أساليب العقاب القاسية التي يستخدمها الجنود الإسرائيليون ضد الأسرى، وكيف أصبح السجن محطة فارقة في تاريخ الأسرى الفلسطينيين، وآثاره الارتدادية على صورة “إسرائيل” في المحافل الدولية، وفيما نص الحوار:
كيف كانت ظروف وصولك إلى “سديه تيمان”؟ وما شكل إجراءات الدخول لمعتقل عسكري؟
معسكر سديه تيمان هو أحد المعسكرات السرية التي أنشأتها “إسرائيل” مع بداية الحرب الإجرامية على قطاع غزة، كما يعد أداة من أدوات الحرب على القطاع.
بداية الحرب، أخفت “إسرائيل” كل المعلومات والمعطيات عن وجود أسرى من قطاع غزة داخل المعسكرات، وحين أفرجت عن بعض الأسرى بعد أشهر من حرب الإبادة، بدأنا نسمع عن معسكرات سرية يحتجز فيها أسرى غزيين، ومنها “سديه تيمان”.
كمحامين اعتدنا التعامل مع ملفات الأسرى داخل سجون الاحتلال، لكن الشهادات المروعة التي تخرج من “سديه تيمان” على لسان المحررين، دفعتنا للتحرك على صعيد المؤسسات الحقوقية للوصول إلى المعتقل السري، ومن هنا بدأت المعركة مع المؤسسات الإسرائيلية والجيش لمحاولة الوصول إلى المحتجزين والتعرف على ظروف اعتقالهم وأساليب احتجازهم وأوضاعهم المعيشية.
وبعد معاناة أكثر من شهرين في المحاكم الإسرائيلية، سمح للمحامين بزيارة أسرى من قطاع غزة، ولحسن حظي كنت أول محام يدخل “سديه تيمان”، فكانت الزيارة الوحيدة والأخيرة، حينها قابلت الصحافي محمد عرب مراسل التلفزيون العربي.
حددت المحكمة تاريخ الزيارة في 10 يونيو/حزيران، في تمام الساعة العاشرة صباحًا، وقتها خرجت من منطقتي أم الفحم إلى المعسكر في منطقة النقب، وكانت المرة الأولى التي أدخل فيها معسكرًا للجيش، فالمكان يختلف عن بقية السجون التي زرتها.
شعرت بالخوف، فالمعسكر محاط بالجنود، حين اقتربت أخبرتهم أني محامٍ ولدي تنسيق لزيارة أسير، بعدها جاء ضابط طلب الانتظار حتى يأتي مسؤول ليشرح تفاصيل الدخول، كنت بعيدًا عن البوابة مسافة كيلومتر، أرتدي ملابس مدنية “بنطال جينز وقميص أزرق”، نزلت من السيارة طبقًا لأوامرهم ومشيت حتى جاءت سيارة عسكرية وكان الجنود ملثمين، أمروني بالنظر للأمام دون الالتفات يمين أو شمال، لكني كنت بطرف عيني التقط المشاهد حيث الأقفاص الحديدية “المخصصة للأسرى”.
من قابلت من الأسرى؟ وكيف كانت ظروف اللقاء؟
فور وصولي فُتشت وطلبوا تسليم رخصة المحاماة وهاتفي المحمول، ثم أدخلوني غرفة مرعبة كلها كاميرات، قبل وصول الأسير الصحافي محمد عرب، وأخبرني الضابط المسؤول الالتزام بكل التعليمات خلال مدة الزيارة 45 دقيقة، وأي تصرف يصدر مني يمس بأمن “دولة إسرائيل والمعسكر والجنود” سيتم إلغاء الزيارة على الفور.
الشخص الوحيد الذي سمح لي بمقابلته هو عرب، وذلك بتكليف من القناة التي يعمل بها، ومنه سمعت تفاصيل مرعبة عن المعسكر، لكن بصعوبة استطعت الحديث معه بداية الأمر.
وصل الصحافي المعتقل مكبل اليدين للخلف، معصوب العينين يُجر من ركبتيه، بملابس متسخة، فقميصه الأبيض تحول إلى أسود، أما شعره منكوش عليه “روث الحمام”، وحين أجلسه الضابط غير وضعية التكبيل للأمام، وبقي لفترة من الوقت بعد رفع العصبة يفرك في عينيه، فهو معصوب طوال الوقت.
بداية رفض الحديث وشك أن أكون محاميًا وقال لي: “أنت ضابط مخابرات أم جاسوس”، بقيت مدة ربع ساعة أحاول إقناعة، فلا أملك أي بطاقة إثبات سوى “ورقة وقلم”، لكنني حين ذكرت أسماء عائلته، وأسماء أسرى من غزة مثلتهم وكيف مثلت أسرى سجن جلبوع أمام المحاكم الإسرائيلية، حتى هدأ وأخذت ثقته وأخبرني: “الجنود أخبروهم لا أحد يستطيع الوصول إلى المعسكر”.
ثم بكي وقال لي: “سأتعامل معك كأنك نفسي (..) هذه المرة الأولى التي أتحدث فيها مع شخص منذ 100 يوم”.
كان الجنود يتنصتون، سألتهم “لماذا تقفون هنا؟”، رد أحدهم بالإشارة “اخرس”، رغم أنه في القوانين الإسرائيلية يمنع مراقبة المحامي والموكل.
ما هي الظروف الصحية والمعيشية للأسرى في معسكر “سديه تيمان”، الذي يوصف بمقبرة الأحياء، بعد زيارة الصحافي عرب والاطلاع على أوضاعهم هناك؟
بداية ما سأذكره هو 10% من معاناتهم مثلما أخبرني عرب، فهناك لا توجد حياة، وأنا كمحام معتاد سماع قصص التنكيل بحق الأسرى، لكن في هذه الزيارة لم أكن جاهزًا نفسيًا للتفاصيل القاسية، وكان حجم انفعالي وقت خروجي بسبب هول ما سمعته من أساليب تعذيب جديدة ومعاملة قاسية عند أبسط مخالفة.
يعيشون داخل “باركسات” – غرف حديدية – كبيرة، مفتوحة على ساحة المعسكر، وكل أسير له حيز معين وهو دائرة مساحتها متر فقط يتحرك فيها معصوب ومكبل اليدين والأرجل، ولا يسمح لهم بالحديث لبعضهم، وفي ذلك عقوبة مشددة.
ويمنع الأسرى من تبديل ملابسهم، فهم يرتدون ذات الملابس التي اعتقلوا بها، والتي تحولت إلى اللون الأسود والرمادي بسبب اتساخها، أما دخولهم لدورات المياه فقط مرة واحدة لمدة دقيقة كل يوم، والاستحمام مرة كل أسبوع ولدقيقة، ومن يخالف ذلك يعاقب عقابًا شديدًا، ولا يسمح لهم بحلاقة الشعر أو الذقن، وبسبب العقوبات بات الأسرى يرفضون الاستحمام خشية العقاب.
كما يعاني الأسرى من الإمساك بسبب الطعام الذي يوضع لهم، وغالبًا يكون علبة زبادي مع خيارة أو تستبدل بحبة بندورة، وتلك الوجبة تقدم 3 مرات يوميًا مع 100 غرام من الخبز.
ماذا عن أساليب التعذيب الإجرامية التي ينتهجها الجنود الإسرائيليون ضد أسرى غزة في سديه تيمان؟
التعذيب يتمثل في تعصيب أعينهم على مدار الساعة، فقط ترفع عند وصولهم دورة المياه وقتها يزيحها الجندي، ومن هناك يحاول الأسير استراق النظر ليرى من حوله، فيشاهد الصغار وكبار السن يعذبون وينكل بهم ويتأوهون من التعذيب أو المرض.
وتحت ذريعة “أنتم مخربون، أنتم إرهابيون” كان يعاقب أسرى قطاع غزة داخل “سيديه تيمان”، لكن بأساليب مختلفة كالعقاب بالطب والاغتصاب، ونهش الكلاب.
التنكيل بالطب يكون بفعل ضغط الأصفاد الحديدية على الأيدي والأرجل، وهو ما ينحت اللحم ويظهر العظم وتبدأ معاناة الأسير، ويتم بتر الطرف دون تخدير وهو معصب العينين، وفي حال صرخ يعاقب أكثر.
أما الاغتصاب، هو أسلوب عقاب لمن تتراكم عليه المخالفات عند دخول الحمام لأكثر من دقيقة أو يصرخ الأسير ألمًا، ففي هذه الحالة يجبر كل الأسرى على رفع العصبة والنظر لزميلهم وهو يغتصب بأشكال مختلفة، ومنها أن ينام على بطنه ويجرد من ثيابه ثم توضع العصا في “مؤخرته”، ولو صرخ يزيد التعذيب ضده، وبعدها يعود لدائرته. وهناك طريقة أخرى للتعذيب بواسطة خرطوم أسطوانة الاكسجين، وتفاصيل أخرى يخجل الإنسان من ذكرها كون فيها انتهاكًا لقيمة الأسير.
كما تستخدم الكلاب لتعذيب الأسرى ونهشهم، حيث ينام الأسير على بطنه بذات الطريقة، حيث تكبيل الأيدي والعصبة على عينيه، ثم تمشي الكلاب على ظهورهم وتعضهم.
أما عن رائحة الدم فهي السائدة في المعسكر بسبب تعذيب الأسرى، فلكل حركة عقاب حتى لو وقف الأسير للصلاة وقال “الله أكبر” على ذلك عقوبة.
وكمحام حين سمعت تلك الشهادات شعرت بالحزن والغضب وبدأت كشخص عادي البحث على “غوغل” عن تلك الأساليب لأن عقلي لم يستطع تخيلها، فحجم الإجرام كبير لدى الجنود المعذبين والذين هم في حقيقة الأمر صغار في السن لا تتجاوز أعمرهم العشرين أتساءل “من أين جاءوا بكل هذا الإجرام؟”.
سمعنا شهادات مرعبة بتفاصيلها حيث وحشية جنود الاحتلال بتعذيب الأسرى، حتى إن أشكال من خرجوا من المعتقل كانت تحكي فصول التعذيب رغم أنهم مدنيون اعتقلوا من البوابات الآمنة عند النزوح أو من البيوت، لماذا لم تتحرك المؤسسات الحقوقية الدولية لوضع حد لآلة الإجرام الإسرائيلية ضد الأسرى؟
أولًا محكمة العدل الدولية تهمش قضية الأسرى بشكل كبير دون مبرر، رغم الاستفادة من قصص الاغتصاب التي رواها الصحافي محمد عرب، وكذلك الأسرى المفرج عنهم حين ذكروا أشكال التعذيب التي تعرضوا لها.
وأيضًا “إسرائيل” لا يهمها الذهاب إلى المحاكم الدولية، فهي تضرب بعرض الحائط كل المعايير والقوانين وتواصل ممارساتها، لكن هناك تحركات من جمعيات فلسطينية ويسارية مثل مؤسسة الأطباء لحقوق الإنسان، وجمعية حماية الفرد وغيرها تتوجه دوليًا باسم كل الأسرى لمعاقبة “إسرائيل” على كل سياساتها ضد أسرى غزة.
كيف شكل “سدية تيمان” محطة فارقة في تاريخ الأسرى الفلسطينيين؟ وما آثاره الارتدادية على صورة “إسرائيل”؟
بفعل الصور المسربة وشهادات الأسرى ووصولي إلى سجن سديه تيمان وكشف ما يجري فيه، تبين أن المعتقل العسكري يعتبر أداة من أدوات الحرب على غزة، وما يجري داخله أظهر قضية الأسرى ومعاناتهم بشكل كبير للعالم.
وعالميًا أصبح هناك توجه للضغط على “إسرائيل” لإغلاق المعتقل، بسبب بشاعة أساليب التعذيب التي تمارس فيه ضد أسرى غزة المدنيين، خاصة بعد الفضائح التي ظهرت، واليوم بعدما كان يستقطب المعسكر 200 أسير بات يوجد فيه نحو 25 أسيرًا.
حاولت من خلال زيارتي للمعسكر، أن نظهر للعالم كيف تتعامل “إسرائيل” مع أي فلسطيني غزاوي، في الوقت الذي تحاول الظهور بصورة إيجابية بأنها حامية لحقوق المدنيين وتراعي حقوق الأسرى، لكن ما خرج فضح روايتها التي تحاول ترويجها أمام الإعلام الأجنبي، حيث بات كل مواطن في العالم يتخيل ما يجري داخل المعسكر من جرائم وانتهاكات.
سربت من سديه تيمان أبشع صور التعذيب بحق المدنيين الأسرى، هل استخدمت تلك الصور كدليل لتعطي هذا الملف الزخم الذي يستحقه من الاهتمام العالمي لتفعيل أدوات المحاسبة؟
كانت الصور والشهادات واحدة من أهم الملفات التي جهزتها المؤسسات الحقوقية لاستخدامها أمام المحاكم الدولية لما يجري في المعتقل العسكري، وكذلك هناك شهادات واسعة من الأسرى المحررين الذين رووا معاناتهم كاملة، كما أن هناك اعتمادًا كبيرًا على التقارير الأجنبية كالتي أوردتها الـ”CNN”، والشهادة التي خرجت بها مرتين على لسان محمد عرب الأولى من “سديه تيمان”، والثانية حين زرته في معسكر عوفر عندما نقل إليه بعد الزيارة الأولى، وما أحدثت من ربكة إعلاميه لبشاعة ما ورد، وتوجد الكثير من الأدلة والإثباتات حول إجرام “إسرائيل” بحق أسرى غزة والتي من شأنها تفعيل أدوات المحاسبة ضدها.
اليوم تحاول “إسرائيل” تشويه صورة المحامي محاجنة عبر الإعلام العبري في الداخل المحتل، بسبب فضحه لمجازرها اليومية غير الإنسانية داخل مراكز الاحتجاز العسكرية التي يهان فيها الأسير الغزاوي.