ربما يمكننا القول أنّ الأيام التي كان يحلم فيها الأطفال بأنْ يصبحوا أطباءً ومهندسين ومعلّمين عندما يكبرون قد ولّت وانتهت، فأطفال اليوم يمتلكون أحلامًا مختلفة تتماشى مع الحمّى التكنولوجية التي هبّت علينا في السنوات الأخيرة، كأنْ يكونوا مدوّنين على يوتيوب أو إنستجرام، وأنْ يصبحوا مشهورين من خلالها، وأنْ يجنوا مالهم الخاص عبرها. وفي حال تحدّثنا بالأرقام، فما يقارب 34.2% من أطفال اليوم الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و17 عامًا، يحلمون بدورهم بإنشاء قنواتهم الخاصة على يوتيوب، بحسب دراسة أجريت حول المهن خلال العام الماضي.
وسواء كان الأطفال جزءًا من الموضوع مع عائلتهم فيما يُعرف بمدوّنات العائلة، كأن يقوم الآباء برفقة أطفالهم بتشغيل الكاميرا لتصوير تفاصيل حياتهم اليومية مثل لعبهم أو جلوسهم أو طبخهم أو خلال ذهابهم في رحلة ما أو أثناء التسوّق، أو كانت مدونات الفيديو تلك تقتصر على الطفل لوحده بعيدًا عن العائلة، فإنّ تلك الفيديوهات تجذب ملايين ولربما مليارات المشاهدات أسبوعيًا، والأهم من ذلك هو آلاف أو ملايين الأرباح الناتجة عنها.
فمن خلال استخدام كاميرا واتصال بالإنترنت، يمكن لأي من الآباء وضع حياتهم اليومية على موقع يوتيوب. وللوهلة الأولى، يبدو الأمر عاديًا أو حتى غير مؤذٍ للطفل والعائلة. خاصة وأنها تستطيع من خلال ذلك كسب آلاف الدولارات سنويًا من الإعلانات واستخدام المنتجات الاستهلاكية في مدوناتهم ومقاطع الفيديو التي يخرجون بها، بحيث أصبح الكثيرون منهم غير محتاجين لوظائهم اليومية الرتيبة أو للدوام الكامل التقليدي، بقدر حاجتهم للبقاء في بيوتهم وإدارتهم لحساباتهم وحسابات أطفالهم.
مدونات الفيديو تعمل على تحفيز الوالديْن، بل إجبارهم، على خلق حياة أكثر إثارة وأقرب للكمالية ما يضع الأطفال تحت ضغطٍ نفسيّ لإرضاء والديْهم والخروج في أفضل صورة أمام متابعيهم
فأصبح من الواضح فعليًا أنّ مرحلة الطفولة أصبحت جزءًا من الاستهلاك العام. فمن جهةٍ، اتّهم عدد من المنظّمات الأميريكية في شهر نيسان الماضي، موقعي يوتيوب وجوجل لقيامهما بتجميع بيانات الأطفال، بما في ذلك موقعهم الجغرافي ونوع جهازهم المستخدم وأرقام هواتفهم وغير ذلك، لتستخدم هذه المعطيات من أجل توجيه إعلانات تتكيف مع أذواق الأطفال على شبكة الانترنت برمتها بهدف تحقيق عائدات طائلة من وراء ذلك.
محاولات لخلق حياة مثالية.. ولكن
وحتى نكون منصفين أكثر، فيمكن لمدونات الفيديو أنْ تكون مفيدةً بشكلٍ فعليّ للأطفال، فهي من جهة تساعدهم في بناء الثقة وصورة النفس، وتعمل كمنبرٍ للتعبير عن الذات وتطوير مهارات الاتصال والتواصل مع الآخرين، كما تطوّر من مهاراتهم التكنولوجية، التي يبدو أنها أكثر ما سنحتاجه خلال السنوات القليلة الماضية.
لكن في وقتٍ أصبحت فيه كل لحظة في الطفولة مادّة ممتازة يمكن تسجيلها وتحميلها ليشاهدها الآلاف، فإنّ تمييز الطفل بين عالم الإنترنت والحياة الواقعية قد يتلاشى ويتبخّر. وليس غريبًا أنّ مدونات الفيديو تعمل على تحفيز الوالديْن، بل إجبارهم، على خلق حياة أكثر إثارة وأقرب للكمالية بحيث تصلح للخروج أمام الكاميرا ليشاهدها الآلاف وربما الملايين. الأمر الذي قد يضع الأطفال تحت ضغطٍ نفسيّ لإرضاء والديْهم والخروج في أفضل صورة أمام متابعيهم وجمهورهم. لا سيّما وأنّ الطفل يكون بحاجة إلى بعض الخصوصية ليكون قادرًا على ارتكاب الأخطاء التي يستطيع من خلالها التعلّم، تمامًا كما هو بحاجة لأبوين يحميانه ويوجّهانه عند ارتكابها ومن ثمّ يقومان بتوجيهه. وبكل تأكيد، يقف أسلوب الحياة التدويني أمام حاجة الطفل هذه.
هناك العديد من الأسئلة الأخلاقية التي يجب أن تثار عندما توضع تفاصيل الأطفال اليومية على الإنترنت، واستخدامها لجني المال، أو تحقيق المتعة لغيرهم من البالغين
أسئلة أخلاقية.. كيف سيشعر الطفل حالما يكبر؟
كما لا يمكن أبدًا التكهّن برأي الطفل فيما يقوم والداه بنشره لاحقًا عندما يكبر. فالأمر يكون معقّدًا للغاية بالنسبة للطفل حتى يستطيع اتخاذ القرار السليم فيما يتعلق بنشر صوره وفيديوهاته وتصبح محطّ تعليقٍ لأيّ كان، سلبًا أو إيجابًا. فقد يجد ذلك ممتعًا عندما يكون في سنّ الخامسة أو العاشرة، أو حتى في بداية مراهقته، لكن ليس بالضرورة أن يشعر بذات الشعور عندما يكبر ويجد تفاصيل طفولته قد أصبحت مشاعًا على منصات التواصل الاجتماعي دون أن يمتلك القدرة على حذفها أو إخفائها أو التخلص منها. وبالتالي، هناك العديد من الأسئلة الأخلاقية وغيرها من الأسئلة التي يجب أن تثار عندما توضع تفاصيل الأطفال اليومية على الإنترنت، واستخدامها لجني المال، أو تحقيق المتعة لغيرهم من البالغين.
إدمان من نوع آخر.. الوقوع في شِراك الإعجابات
مثله مثل غيره من منصات التواصل الاجتماعي، تشير الأدلة أنّ بعض مستخدمي تلك المنصات قد يصل إلى ما يمكن تسميته بالإدمان فيما يتعلّق بالإعجابات والآراء والمشاركات والتعليقات التي قد يتلقونها، فتصبح مشاعرهم الإيجابية مرتبطة بالتعليقات الإيجابية والعدد الكبير للإعجابات، فيما تؤدي التعليقات السلبية والتفاعل الضئيل إلى الشعور بالتعاسة أو حتى الاكتئاب وفقدان الثقة بالنفس والذات.
يصبح طفل اليوتيوب مدفوعًا لخلق محتوىً إضافيّ على الدوام، الأمر الذي يكون ربما على حساب نومه أو دراسته أو اجتماعه بعائلته أو أصدقائه
ويرجع السبب وراء ذلك إلى ارتباط التفاعل الحاصل بمستوى الدوبامين الذي يُطلقه الدماغ، والذي بدوره يحفز الفرد على تكرار إجراء التجربة أو السلوك من أجل الحصول على مكافأة على شكل ضربة دوبامين أخرى. لذلك، يصبح طفل اليوتيوب مدفوعًا لخلق محتوىً إضافيّ على الدوام، الأمر الذي يكون ربما على حساب نومه أو دراسته أو اجتماعه بعائلته أو أصدقائه. بمعنى أنّ المكافأة في دماغ الطفل تصبح تتمحور حول فكرة الإعجابات والتفاعل المتزايد مع المحتوى الذي يصنعه.
وغني عن القول أنّ يوتيوب وغيره من المنصات الشبيهة قد غيرت أيضًا من مفاهيمنا الأساسية واحترامنا للخصوصية، عند الأطفال والبالغين. إذ يقوم الأطفال الآن بشكل روتيني بنشر وتبادل المعلومات الشخصية الخاصة وغيرها من البيانات على منصات وسائل التواصل الاجتماعي دون النظر بشكل كامل في العواقب المحتملة، الأمر الذي يصبح فعليًا نوعًا من الإدمان لمشاركة المعلومات والتفاصيل اليومية.
ولنكونَ أكثر دقة، فيوتيوب مثل غيره من المنصات قادر على تقديم الفائدة لطفلك تمامًا كما هو قادر على تقديمها لك، لكن بالنهاية فالأثار السلبية لتلك المنصات لن تظهر على طفلك في مرحلته هذه بشكلٍ كليّ، وإنما تبدأ بالظهور عند بلوغه لسنّ الرشد وما يتبعه من مراحل. لذلك، سواء اكتقى طفلك بمتابعة الموقع أو قرّر اللحاق بدرب المدوّنين فيه، فالأمر ينبغي أنْ يكون خاضعًا لرقابةٍ طويلة وشديدة تحميه من الانجرار وراء عالم الاستهلاك الرأسماليّ ومشاركة المعلومات الشخصية على العلن والإدمان على تحصيل الإعجابات والآراء الإيجابية من الآخرين من حوله.