كثيرًا ما برز اسم الإمارات العربية المتحدة على لائحة المتهمين في الوقوف خلف مسلسل الاغتيالات التي هيمنت على المشهد في عدن اليمنية، لكن الجديد هذه المرة هو كشف النقاب عن مرتزقة أمريكيين وفرنسيين استأجرتهم الإمارات بعقود رسمية، لتصفية من تعتبرهم أبو ظبي خصومًا سياسيين أو أيديولوجيين في اليمن.
على مدى 3 سنوات، وهي المدة التي سيطرت فيها الإمارات على عدن، شهدت المدينة حملة اغتيالات طالت أئمة مساجد وناشطين وتربويين وشخصيات حزبية، تم تصفيتهم في ظروف غامضة وفترات زمنية متقاربة، وهو ما كان يثير التساؤلات والشكوك عن هوية الفاعل الذي يقتل ضحاياه بدمٍ بارد في وضح النهار، وهو واثقٌ من الإفلات من جريمةٍ كل بصماتها تشير إلى من يملك السلطة في المدينة ويتحكم بأجهزتها الأمنية، وليس في المدينة من سلطة سوى سلطة الإمارات ووكلائها المحليين الذين يمثلهم الكيان الشطري المعروف بـ”المجلس الانتقالي الجنوبي” وقوات “الحزام الأمني” التابعة له التي تشرف عليها الإمارات.
التقرير كشف عن مقاتلين سابقين في قوات النخبة للعمليات الخاصة الأمريكية، لديهم سنوات من التدريب المتخصص من الجيش الأمريكي، ويعملون الآن لحساب شركة أمريكية خاصة استأجرتها الإمارات العربية المتحدة
وكان من الطبيعي أن تتضرر سمعة الإمارات، بعد أن تكشّفت فظائع انتهاكاتها في اليمن بدءًا من السجون السرية وأساليب التعذيب الوحشي، وقمع المعارضين واغتيال الناشطين والدعاة، مرورًا بنهب الآثار اليمنية ورعاية الفوضى وصناعة الانقسام، ووصولاً إلى التعاون مع عناصر القاعدة وداعش في اليمن ومداراتهم بالمال، وفقًا لما كشفته وسائل إعلام دولية على قدر كبير من الثقة، وما زال الباب مفتوحًا على مزيد من العبث.
الإمارات جلبت مرتزقة أجانب لقتل شخصيات يمنية
الحديث عن استعانة الإمارات بالمرتزقة الدوليين ليس جديدًا، فقد استعانت بادئ الأمر بمرتزقة من شركة “بلاك ووتر” سيئة السمعة، كما استعانت بمرتزقة أفارقة للقتال نيابة عن قواتها أو إلى جانبهم في عدة جبهات، كجبهة “المخا” مثلًا، لكن ما كان صادمًا لكثير من اليمنيين والمهتمين بالشأن اليمني، هو ما ورد في التقرير الاستقصائي الذي أعده موقع “بازفيد نيوز” الأمريكي المهتم بالتحقيقات وصحافة التقصي، لمراسله أرام روستون، يكشف فيه تفاصيل تعاقد الإمارات مع شركة أمريكية يملكها إسرائيلي من أجل القيام باغتيالات لشخصيات يمنية لا تتناسب مع مزاج أبو ظبي ومخططها لتفتيت اليمن.
التقرير كشف عن مقاتلين سابقين في قوات النخبة للعمليات الخاصة الأمريكية، لديهم سنوات من التدريب المتخصص من الجيش الأمريكي، ويعملون الآن لحساب شركة أمريكية خاصة استأجرتها الإمارات العربية المتحدة، التي وصفها كاتب التقرير بالمملكة الصحراوية الصغيرة على “الخليج الفارسي”، لتنفيذ اغتيالات في مدينة عدن اليمنية، تستهدف رجال دين بارزين وشخصيات سياسية إسلامية.
لا فتًا إلى أن الإمارات تعتبر حزب “الإصلاح” المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين، جماعة إرهابية، ليس لأنه يهدد دولة الإمارات بالعنف، لكن لأنه يقف ضد طموحاتها في اليمن.
وبحسب التقرير فإن بداية مهمة فريق الاغتيالات بدأت ليلة 29 من ديسمبر/كانون الأول 2015 وكان من المقرر أن يبدأ الفريق مهمته بتصفية أنصاف علي مايو رئيس فرع حزب التجمع اليمني للإصلاح، وأحد أعضاء الكتلة النيابية للحزب بمجلس النواب اليمني، وكان الهدف زرع قنبلة على باب مقر “الإصلاح” وسط المدينة، وكان الغرض حينها قتل كل من سيكونون فيه، إلا أن الخطة فشلت في تصفيه مايو الذي نجا من الهجوم.
ووفقًا للكاتب، كان هذا التفجير أول هجوم في سلسلة من الاغتيالات نجحت في تصفية أكثر من 24 من قادة وأعضاء حزب الإصلاح، قام بها فريق الشركة، واسمها “سبير أوبريشن غروب” ومسجلة في ولاية ديلاوار، ويديرها الهنغاري الإسرائيلي أبراهام غولان الذي يعمل في التعهدات الأمنية ويعيش خارج بيتسبرغ، وهو نفسه من قاد الهجوم ضد مايو، حيث كشف للموقع أنه كان يدير شخصيًا برنامج الاغتيالات في اليمن الذي وافقت عليه الإمارات ضمن التحالف، بيد أنه رفض ذكر أسماء بقية أعضاء الفريق الذين طالهم البرنامج.
محمد دحلان.. حلقة الوصل
اللافت في التقرير الذي نشره موقع “بازفيد” هو ظهور اسم محمد دحلان المسؤول السابق في السلطة الفلسطينية والمستشار الأمني لولي عهد أبو ظبي وعراب الصفقات السرية بين أبو ظبي وتل أبيب، فبحسب “بازفيد” كان دحلان المضيف الذي استقبل أبراهام غولان الذي وصل إلى أبو ظبي برفقه المدير التنفيذي لشركته ويدعى إسحاق غليمور، وهو أحد الجنود السابقين في البحرية الأمريكية، وهناك تم الترتيب لصفقة جلب المرتزقة الأمريكيين إلى عدن، في أثناء وجبة غداء في مطعمٍ إيطالي بنادي الضباط الإماراتيين بقاعدة عسكرية إماراتية.
دحلان يتوسط أبراهام غولان وإسحاق غليمور في أبو ظبي
أما عن العقد الذي أبرم بين الإمارات والشركة الأمريكية الخاصة، فيقضي بحصول الشركة على 1.5 مليون دولار شهريًا، إلى جانب تزويد الإمارات لفريق الاغتيالات بكل أنواع العتاد اللازم، كما وزعت الإمارات على فريق غولان بطاقات تحتوي على قائمة بأسماء المستهدفين وصورهم، ومعلومات عن كل شخص، بما في ذلك العنوان والسيارة التي يستخدمها، ودوره في السياسة اليمنية، وكل ما يسهل الوصول إليه.
موقف أمريكي متواطئ
وبطبيعة الحال فإنه من غير الممكن أن تقوم الإمارات بصفقة كهذه دون علم من الولايات المتحدة التي لا بد أنها تمت بإيماءة رضا وضوء أخضر من واشنطن الحليف الإستراتيجي الأول لأبناء زايد، وهو ما أشار إليه الكاتب نقلاً عن خبراء قولهم: إن الإمارات العربية المتحدة لم تكن لتقوم بهذه العمليات دون علم من الولايات المتحدة، خاصة أن معظم الذين يعملون مرتزقة هم من القوات الخاصة، وكان أحدهم يعمل في الـ”سي آي إيه”، فيما كان آخر يعمل في الحرس الوطني في ميريلاند، وكان هناك ثالث يعمل في الاحتياط في نيفي سيل، وهي الوحدة التي قتلت أسامة بن لادن.
مبينًا كذلك، أن مجموعة “سبير” للعمليات التي قامت بالاغتيالات للمسؤولين اليمنيين هي بمثابة تداخل في ثلاثة تطورات، وهي تحول الحرب على الإرهاب من العمليات العسكرية التقليدية إلى قتل أفراد، وتحول الحروب إلى عمليات خصخصة بدرجة كبيرة.
ولعل من الجيد الإشارة إلى أن السنوات الماضية من حرب اليمن، أظهرت تداخلاً كبيرًا بين المصالح الإماراتية والأمريكية، حيث تدعي أبو ظبي أنها شريك مهم للولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب، فقد شاركت قوات إماراتية ضمن الهجوم الأمريكي على عناصر يشتبه بانتمائهم لتنظيم القاعدة بمحافظة البيضاء اليمنية، في الأيام الأولى لتولي ترامب مهامه الرئاسية في البيت الأبيض، وشملت إنزالاً لقوات المارينز، تكلل بالفشل بعد مقتل جندي أمريكي وإسقاط مروحية عسكرية، إضافة إلى عشرات الضحايا المدنيين بينهم نساء وأطفال.
من الواضح أن أعمال القتل التي نفذتها مجموعة “سبير” تتعارض مع القانون الأمريكي فيما يتعلق بعمل الشركات الأمنية الأمريكية في البلدان الأجنبية، وهو ما يستدعي من السلطات الامريكية معاقبة الشركة على مشاركتها في قتل يمنيين عُزَّل
علمًا أن الإمارات لها معاييرها الخاصة في تصنيف من هو إرهابي ومن هو معتدل، لكن المفارقة أن الإمارات التي تدعي محاربة الإرهاب في اليمن، تتعاون في الوقت نفسه مع عناصر القاعدة وداعش، وتدفع لهم أموالاً مقابل إخلاء وجودهم من بعض المدن، كما حدث في مدينتي المكلا وأبين، ناهيك عن دعمها السخي والمباشر لزعامات سلفية معروفة بقربها من القاعدة مثل جماعة أبو العباس وجماعة هاني بن بريك، وكل ذلك يتم بعلم واشنطن، وفقا لما كشفه تقرير سابق لوكالة “أسوشيتد برس” الأمريكية.
هل ستتغاضى واشنطن عن القتلة؟
من الواضح أن أعمال القتل التي نفذتها مجموعة “سبير” تتعارض مع القانون الأمريكي فيما يتعلق بعمل الشركات الأمنية الأمريكية في البلدان الأجنبية، وهو ما يستدعي من السلطات الامريكية معاقبة الشركة على مشاركتها في قتل يمنيين عُزَّل، كل ذنبهم أن دولة الإمارات غير راضية عن توجهاتهم ومواقفهم، ما يقتضي من الولايات المتحدة التحقيق في القضية ومعاقبة الجناة، وذلك ما طالبت به السيناتور الديمقراطية إليزابيث وارين في رسالة بعثت بها إلى المدعي العام جيف سيسيز يوم الإثنين الفائت بإجراء تحقيق عن عمل أعضاء سابقين في الجيش الأمريكي كمرتزقة لدى الإمارات العربية المتحدة لتنفيذ اغتيالات في اليمن.
مشيرة إلى أنه من غير القانوني لشخص على أرض الولايات المتحدة أن يتآمر لقتل أو خطف او تشويه شخص في الخارج، وإذا قام أي شخص بذلك، يُجرَّم تحت بند مؤامرة القتل، وفقًا للقانون الأمريكي الخاص بمكافحة الإرهاب لعام 1996، وقالت: “إذا كانت التقارير بشأن جرائم ارتكبها مرتزقة أمريكيون فإن هذا يثير تساؤلات عن المسؤولية الجنائية للمشاركين، ولأي مسؤول أمريكي حكومي قد يكون على علم أو يؤيد هذه الأنشطة”، كما طالبت وارين في رسالة أخرى بعثتها إلى وزير الخارجية مايك بومبيو، تطلب فيها معلومات عما إذا كان أي مسؤول في وزارة الخارجية على علم بالمشاركة المباشرة للأمريكيين في الاغتيالات.
الأمر نفسه حدث من بعض وسائل الإعلام الامريكية، مثل موقع “جست سيكيورتي” الذي دعا قسم العدالة والتحقيقات الجنائية بوزارة العدل الأمريكية إلى التحقيق بشأن قتل مدنيين في اليمن بناء على طلب من الإمارات العربية المتحدة، بيد أنه لم يصدر أي تجاوب من الجانب الرسمي الأمريكي حتى الآن.
المثير للاستغراب هو صمت الحكومة الشرعية والرئيس هادي تجاه الحقائق التي أصبحت جلية بشأن قضية الاغتيالات التي ظلت لمدة 3 سنوات حبيسة الغرف المغلقة
بالنسبة للإمارات لم يصدر عنها أي تعليق رسمي أو غير رسمي تجاه ما ورد في تقرير “بازفيد” الذي كشف جانبًا كبيرًا من الغموض الذي اكتنف ملف الاغتيالات في عدن، ووثق الكثير من الشواهد التي تدينها في ارتكاب حملة تصفيات، يمكن اعتبارها نوعًا من جرائم الحرب في نظر القانون الدولي.
الحكومة اليمنية تلوذ بالصمت
المثير للاستغراب هو صمت الحكومة الشرعية والرئيس هادي تجاه الحقائق التي أصبحت جلية بشأن قضية الاغتيالات التي ظلت لمدة 3 سنوات حبيسة الغرف المغلقة، وباعتراف القتلة أنفسهم، ما يُحتّم على القيادة الشرعية – بما أتيح لها من الأدلة – تشكيل فريق للتحقيق في القضية، واتخاذ موقف حازم ضد الممارسات الإرهابية لدولة الإمارات التي استغلت وجودها في اليمن واستباحت دم أبنائه بلا نكير.
بدلاً من ذلك، فضَّل الرئيس هادي ومسؤولو الشرعية الصمت وتجاهل القضية كأن ما حدث كان في قارة أخرى، في تنصلٍ غير متوقع من مسؤوليتها كسلطة ممثلة لليمنيين عليها اتخاذ موقف من باب واجبها تجاه اليمنيين وأسر الضحايا الذين اغتالتهم الإمارات.
التفسير الوحيد لهذا الوهن الذي اتسمت به الشرعية، أن الرئيس هادي الذي عزل قبل حين رئيس حكومته أحمد بن دغر ليشتري رضا الإمارات، لا يريد الآن مزيدًا من التوتر في علاقته معها، نتيجة لحالة الجزع التي تسيطر على الشرعية من خروج الوضع في جنوب اليمن عن السيطرة، خصوصًا في ظل تنامي نفوذ وكلاء الإمارات وجنوحهم للتمرد على الدولة اليمنية، وذلك ربما ما يقلق هادي وحكومته في الوقت الراهن، لذا فهو لا يريد تأزيم علاقته مع الإمارات ولو على حساب المساومة بدماء اليمنيين وسيادة الدولة.
الأكثر غرابة من ذلك، هو صمت حزب الإصلاح اليمني الذي لم يصدر عنه حتى الآن أي ردة فعل أو موقف يدين ما قامت به الإمارات بحق قياداته وكوادره الذين تعرضوا لحملة تصفية على مدى 3 سنوات على يد مرتزقة الإمارات الدوليين، الأمر الذي يثير الصدمة من الحالة الهشة التي وصل إليها الحزب الذي يعد أعضاؤه المكون الأكبر للقوات الحكومية التي تقاتل الحوثيين إلى جانب التحالف، جعلته يتقبل الطعنات في الظهر دون أن يحرك ساكنًا.