اتجهت أنظار العالم إلى أنقرة حيث ألقى الرئيس التركي كلمته أمام كتلته النيابية بشأن تفاصيل اختفاء الصحفي السعودي جمال خاشقجي، شرح فيها تسريبات تترى، لتصبح على لسانه رواية دولة تحمل.تفاصيل قضية قتل الصحفي السعودي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول، لكن خطاب الرئيس التركي طرح جملة مطالبات وتساؤلات خطيرة.
الرواية السعودية “كاذبة”
خرج أردوغان بالتسريبات التي جرى تدولها خلال الأيام الماضية إلى الصفة الرسمية، غير أنه لم يفصح في حديثه عن تفاصيل جديدة، بل ذكر معلومتين أو ثلاثًا فقط قد لا تكون كافية ليُقال عنها تفاصيل، خصوصًا في خضم السيل الكبير من التسريبات التي كشفت الكثير من المعلومات والأخبار بشأن القضية، مما بدا معه أن أردوغان لم يأت بجديد.
الرئيس التركي لم يفصح في حديثه عن تفاصيل جديدة، بل ذكر معلومتين أو ثلاثًا فقط قد لا تكون كافية ليُقال عنها تفاصيل
اكتفى أردوغان ببعض التفاصيل التي أكدت أن خاشقجي قتل بشكل “وحشي”، وبدا وكأن الهدف الرئيسي من خطابه هو أن يرسل رسائل سياسية لأكثر من جهة في هذه القضية، وعلى رأسها السلطات السعودية، التي خصص جزءًا من كلمته ليدحض روايتها لما حدث لخاشقجي.
وفي كلمته، أعطى الرئيس التركي معلومات سردية شبه كاملة للأحداث، كانت – في رأي البعض – مجرد استعراض لتسريبات سبق كشفها على مراحل عدة، بدءًا من زيارة خاشقجي للقنصلية السعودية بإسطنبول في 28 من الشهر الماضي، مرورًا بتوجّه فريق من القنصلية إلى السعودية للتحضير للجريمة، وحتى وصول فريق من 15 شخصًا سعوديًا بطائرتين خاصتين إلى إسطنبول بداية الشهر الحالي.
ويضيف أردوغان في التفاصيل أنه بعد قتل خاشقجي تم تكليف المدعي العام بالتحقيق في الجريمة، بينما نُزع القرص الصلب من كاميرات المراقبة في القنصلية يوم قتل خاشقجي، لافتًا إلى أن السعودية أنكرت في الـ4 من الشهر الحاليّ مقتله، وأن القنصل العام فتح أبواب القنصلية لوكالة “رويترز”، كما فتح بعض الخزائن أمام الكاميرات بشكل “مستهتر”.
اكتفى أردوغان في خطتبه ببعض التفاصيل التي أكدت أن خاشقجي قتل بشكل “وحشي”
ويخلص الرجل في حديثه إلى أن ثمة جريمة “مدبرة ومخططًا لها” ولم تأت من تصرفات فردية لأشخاص “تجاوزوا دورهم” كما أوحت بذلك الرواية السعودية، وقد وقعت في بلاده وإن كان مسرحها قنصلية دولة أخرى، وهو ما يرتب مسئولية أخلاقية على بلاده بالتقصي وضمان المحاسبة والعقاب.
بل ذهب أردوغان أبعد من ذلك بأن طالب السعودية بمحاكمة قتلة خاشقجي داخل تركيا، وكشف كل المتورطين “من أسفل السلم إلى أعلاه”؛ لأن بلاده تمتلك الأدلة على أنه تم التخطيط لها مسبقًا، وهو ما يعني أن السلطات التركية لديها قناعة – وربما دلائل – بأن هناك من هو أعلى ممن اتهمتهم السعودية متورط أيضًا في هذه القضية.
أسئلة بلا أجوبة
لم يرو خطاب أردوغان عن قضية قتل خاشقجي عطش من كانوا ينتظرون منه كشف تفاصيل الجريمة، إذ غلبت عليه الرسائل والإشارات السياسية الموجهة إلى أكثر من جهة، ولم يرد فيه من المعلومات إلا النزر اليسير. وقد كان حجم التطلعات والتوقعات كبيرًا لدى المتتبعين لهذا الخطاب باعتباره أول خطاب لمسؤول رسمي تركي وعد بكشف التفاصيل، والحديث عنها.
مازال #أردوغان يلعب بنفس الخطة ، محاولة تفتيت التماسك السعودي ، وبعد ضرب رواية الإنكار هاهو يضرب رواية كبش الفداء ، و هدفه تثقيل موقع تركيا في العالم من خلال الدعوة إلى “المحاكمة في إسطنبول ” ولم ينجرف إلى الصيد السهل لخصمه (السعودي)
— wael abd el fattah (@waelabdelfattah) October 23, 2018
فقد كان أردوغان يسرد الرواية الرسيمة للدولة وهو يعرف ربما ألا إضافة الآن على ما سُرِّب، بل تأكيد وإضفاء صبغة رسمية، والأهم تحويل الرواية إلى مقدمات إلى نتائج، ولإثبات ذلك تحدث أردوغان بالتواريخ، متى وكيف دخل فريق الاغتيال؟ ومتى طلب من خاشقجي مراجعة القنصلية؟ ومتى وكيف توجه ثلالثة من أعضاء الفريق إلى غابة بلغراد ومنطقة أخرى قبل مقتل الصحفي البارز؟ ربما ليعاينوا مكانًا مفترضًا لإخفاء الجثة أو أجزاء منها على الأقل.
برأيي أن #اردوغان أعاد رمي الكرة في الملعب الأميركي، ليس من مصلحة #تركيا أن توضَع في مواجهة #السعودية بشكل مباشر وهذه استراتيجية #أنقرة منذ اليوم الأول للأزمة، لا يريدون إعطاء #محمد_بن_سلمان امتياز قطع العلاقات وحرف الأزمة إلى مكان آخر .. الخلاصة: عليك أنت يا #ترامب أن تزيحه
— Ali Mourad (@alihmourad) October 23, 2018
لكن أسئلة أخرى قد ضلت طريقها للإجابة، فقد طرح أردوغان عدة أسئلة أكثر من الإجابة عن تلك المثارة بشأن القضية، ومنها لماذا اجتمع الـ15 شخصًا في إسطنبول؟ وبناء على تعليمات ممن؟ ولماذا اتخذوا من القنصلية مكانًا للتحقيق مع خاشقجي؟ ولماذا تم الإدلاء بتصريحات متناقضة عن الجريمة؟ ولماذا لم يُعثر على الجثة حتى الآن؟ ومن هو المتعاون المحلي الذي تم تسليم الجثة له؟
ولئن كان ما كشفه من معلومات جديدة قليلاً، فإنه يحمل في طياته رسالة مفادها بأن أنقرة لا يزال لديها الكثير مما يمكن أن تفرج عنه في هذا الملف، لكنها لا تريد أن تقدم للسعودية معلومات مجانية ربما تبني عليها رواية أخرى، أو تعدّل بناء عليها روايتها الحالية.
قوض الخطاب التركي الرسمي كل الروايات السعودية المتناقضة، ونزع البساط من تحت أقدام السعوديين
وفي خطابه ألقى أردوغان بالكرة في ملعب السعوديين حين طرح أسئلة ربما لا تماك إجابته إلا المملكة وولي عهدها، كما ترك الرئيس التركي أيضًا الباب مواربًا أمام السعودية كي تبادر بخطوات أخرى تجعلها تقترب أكثر مما تريده تركيا، وذلك حين اقترح تسليم السعودية الأشخاص الـ15 لمحاكمتهم في تركيا بدلًا من السعودية؛ لأن الجريمة وقعت فيها، كما طالب السعودية بتسليم بيانات المتعهد المحلي أو كشف جثة القتيل طالما اعترفت بمقتله.
في الوقت نفسه، قوض الخطاب التركي الرسمي كل الروايات السعودية المتناقضة، ونزع البساط من تحت أقدام السعوديين، فالجريمة تم التخطيط لها بشكل كبير في أروقة الإدارة السعودية، ما يشير إلى عدم الاقتناع بالرواية التي ربطت الجريمة بنائب رئيس الاستخبارات أحمد العسيري ومستشار الديوان الملكي سعود القحطاني وضباط استخبارات.
“إن تحميل مثل هذه المسألة إلى عدد من موظفي الأمن والاستخبارات لا يطمئننا ولا يُطمئن المجتمع الدولي.
ولن يطمئن ضمير الإنسانية إلا بمحاسبة المسؤولين بدءًا من الذي أصدر الأوامر وصولًا إلى المنفذ”.
— رجب طيب أردوغان (@rterdogan_ar) October 23, 2018
وبالعودة قليلاً إلى الوراء، مجد الروايات السعودية قد تضاربت بشأن ما حدث، بين نفي قاطع من جانب السلطات السعودية وتخبط في التصريحات حتى الاعتراف صراحة بأن الصحفي المغتال لقي مصرعه داخل القنصلية، لكن الرياض ألقت باللائمة على فريق سعودي مؤلف من 18 شخصًا جاؤوا إلى إسطنبول بغرض استجواب خاشقجي، ولكن الأمور لم تسر كما كان متوقعًا لها، وقد نفت السلطات السعودية أي علم مسبق لأصحاب القرار بشأن الجريمة.
عندما غاب ولي العهد
رغم التفاصيل الواردة في الخطاب لم يقدم الرئيس التركي كل الأدلة باستثناء تلك التي تشير إلى أن وجود هذا الفريق في إسطنبول “ليس مصادفة”، فبحسب قوله: “لم يحدث القتل بطريقة عفوية، وإنما كان مخططًا له من مستوى أكبر من الجهات الأمنية التي نفذت”.
وبقدر ما كان خطاب أردوغان حريصًا على أن يُفهم السعوديين أنه غير مقتنع بروايتهم، وأن عليهم أن يكشفوا من أمر منفذي الجريمة، بدل “إلقاء اللوم على رجال الأمن والمخابرات”، حرص أيضًا على أن يثني على الملك سلمان بن عبد العزيز وعلى “مصداقية خادم الحرمين الشريفين”، وخصه في خطابه بـ”الحكمة”، وطالبه بسرعة الإجراءات،
لم يأت أردوغان على ذكر ولي العهد محمد بن سلمان، إلا أن يُستشف من الخطاب أنه ربما يقصده بشكل غير مباشر في قوله “أعلى السلم”.
وكان واضحًا الفصل بين الملك سلمان وابنه ولي العهد، فبخلاف ترامب الذي يحاول الاتصال بابن سلمان أكثر من الملك لإنقاذه، لم يأت أردوغان على ذكر ولي العهد محمد بن سلمان، إلا أن يُستشف من الخطاب أنه ربما يقصده بشكل غير مباشر في قوله “أعلى السلم”.
يفرِّق أردوغان وهو سياسي ورجل دولة لا مدعٍ عام بين الدولة السعودية ورأسها الملك سلمان بن عبد العزيز وبين أي شخص في المملكة قد يكون متورطًا في الجريمة، وهذا ما يفسر تجنبه ولي العهد تمامًا وتركيزه على المطالبة بمحاسبة المتورطين المحتملين أيًا كانوا، فليس من المعقول إلقاء المسؤولية على بعض الأمنيين وترك ما خطط ونسق وأمر محصنًا.
ويرى البعض أن غياب ولي العهد عن الخطاب التركي الرسمي يرجع إلى أن التحقيقات لم تنته بعد، وقد كان واضحًا المضي قدمًا في التحقيقات دون صفقات، فخطاب الرئيس التركي يأتي بعد تأكيد مسؤولين أتراك رفض بلادهم عقد أي صفقة مع السعودية للتغطية على جريمة تصفية خاشقجي.
Erdogan’s apparent attempt to divide King Salman from his favourite son, Crown Prince Mohammed Bin Salman, May he the most interesting element of his speech.
— David D. Kirkpatrick (@ddknyt) October 23, 2018
إذا لم يحدث هذا؛ أي المحاسبة على أعلى مستوى، فإن أردوغان يحتفظ بخياراته، وهي المطالبة بجلب المشتبه فيهم إلى العدالة داخل تركيا، وقبل هذا وذاك يطالب الرجل بإجلاء مصير الجثة وتحديد من قالت الرواية السعودية إنه “متعاون محلي” قام بالتخلص منها، ما يشير إلى أنه لا مجال لصفقات سياسية.
ويؤكد ذلك ما كشفته صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية بشأن زيارة الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة ومستشار الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، تركيا قبل يومين، ولقائه الرئيس أردوغان، وقدم حزمة من الحوافز “شملت مساعدات مالية واستثمارات لمساعدة الاقتصاد التركي وإنهاء حصار قطر”، مقابل إسقاط قضية خاشقجي.
وبحسب المصدر المقرب من الرئيس التركي الذي نقلت عنه الصحيفة الأمريكية، فإن أردوغان رفض عرض الأمير خالد الفيصل ووصفه بـ”رشوة سياسية”، وأكد ذلك ما قاله المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن: “الخط الذي رسمه الرئيس التركي منذ بداية هذه القضية واضح جدًا، وهو أنه لن تبقى أي معلومة تتعلق بهذا الشأن مخفاة”.
لم يكشف الرئيس التركي مصير جثة خاشقجي
ما لم يقله أردوغان
لافت أن كلمة أردوغان قد تزامنت مع وصول مديرة المخابرات المركزية الأمريكية إلى بلاده، ما يعني ضبط الإيقاع التركي مع الأمريكي ربما، ما يحفظ ماء الوجه لأعلى الهرم السعودي بالاعتراف والبحث عن مخرج لا يقفز من فوق الحقيقة ولا يتهرب من الإطاحة بأي مسؤول تورط في اغتيال خاشقجي.
ملخص ما لم يقله أردوغان مباشرة: لن نكتفي بالتضحية بالمنفذين في قضية خاشقجي ونترك المخططين من “أعلى السلم”، وهاتوا المتهمين يتحاكموا هنا في اسطنبول لأن ما ينفعش المجرمين الحقيقيين يحاكموا المنفذين ويفلتوا هم، وشايفك يا بن سلمان ومش هاسيبك تفلت منها بالبساطة دي.
— Amr Ezzat عمرو عزت (@AmrEzzat) October 23, 2018
فمن هو المعني بأسوأ جرائم الاغتيال السياسي في القرن؟ وهل تكفي الإطاحة بنائب رئيس المخابرات السعودي أحمد عسيري ومستشار ولي العهد سعود القحطاني ليطوى الملف؟ يسارع كثيرون إلى النفي، فالأخير؛ أي القحطاني، وهو مستشار ولي العهد ونديمه يبدو أنه كان أكبر مما يُظن ومن منصبه أيضًا.
فوكالة “رويترز” التي درج السعوديون على تسريب ما يريدونه عبرها، وهي وكالة أنباء موثوقة، تقول إن “القحطاني كان حاضرًا في كل تفاصيل عملية الاغتيال، بل إنه تواصل مع القتلة في القنصلية عبر “سكايب”، وطلب منهم أن يجلبوا رأس خاشقجي، وكل ذلك بعد أن شتم الصحفي البارز وتوعده”.
كارل بيلدت: أردوغان طالب بمشاركة دولية أوسع في التحقيق بشأن #جمال_خاشقجي ، دحض الرواية السعودية وقال بشكل واضح إن العملية خُطط لها بعناية، برأ الملك سلمان ولهذا أشار بشكل غير مباشر إلى محمد بن سلمان (مبس) https://t.co/MMK5ZDXQHN
— Mahmoud AlKen محمود الكن (@mmalken) October 23, 2018
ويُعتقد أن ماهر المطرب، وهو من الدائرة الأمنية المقربة من ولي العهد السعودي قد أجرى 19 مكالمة مع الرياض خلال وجوده في إسطنبول، 4 منها مع المكتب الخاص بالأمير محمد بن سلمان، ما يعني أن القرائن تكاد أن تتحول إلى أدلة.
هي الإشارة التي قابلتها إشارة ورسالة أخرى من مجلس الوزراء السعودي الذي أكد أن المملكة حريصة على محاسبة المقصر كائنًا من كان، والتعبير فيما هو مذكور حرفي ومنقول عن وكالة “رويترز”، وأنها عازمة على ألا تقف الإجراءات عند محاسبة المقصرين والمسؤولين المباشرين لتشمل من قالت الوكالة إنها “إجراءات تصحيحية”، وطبعًا فتعبير الإجراءات التصحيحية يبقى مفتوحًا على احتمالات عديدة، وليس بالضرورة ما ترمي إليه تركيا.
لافت أن مجلس الوزراء السعودي نفسه يبدو وكأنه يستدرك وينوه باللجنة الوزارية التي شُكلت برئاسة ولي العهد لإعادة هيكلة الاستخبارات، فماذا لو كان المقصر أيًّا كان هو نفسه من يشكل ويهيكل ويحاسِب ولا يحاسَب، لعله الإنكار يتوحش أكثر.