ترجمة وتحرير: نون بوست
ضربت عاصفتان شديدتان العالم العربي في العقد الماضي. ففي سنة 2011، وخلال ما كان يسمى في بادئ الأمر “بالربيع العربي”، أدت الانتفاضات الشعبية إلى استبداد الحكام في جميع أنحاء المنطقة. كما تراجعت الآمال في أن تعلن هذه الحركات الاحتجاجية السلمية عن عصر جديد من الديمقراطية في الشرق الأوسط. وباستثناء تونس، انتهى الأمر في البلدان التي شهدت الربيع العربي باندلاع اضطرابات أو حروب أهلية مميتة. ومن ثم في سنة 2014، تعرض قادة المنطقة لضربة موجعة أخرى عندما هبط سعر النفط، الأمر الذي يهدد النموذج الأساسي للحكم الذي تستند عليه قوتهم.
منذ ذلك الحين، جعلت أسعار النفط المنخفضة من الصعب على الأنظمة تمويل الميزانيات المبالغ فيها، وشراء النخب، وإجراء إصلاحات طال تأجيلها. في الواقع، لا يعد التراجع في سعر النفط هذا مؤقتا، إذ أنه من غير المرجح أن يرتفع مرة أخرى إلى مستوياته ما قبل سنة ظاهريا، يبدو أن العديد من الدول العربية قد نجت من هاتين العاصفتين، على الرغم من الهزات التي أحدثتها، مع ذلك يبدو أن هناك المزيد من الاضطرابات التي تلوح في الأفق. وقد كانت الصدمات التي وقعت في 2011 و2014 مجرد الأعراض الأولية لتحول أكثر عمقاً في المنطقة ألا وهو الصفقة الأساسية التي تعزز الاستقرار في دول الشرق الأوسط الذي يشهد تراجعا. وما لم يتحرك القادة الإقليميون بسرعة لإيجاد أرضية تفاهم جديدة مع مواطنيهم، فستعصف المزيد من الكوارث مجددا بالمنطقة.
منذ أكثر من نصف قرن، استخدمت حكومات الشرق الأوسط الثروة النفطية لتمويل نظام للرعاية الاقتصادية. وتقدم هذه الحكومات المعروفة باسم “الدول المستأجرة”، جزءا كبيرا من عائداتها من بيع الموارد الوطنية للحصول على دعم أجنبي بدلاً من استخراج الضرائب من المواطنين. وفي بعض البلدان، على غرار المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، جاءت الإيرادات من بيع الموارد النفطية المحلية لبلدان أخرى، مثل مصر والأردن، في شكل تحويلات من رعاة المنطقة مقابل الثروة النفطية.
في جميع أنحاء الشرق الأوسط، استخدمت الحكومات موارد النفط لاستخلاص الأجور، وتمويل التعليم، والرعاية الصحية، مقابل الخضوع سياسيا لجهات خارجية. لكن، ومع استمرار انخفاض أسعار النفط وتحول التركيبة السكانية للمنطقة، أصبحت هذه المقايضة الأساسية تبدو غير مستدامة. مع ذلك، تكافح الحكومات من أجل إحياء هذه الصفقة، خاصة وأن المصدر الرئيسي لشرعيتها بات مهددا.
تعتمد الدول المستوردة للنفط، على غرار مصر والأردن والمغرب وتونس، على منح كبيرة من جيرانها المنتجين للنفط وتحويلات مواطنيها العاملين في الخارج في صناعة النفط
في حال استجابت لهذه المتغيرات من خلال تشديد قبضتها على السلطة وفشلت في تنفيذ إصلاحات ذات مغزى، فإن حكومات الشرق الأوسط تخاطر بإطلاق العنان للاضطرابات الاجتماعية على نطاق أوسع من أي وقت مضى. ومن دون التعويل على الاقتصاد الريعي، يجب على الحكومات بناء اقتصادات منتجة تستند إلى الكفاءة وليس الولاء ويسيطر عليها القطاع الخاص بدلا من الدولة.
نظرا لأن مثل هذه التغييرات الهيكلية الكبيرة ستخلق ردود فعل ومشاكل، سيكون من المستحيل أن تستمر الحكومات دون كسب ود الشعب. في الحقيقة، لن تنجح التعديلات الاقتصادية دون تغييرات سياسية. وإذا تبنت حكومات الشرق الأوسط الإصلاحات الاقتصادية، جنبا إلى جنب مع المزيد من المساءلة والمشاركة السياسية، فقد يكون لها حظ أوفر في تحقيق الاستقرار على المدى الطويل. في المقابل، وإذا لم تقدم على ذلك، فلن يطول الأمر قبل أن تضرب العاصفة التالية، التي ستكون أشد، المنطقة.
الصفقة الخاسرة
عادة ما يتم فرض العقود الاجتماعية الملزمة لحكومات الشرق الأوسط ومواطنيها، ويتم تطبيقها من أعلى قمة في السلطة إلى الشعب. وقد كانت المساومات الاستبدادية، التي يؤمن بها الحكام، فضلا عن الدعم من خلال الإنفاق العام بدلا من العمليات السياسية التشاركية، مبنية على نظام اقتصادي ريعي. وباستخدام الثروة النفطية، ستوفر الحكومات الرعاية الاقتصادية، وتعمل كمؤسسة رئيسية للوظائف، والإعانات، والرعاية الصحية الأساسية والتعليم.
استخدمت الدول المنتجة للنفط وهي الجزائر والبحرين وإيران والعراق والكويت وليبيا وعمان وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، إيراداتها العائدة من بيع نفطها الخاص. في المقابل، تعتمد الدول المستوردة للنفط، على غرار مصر والأردن والمغرب وتونس، على منح كبيرة من جيرانها المنتجين للنفط وتحويلات مواطنيها العاملين في الخارج في صناعة النفط.
دعمت دول الخليج الدول المستوردة للنفط، وخاصة مصر والأردن، لأسباب سياسية أهمها ضمان اتساق مواقف هذه الدول إلى حد كبير مع مواقفها، أو لأوضاع اقتصادية، حيث قدمت مصر والأردن عمالة رخيصة ومتعلمة. وبحلول مطلع القرن الحالي، مثلت المنح والتحويلات في المتوسط أكثر من 10 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي لمصر والأردن. وقد اتخذ الاقتصاد الريعي أشكالاً مختلفة في دول مختلفة، ولكن بطريقة أو بأخرى، سمحت عائدات النفط منذ فترة طويلة للعديد من دول الشرق الأوسط المستوردة للنفط بأن تعيش خارج نطاق إمكانياتها.
بدلاً من خلق وظائف من خلال أنظمة إنتاجية تستند إلى الجدارة ويقودها القطاع الخاص، وجدت الحكومة أن توفير وظائف في القطاع العام، سواء كانت مفيدة أو غير مفيدة، يمثل أفضل وسيلة لضمان الولاء ووأد المطالب بالمساءلة
في مقابل رعايتهم، توقعت هذه الدول أن يترك المواطنون الحكم لنخبة صغيرة، التي أصبحت بمرور الوقت أكثر عزلة عن عامة السكان. في الأثناء، ساعدت عائدات النفط الأنظمة في دعم نفسها بالأوساط السياسية والاقتصادية والبيروقراطية التي تم ضمان ولائها حيث كانت مصالح الطرفين مرتبطة.
في الحقيقة، كلما زادت الوظائف والإعانات التي يمكن أن تقدمها الحكومات، كان ذلك أفضل. ولكن بدلاً من خلق وظائف من خلال أنظمة إنتاجية تستند إلى الجدارة ويقودها القطاع الخاص، وجدت الحكومة أن توفير وظائف في القطاع العام، سواء كانت مفيدة أو غير مفيدة، يمثل أفضل وسيلة لضمان الولاء ووأد المطالب بالمساءلة. وقد كانت نسبة وظائف القطاع العام في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مقارنة بوظائف القطاع الخاص هي الأعلى في العالم. وكانت العقود الاجتماعية القائمة على الريع معمولا بها طوال النصف الثاني من القرن العشرين، أي طالما اعتبر المواطنون أن الخدمات المقدمة في مقابل موافقتهم، مرضية على الأقل. لكن في التسعينيات، بدأت الظروف، التي كانت الدول بحاجة إليها لتحقيق أهدافها، في الاضمحلال.
مع نمو الحكومات، احتاجت هذه الأخيرة إلى الإبقاء على أسعار النفط مرتفعة من أجل تمويل البيروقراطيات المتزايدة واحتياجات النخب. ونتيجة لذلك، امتدت الدول بشكل يفوق إمكانياتها. ففي الأردن، على سبيل المثال، استخدمت الحكومة والجيش نسبة هائلة بلغت 42 بالمائة من القوة العاملة في السنوات الأولى من هذا القرن. وبلغت إعانات الطاقة المقدمة من الحكومة للمواطنين 11 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي في مصر، و10 بالمائة في المملكة العربية السعودية، و9 بالمائة في ليبيا، و8 بالمائة ونصف في البحرين والإمارات العربية المتحدة، و8 بالمائة في الكويت.
بمجرد أن بدأ حجم البيروقراطيات في هذه الدول يتفوق على ارتفاع أسعار النفط في مطلع القرن الحالي، كان لا بد من تقديم شيء ما في المقابل. ولم تعد الحكومات قادرة على تحمل تكاليف توظيف المزيد من الأشخاص أو دعم السلع مثل الخبز والبنزين. وبلغت معدلات البطالة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 11 بالمائة في المتوسط في سنة 2000، وبين الشباب، كان المتوسط 30 بالمائة.
حاولت العديد من حكومات الشرق الأوسط معالجة مشكلة تشويه العقد الاجتماعي القديم من خلال إدخال إصلاحات اقتصادية دون إرفاقها بتغييرات سياسية
في الوقت الذي كانت فيه الحكومات تناضل من أجل الحفاظ على الدول المتضخمة، بدأت جودة الخدمات الصحية والتعليمية في التردي. لكن، بدلاً من تقديم مزيد من التمثيل السياسي للمواطنين للمساعدة في تخفيف حدة الأزمة، واصلت الحكومات الإصرار على أن المواطنين يؤيدون إلى النهاية هذه الصفقة الاستبدادية، بالامتناع عن المطالبة بنفوذ أكبر، حتى مع مخالفة القادة لرغبتهم.
الموجات الصادمة
حاولت العديد من حكومات الشرق الأوسط معالجة مشكلة تشويه العقد الاجتماعي القديم من خلال إدخال إصلاحات اقتصادية دون إرفاقها بتغييرات سياسية. وعلى الرغم من أن هذه الإصلاحات كانت تهدف بشكل كبير إلى مساعدة الأنظمة على إحكام قبضتها على السلط، إلا أن بعضها، كان يمكن أن يعود بالنفع على المواطنين.
لكن من دون الإشراف على التحولات الاقتصادية، ستعود الجهود التي تم التخطيط لها بشكل جيد؛ على غرار خصخصة الصناعات التي تديرها الدولة، وتحرير أنظمة التجارة، والاندماج في الاقتصاد العالمي، بالنفع على النخب بدلاً من السكان. علاوة على ذلك، سيتفشّى الفساد داخل الدولة في ظل غياب هيئات المراقبة مناسبة. وفي الواقع، ربطت معظم شعوب الشرق الأوسط الإصلاحات الاقتصادية في بداية هذا القرن بارتفاع ثروة النخبة بدلاً من تحسين أوضاعهم.
لذلك، انخفض ترتيب العديد من دول الشرق الأوسط في مؤشر مدركات الفساد لمنظمة الشفافية الدولية بشكل كبير. فقد تراجع الأردن من المرتبة 43 (من 133 دولة) سنة 2003 إلى المرتبة 50 (من أصل 178) سنة 2010. وخلال نفس الفترة، انخفض ترتيب مصر من المرتبة 70 إلى المرتبة 98، في حين تراجعت تونس من المرتبة 39 إلى المرتبة 59.
في بعض الحالات، كان كسر العقد الاجتماعي القديم بمثابة حمل يصعب على المجتمعات أن تتحمله. وعلى الرغم من أن هذا العقد الاجتماعي لم يكن بأي حال من الأحوال العامل الوحيد الذي أدى إلى اندلاع شرارة الانتفاضات العربية سنة 2011، إلا أنه ساهم في انهيار العديد من الأنظمة، لا سيما في البلدان التي كانت المؤسسات فيها ضعيفة بالفعل.
في الأردن، رد الملك عبد الله على الاحتجاجات من خلال إقرار جملة من الإصلاحات التي ساهمت بشكل مؤقت في درء شعور الاستياء
كان الرئيس التونسي، زين العابدين بن علي والرئيس المصري، حسني مبارك أول الرؤساء الذين تمت الإطاحة بهم. وفي كل من ليبيا، وسوريا، واليمن، حيث لم تكن الأنظمة مهتمة ببناء مؤسسات راسخة، غمرت المظاهرات شوارع هذه الدول الضعيفة ما أدى إلى انهيار النظام القائم، واندلاع حروب أهلية. وفي البحرين، فتحت المظاهرات المناهضة للحكومة الباب أمام ظهور حركات التمرد ما أثار غضب النظام الملكي على الرغم من أنه لم يشكل له أي تهديد يُذكر. والجدير بالذكر أن الأنظمة الملكية في الأردن والمغرب واجهت موجة من الاحتجاجات المتواصلة لكنها نجت نسبيا من الاضطرابات.
في دول الخليج، كان لدى الأنظمة حل في متناول اليد. فعلى المدى القصير على الأقل؛ قاموا بضخ الأموال من أجل تهدئة الرأي العام. كما وعد العاهل السعودي الملك عبد الله بتقديم حزمة مساعدات بقيمة 130 مليار دولار شملت تقديم رواتب أعلى ومنح سكن للسعوديين القاطنين هناك. فضلا عن ذلك، قدمت حكومات أخرى في الخليج عروضا مماثلة، وذلك بفضل ارتفاع أسعار النفط. وفي شباط / فبراير سنة 2011، منحت الحكومة الكويتية لكل مواطن 1000 دينار كويتي (حوالي 3560 دولار) وأطعمة أساسية مجانية لمدة تتجاوز السنة. أما في عُمان، فقد وفرت الحكومة 30 ألف وظيفة إضافية ورفعت من قيمة من المنح الجامعية بنسبة 40 بالمئة.
في الأردن، رد الملك عبد الله على الاحتجاجات من خلال إقرار جملة من الإصلاحات التي ساهمت بشكل مؤقت في درء شعور الاستياء. علاوة على ذلك، ساعدت حزمة المساعدات التي تم جمعها من مختلف دول الخليج والتي بلغت قيمتها خمسة مليارات دولار البلاد على امتصاص الضغط من الشارع. في المقابل، لم يكن ذلك كافيا لقمع المعارضة حتى اندلعت العاصفة سنة 2014.
كان من المفترض أن تكون انتفاضات سنة 2011 قد قدمت درسا لحكومات الشرق الأوسط مفاده أن الاهتمام الجاد بالحوكمة قد طال انتظاره. في المقابل، بمجرد أن يتم احتواء الضغط، تعود الحكومات إلى عاداتها القديمة على الفور. فقد عادوا مجددا إلى الاستبداد من خلال ظهور العنف والمعاناة التي برزت في كل من ليبيا وسوريا واليمن، بالإضافة إلى صعود الإسلاميين في مصر، الأمر الذي أدى إلى إحباط عزيمة المواطنين القاطنين في دول أخرى من مواصلة المواجهات مع الدولة.
في جميع أنحاء الشرق الأوسط، لم يعد بوسع منتجي النفط تحمل تكاليف الدولة التي توفر الرفاهية لمواطنيها
في آب/ أغسطس سنة 2014، انخفض سعر النفط، الذي وصل إلى أكثر من 140 دولارا للبرميل سنة 2008، إلى أقل من 100 دولار للبرميل. أما خلال سنة 2016، وصل سعر البرميل إلى مستوى متدني بلغ 30 دولارًا للبرميل قبل أن يتعافى سعره ليصل إلى حوالي 70 دولارًا للبرميل، وهو السعر مازال عليه إلى اليوم. وتجدر الإشارة إلى أنه يجب على المملكة العربية السعودية، إبقاء سعر النفط فوق مستوى 85 – 87 دولار للبرميل بهدف الحفاظ على ميزانية متوازنة وتمويل المساعدات السخية لحكومات إقليمية أخرى. لذلك، يعني انخفاض سعر النفط أن الحكومة اضطرت إلى تغيير عاداتها في الإنفاق بشكل كبير لتجنب التدين.
علاوة على ذلك، اضطرت دول أخرى على غرار الكويت والإمارات العربية المتحدة، إلى تقليص مساعداتها الإقليمية. وفي جميع أنحاء الشرق الأوسط، لم يعد بوسع منتجي النفط تحمل تكاليف الدولة التي توفر الرفاهية لمواطنيها، ولم يعد بإمكان الدول المستوردة للنفط الاعتماد على المنح التي تمنحها الدول المنتجة للنفط أو على التحويلات المالية التي يقدمها مواطنوها العاملين في تلك الدول لتمويل أنظمة رعاياهم.
أدت نهاية عصر ارتفاع أسعار النفط إلى اندلاع موجة جديدة من الاحتجاجات. فخلال سنة 2018، ارتفعت الأصوات المطالبة بالتغيير في المملكة العربية السعودية. علاوة على ذلك، شهد الأردن احتجاجات في الشوارع لأول مرة منذ الربيع العربي. ويوضح هذان البلدان بشكل خاص تداعيات نهاية الربيع العربي في المنطقة. ويتمثل البلد الأول، في المملكة العربية السعودية، التي تعد مثالا لبلد منتِج للنفط لم يعد بإمكانه أن يوفر الرفاهية. أما البلد الثاني، فهي المملكة الأردنية، التي تعد مثالا لبلد مستورد للنفط لم يعد يعتمد على أموال النفط من الخارج بهدف تغذية نظام اقتصادي وسياسي غير فعال.
تغيير المقاربات
في المملكة السعودية، ترافقت نهاية الأسعار المرتفعة للبترول مع انتقال السلطة إلى جيل جديد من الحكام، من أبرزهم ولي العهد محمد بن سلمان، المعروف اختصارا بعبارة مبس. وكانت المراجعات الإقتصادية مطروحة في المملكة حتى قبل أن يتمكن الشاب محمد بن سلمان، الذي لا يزال في العقد الرابع من عمره، من تصدر المشهد السياسي.
تعاملت الحكومة السعودية مع هذا الواقع الجديد من خلال حزمة ضعيفة من الإصلاحات، التي من غير المنتظر أن تصحح الأوضاع بشكل كامل
بداية من سنة 2015، واجهت المملكة عجزا كبيرا في الموازنة، وهو ما كان يعني أنها لم تعد قادرة على تحمل نظام الإنفاق الحكومي السخي على الداخل والخارج. وفي 2017، وصل العجز في الميزانية إلى 61 مليار دولار، أي ما يعادل 9.2 بالمائة من الناتج القومي الخام. ومن المنتظر أن توجه البلاد تواصل هذا العجز إلى حدود 2023 على الأقل، وكنتيجة لذلك قررت الحكومة السعودية وقف الدعم الحكومي وسمحت برفع أسعار الخدمات. كما أن التدخلات الإقليمية للمملكة في سوريا واليمن وغيرها، سلطت المزيد من الضغط على الإقتصاد المتعثر. إذ أن الحرب اليمنية بمفردها تشير التقديرات إلى أنها تكلف خزينة المملكة ما بين 6 و7 مليار دولار شهريا.
تعاملت الحكومة السعودية مع هذا الواقع الجديد من خلال حزمة ضعيفة من الإصلاحات، التي من غير المنتظر أن تصحح الأوضاع بشكل كامل. وفي محاولة لإنعاش إقتصادها الذي يشهد ركودا، أعلنت الحكومة عن ميزانية مرتفعة بشكل مبالغ فيه لسنة 2018، دون أن تقدم تفسيرات منطقية حول الكيفية التي تعتزم بها توفير تلك الموارد. وقد أوقفت الحكومة السعودية دعمها التقليدي للأردن لمدة ثلاث سنوات، وهي لم تعد قادرة على دعم نظام عبد الفتاح السيسي في مصر، بمبالغ تقدر بعشرات مليارات الدولارات التي تدفع سنويا، في إطار برنامج أطلقه السعوديون بعد أن تمكن السيسي من الإطاحة بالحكومة الإسلامية في مصر في 2013.
كما شرعت السعودية في برنامج إصلاحات اجتماعية مثيرة للإعجاب، تتضمن السماح للنساء بقيادة السيارة، وإعادة فتح دور السينما، وتحجيم نفوذ وصلاحيات الشرطة الدينية، في إطار جهود تهدف على الأرجح إلى إرضاء الجيل الجديد من الشباب السعودي، وصرف اهتمامه عن المطالبة بالإصلاحات السياسية. وسمحت هذه الإصلاحات الاجتماعية لمحمد بن سلمان بكسب شعبية هامة، في صفوف الشباب السعودي. إلا أن معدلات البطالة في المملكة لا تزال مرتفعة: فقد وصلت لحوالي 35 بالمائة في سنة 2017. والسؤال الآن هل سيقبل الجيل الجديد بالإجراءات التقشفية وفقدان الإمتيازات وبرامج الدعم الحكومي، دون أن تكون لهذا الجيل كلمة في كيفية إدارة شؤون البلاد، في مقابل هذه الإجراءات؟
هل قدمت الأحداث في سنة 2011 لنا دروسا؟ الإجابة عن هذا السؤال هي لا. فالنموذج الأردني بشكل خاص، يشير إلى أن تواصل التقشف الاقتصادي، الذي ترافقه معدلات بطالة في صفوف الشباب تفوق 30 بالمائة، من المرجح أن يدفع بالجيل الجديد إلى طلب المزيد من التمثيل السياسي. وهذه المطالب يمكن أن تتضمن إنشاء برلمان منتخب، قد يكون الأول من نوعه في تاريخ السعودية.
امرأة سعودية تحتفل برفع الحظر عن قيادة المرأة للسيارة، السعودية، حزيران/ يونيو 2018.
ليست المملكة السعودية الدولة الخليجية الوحيدة التي تواجه تحدي انخفاض أسعار النفط، ذلك أن الكويت، التي يوجد فيها برلمان منتخب، واجهت تراجعا في عائداتها النفطية بحوالي 15 مليار دولار في سنتي 2014 و2015. وتماما كما في الحالة السعودية، فإن الكويت اعتمدت في البداية على احتياطاتها المالية الضخمة (تقدر بأكثر من 600 مليار دولار)، ولكنها الآن بدأت بإقرار تخفيضات في برامج الدعم، ووضعت مخططا متوسط المدى لإصلاحات اقتصادية سوف تبدأ بتحريك عجلة الاقتصاد الكويتي بعيدا عن التبعية للنفط. كما أن عمان أيضا تفاعلت بنفس الطريقة مع انخفاض أسعار النفط: من خلال خفض الدعم الحكومي، وخفض امتيازات موظفي القطاع العام، وزيادة الضرائب.
الاستقرار الهش
في الأردن، خلق تراجع المساعدات المالية من الدول المجاورة المنتجة للنفط، وانخفاض العائدات الضريبية، تحديا جديدا واجهته الحكومة لمواصلة تمويل نظام الاقتصاد الريعي. ورغم أن الأردن يحكمها نظام ملكي يحظى بالقبول لدى المجتمع كسلطة شرعية، فإن الموجات الأخيرة من الاحتجاجات تشير إلى أن هذا النظام بات أكثر هشاشة مما يعتقده كثيرون. إذ أن الملك كان في السابق يواجه مطالب الإصلاح من خلال وضع إجراءات خصوصية لاستعادة الاستقرار في الشارع، إلا أن ذلك لم يكن أبدا يفضي إلى اقتسام حقيقي للسلطة مع السلطتين التشريعية والقضائية.
كانت هذه الإجراءات الخصوصية تعتمد على مساعدات مالية سخية من دول الخليج (وقوى أخرى من بينها الولايات المتحدة)، وهو ما سمح للحكومة الأردنية بالمحافظة على نظامها الاقتصادي والاجتماعي غير الفعال والقائم على الولاءات. فقد استخدمت الحكومة الأموال من أجل شراء دعم النخب وتمويل بيروقراطية ثقيلة في نظام يفضل الولاء على الكفاءة. وفي سنتي 2011 و2012، اندلعت مظاهرات واسعة النطاق في كل أنحاء الأردن، كردة فعل على الصعوبات الاقتصادية والسياسية، إلا أن حدتها سرعان ما تلاشت بعد أن أعلن الملك عبد الله عن سلسلة من الإصلاحات السياسية، وأدت التطورات في الشرق الأوسط إلى صرف اهتمام الرأي العام نحو قضايا أخرى.
الأردن واقعة بين فكي أزمة اقتصادية تتطور بشكل بطيء، سببها الارتفاع الكبير في الدين العام، الذي يبلغ الآن 95 بالمائة من الناتج القومي الخام، إلى جانب ضعف النمو الاقتصادي الذي يناهز الآن 2 بالمائة، وارتفاع معدلات البطالة التي تبلغ 18.5 بالمائة، وتصل لدى فئة الشباب إلى أكثر من 30 بالمائة
مع ذلك، كانت قرارات الملك عبد الله، ومن بينها إقالة رئيس الوزراء، وإصلاح الدستور، وتغيير الحكومة في 3 مناسبات خلال 18 شهرا، كلها حلولا سريعة تهدف إلى تهدئة المتظاهرين، وليس تنفيذ إصلاحات جادة ودائمة. وبحلول سنة 2016، أصبحت النخبة السياسية في الأردن واثقة جدا من أنها عبرت بسلام فترة الثورات العربية دون أضرار تذكر، حتى أنها تمكنت من تحوير الدستور لمنح الملك صلاحيات إضافية، ومزيد تدعيم قبضة السلطة التنفيذية على الحكم.
كان هذا الاستقرار الظاهري يخفي مشاكل أعمق، إذ أن الأردن واقعة بين فكي أزمة اقتصادية تتطور بشكل بطيء، سببها الارتفاع الكبير في الدين العام، الذي يبلغ الآن 95 بالمائة من الناتج القومي الخام، إلى جانب ضعف النمو الاقتصادي الذي يناهز الآن 2 بالمائة، وارتفاع معدلات البطالة التي تبلغ 18.5 بالمائة، وتصل لدى فئة الشباب إلى أكثر من 30 بالمائة. كما أن الانخفاض الحاد في الدعم المالي من الدول النفطية، كان يعني أن البلاد لن يكون بمقدورها الاعتماد على المساعدات للسيطرة على حجم ديونها وتمويل عجز الموازنة.
قدمت المملكة السعودية، التي ترأست مبادرة خليجية، للأردن 5 مليار دولار بعد مظاهرات 2011، قررت تجميد مساعداتها للأردن لمدة ثلاث سنوات بداية من 2015. (بعد المظاهرات الأخيرة أعلنت الكويت والسعودية والإمارات عن حزمة مساعدات جديدة للأردن قيمتها 2.5 مليار دولار، أغلبها في شكل ضمانات لدفع ديون البلاد، ولكنها تبقى غير كافية لتعويض المساعدات التي تم تجميدها). وقد تعاملت الحكومات الأردنية المتعاقبة مع هذه التحديات على أنها مشاكل تقنية بحتة. ولكن في الشارع ارتفعت وتيرة المطالبات بما هو أكثر من الحاجة لتغيرات اقتصادية.
في آيار/ مايو 2018، اندلعت احتجاجات في أنحاء الأردن، وخاصة في الأحياء الميسورة في غرب عمان، يقودها المنتمون للطبقة الوسطى (الإسلاميون الذين تصدروا المظاهرات في 2011 و2012 كانوا غائبين هذه المرة بشكل واضح). وإلى جانب الدعوة لسحب قانون الضريبة على الدخل المثير للجدل، طالب المتظاهرون بحل البرلمان وتغيير الحكومة. وكان من الواضح أن الحلول السريعة التي نفذها الملك عبد الله في 2011 و2012 فشلت في معالجة جذور عدم الاستقرار: إنه بدون الموارد اللازمة لمواصلة تمويل نظام شراء الولاءات، ينهار العقد الاجتماعي في الأردن. والحلول المستدامة لمطالب المحتجين سوف تستوجب عقدا اجتماعيا جديدا، وليس إصلاحات رمزية.
كانت الرسالة القادمة من الشوارع العربية قد فشل في التقاطها زعماء المنطقة في 2011، والسبب وراء ذلك يعزى في جزء منه إلى فشل المظاهرات في خلق جهود حقيقية لبناء مؤسسات جديدة (باستثناء تونس)،
كما أن مصر تتواصل معاناتها من الآثار الاقتصادية لثورتها، والانخفاض في المساعدات الضخمة التي كانت تحصل عليها من المملكة السعودية والإمارات. ففي سنة 2016، بعد عامين على انخفاض الدعم الخليجي، قامت مصر بتعويم عملتها واستنجدت بقرض من صندوق النقد الدولي قيمته 12 مليار دولار، للمساعدة على استعادة استقرارها الاقتصادي.
الاستثناء الوحيد اللافت في الأوضاع الحالية في الشرق الأوسط هو تونس. إذ أنه بعد ثورة سنة 2011، ربما لم تنجح تونس في حل مشاكلها السياسية والاقتصادية والأمنية، إلا أن قادتها فهموا الحاجة لعقد اجتماعي جديد. وعلى مدى ثلاث سنوات صعبة، تفاوض أعضاء المجلس التأسيسي المنتخب وتوصلوا في النهاية إلى الاتفاق على دستور جديد، تضمن مبادئ التداول السلمي على السلطة، ومنح النساء حقوقهن الكاملة تقريبا، وأكد على الالتزام بالحقوق الجماعية والفردية لكل مكونات المجتمع التونسي. ولا يمكن في أي حال من الأحوال اعتبار أن تونس تجاوزت المرحلة الصعبة، إلا أنها قطعت خطوات ثابتة نحو مستقبل مليء بالاستقرار والازدهار.
عقد اجتماعي جديد
إذا كانت الرسالة القادمة من الشوارع العربية قد فشل في التقاطها زعماء المنطقة في 2011، والسبب وراء ذلك يعزى في جزء منه إلى فشل المظاهرات في خلق جهود حقيقية لبناء مؤسسات جديدة (باستثناء تونس)، فإن نهاية عهد الاقتصاد الريعي اليوم تمنح الحكومات في الشرق الأوسط فرصة جديدة للاستماع لمطالب الشارع، إذ أن الإصلاحات الاقتصادية يجب أن تترافق مع إصلاحات سياسية، تمنح الشعب صوتا حقيقيا في إدارة شؤون بلاده.
من المؤكد أن الانتقال نحو اقتصاد أكثر فاعلية سيكون أمرا بطيئا ومحفوفا بالصعوبات، وسيواجه العديد من الانتكاسات والعراقيل من القوى التي كانت مستفيدة من الوضع القائم. إذ أن أنظمة ريعية كانت قائمة منذ عقود طويلة، تمكنت من خلق شبكات مصالح راسخة، لا رغبة لها في السماح بإقامة أنظمة جديدة مبنية على الكفاءة، يمكنها أن تسرق منها امتيازاتها المالية.
من أجل خفض نسب البطالة والصعوبات المعيشية، فإن الانتقال للاقتصاد القائم على القطاع الخاص يجب أن يتضمن تغييرات كبيرة في الأنظمة التعليمية والصحية
لذلك، ستكون هنالك حاجة لإرادة سياسية في أعلى هرم السلطة، لتنفيذ إجراءات تدريجية وجادة وتشاركية، تحظى بثقة الرأي العام. هذه الإصلاحات الضرورية سوف ترافقها فترة من الصعوبات المادية. والمواطنون في الشرق الأوسط سوف يقبلون بتقديم تضحيات قصيرة المدى، في سبيل التغييرات طويلة المدى التي هم في أمس الحاجة إليها، ولكن هذا الأمر مشروط بإشراكهم في هذا المسار، الذي يجب أن تشرف عليه قيادة تحظى بثقتهم.
يجب على الحكومات في الشرق الأوسط الشروع في هذا المسار من خلال القيام بالمزيد من الجهود لتمكين المرأة. إذ أن نسبة مشاركة النساء ضمن قوى العمل في المنطقة هي من الأضعف في العالم (32 بالمائة، مقارنة بالمعدل العالمي وهو 58 بالمائة، بحسب تقرير البنك الدولي في 2009). كما يجب على الحكومات تحقيق استفادة أفضل من التكنولوجيا لزيادة الانتاجية، وتركيز جهودها نحو اقتصاد قائم على المعرفة. ويجب عليها أن تسارع بتنويع مصادر دخلها، بعيدا عن التبعية للنفط، وذلك من خلال تدعيم القطاع الخاص وتشجيع الشراكة بين القطاعين الخاص والعام. كما يجب على هذه الحكومات فرض علوية القانون وثقافة المساواة بين كل المواطنين، وهو ما سيساعد على ازدهار روح الابتكار. هذا سيتطلب أيضا وضع حد للتمييز القانوني ضد المرأة والأقليات.
تجدر الإشارة إلى أن الحكومات في المنطقة لا يمكن أن تواصل لعب دور المشغّل الأول لليد العاملة في دول الشرق الأوسط. إذ أن وضع الأطر القانونية والتشريعات المالية اللازمة لتنشيط القطاع الخاص، وخاصة المؤسسات الصغرى والمتوسطة، سوف يساعد على نمو الشركات وتعويضها لوظائف القطاع العام. بالطبع فإن القول أسهل من الفعل، إذ أن النظم التعليمية، والخدمات الصحية الضعيفة، تركت أجزاء كبيرة من الشعوب في أغلب دول الشرق الأوسط غير مؤهل للعمل في القطاع الخاص.
من أجل خفض نسب البطالة والصعوبات المعيشية، فإن الانتقال للاقتصاد القائم على القطاع الخاص يجب أن يتضمن تغييرات كبيرة في الأنظمة التعليمية والصحية. وبشكل خاص، فإن المدارس والجامعات يجب أن تنتقل من التلقين التقليدي للحقائق المطلقة، نحو تشجيع الفكر النقدي والابتكار وقبول وجهات النظر المتباينة. وحتى لو شرعت الحكومات في هذه الإجراءات الآن، فإن هذه التغييرات سوف تحتاج لجيل أو جيلين لتحقق التأثيرات المرجوة. ولكن لابد أن انتفاضات سنة 2011، علمت قادة دول الشرق الأوسط أنهم لا يمتلكون وقتا كثيرا، ويجب عليهم أن يتخذوا إجراءات اقتصادية مؤلمة الآن، لتجنب مزيد تفاقم المعاناة في المستقبل.
سواء كان هؤلاء القادة مقتنعين بهذا الأمر أم لا، فإن موافقة الشعب ستكون عاملا حاسما في نجاح الانتقال من الاقتصادات الريعية نحو الأنظمة الإنتاجية. سيكون على المواطنين والقادة الاتفاق على عقد اجتماعي جديد. وهذه المرة، عوضا عن قيام الحكومات بفرض عقود بشكل فوقي، فإن المجتمعات المتنوعة عرقيا وثقافيا ودينيا في دول الشرق الأوسط، يجب السماح لها بالتحاور حول هذه العقود من القاعدة نحو القمة.
وضع هذا العقد الاجتماعي الجديد سيتطلب قادة من ذوي الرؤية المستقبلية، والذين لديهم النية للوقوف في وجه نخب بلدانهم، والذين يفهمون أن أفضل طريقة للحفاظ على السلطة هي تقاسمها مع الآخرين، والذين يمكنهم إقناع الشعب بأنهم قادرون على قيادته نحو مستقبل أفضل. للأسف لا يوجد قادة كثيرون من هذه الطينة اليوم (وجودهم نادر في كل مكان وليس فقط في الشرق الأوسط)، إلا أن الحكومات في الشرق الأوسط ليس لديها خيار آخر، وإذا واصلت تجاهل الحاجة للتغيير، فأن الخراب القادم سوف يحقق التغيير بنفسه.
المصدر: فورين أفيرز