من مشهد شروق الشمس في صباحٍ باكر، إلى لوحةٍ فنية بديعة أو باقةٍ من الزهور أو سيارة رياضية مثيرة أو امرأة رائعة أو وجه طفلٍ بريء ، نكاد جميعنا نتفق على أنّ جميع الأشياء الجميلة من حولنا تجلب الابتسامة إلى وجوهنا وتمدّنا بعددٍ من المشاعر الإيجابية. لكن بالنهاية، يبدو أنّ الجَمال وكأنه شيء يمكن العثور عليه في الكثير من الأماكن كالحدائق والمتاحف والمعارض والمدن القديمة وغيرها، تمامًا كما يبدو أنّ استجاباتنا له قد تكون مختلفة، فليس من الضروري أنْ يتشارك اثنان في نظرتهما للشيء ذاته، ومن هنا قالوا قديمًا أنّ الجَمال في عين الرائي أو الناظِر.
وعلى أنّ مصطلح “جَمال” يحمل غموضًا كبيرًا وكثيرًا من المراوغة بحيث يصعب الإتيان بتعريفٍ واحد له، إلا أنه مما لا شكّ فيه أنّنا بدأنا بالشعور به منذ ملايين السنين، حتى أنّ الإنسان الأول كان يخصّص بعضًا من وقته أثناء تحضيره وصناعته لأدواته الأولى كي يُخرج منها أدواتٍ متماثلة في الشكل والحجم. ومع تطوّر الإنسان وصنعه للحضارات، بقيَ التناسق والتماثل جزءًا أساسيًا ومركزيًا من الفنون والعَمارة منذ الحضارات القديمة وحتى يومنا هذا، فيما يشبه نمطًا معيّنًا حافظنا عليه منذ بداياتنا على هذه الأرض.
حاول العلماء كثيرًا للوصول إلى تفسيرٍ محدّد لهذا دون جدوى. وعلى أنّ الجواب يبدو واضحًا: كان ذلك يمنحهم المتعة والسرور. لكن هل فعليًا أنّ كلّ ما في الأمر أنّ الإنسان الأول قد راق له التناسق والتماثل في الأشياء من حوله أكثر من العشوائية وعدم التماثل؟ ما السبب وراء ذلك؟ وما هي الفائدة التي تمنحها القدرة على التمتّع بالجَمال للكائن البشري؟
الجَمال نتيجة التطوّر: وسيلةً للبقاء والاستمرار
لو تتّبعنا الأمر منذ البداية، لوجدنا أنّ الأنماط المتماثلة موجودة في كلّ شيءٍ حولنا في الطبيعة، في الغيوم والأشجار والزهور والنباتات والحيوانات والتضاريس، وما إلى ذلك. من هذه النقطة، انطلق تشارلز داروين ومن بعده الكثير من علماء النفس التطوري، إلى نقطةٍ مهمّة استطاعت أنْ تحلّ لغز اهتمامنا بالجَمال والأشياء الجميلة من حولنا.
ساعد التماثل والتناسق أسلافنا على التعامل مع الطبيعة من حولهم بشكلٍ أسهل وقدرةٍ أعلى على تخمين وتوقّع ما يمكّنهم من النجاة والبقاء من جهة، أو ما يشكّل خطرًا على وجودهم وبقائهم من جهةٍ ثانية
تخبرنا النظرية أنّ الإنسان الأول قد كوّن علاقته العاطفية والشاعرية مع الكثير من الأشياء الجميلة من حوله في محاولاته للبقاء والاستمرار. فرؤية غزالٍ بقرونه المثيرة للإعجاب قد تكون إشارة لكونه مصدرًا جيّدًا للغذاء واللحوم. ورؤية فطرٍ في الغابة قد تكون إشارةً لعدم صلاحيّته للأكل. في حين أنّ رؤية أنثى بوجهٍ متماثل ومتناسق قد تكون إشارةً إلى الصحة التي تتمتع بها وبالتالي إلى قدرتها على أنْ تكون شريكًا محتملًا يصلح للتكاثر ونقل الجينات إلى الأجيال اللاحقة. وهكذا تنطبق النظرية على الكثير من الأشياء في الطبيعة؛ فقد ساعد التماثل والتناسق أسلافنا على التعامل مع الطبيعة من حولهم بشكلٍ أسهل وقدرةٍ أعلى على تخمين وتوقّع ما يمكّنهم من النجاة والبقاء من جهة، أو ما يشكّل خطرًا على وجودهم وبقائهم من جهةٍ ثانية.
الفيلسوف الأمريكي “دينيس دوتون” يتحدث عن العلاقة بين الجَمال والتطوّر البشري
وبكلماتٍ أخرى، فالجَمال فعليًا هو نتيجة تكيّفنا مع الطبيعة لنكون أكثر قدرةٍ على البقاء والاستمرار. فالأشياء التي ساعدتنا على البقاء عملت على تحفيز “نظام المكافأة” في الدماغ، أيْ أنها تعمل على إثارة شعورٍ إيجابيّ بهدف تعلّم تكرارها والحفاظ على وجودها. وبالتالي، فإحساسنا بالجَمال تطوّر من تمييزنا للأنماط المتناسقة التي ساعدتنا على النجاة والبقاء. لكنّ الأمر الآن ليس كما كان عليه قبل آلاف السنين، فكيف أصبحت علاقتنا بالجَمال الآن؟ ولماذا تُسعدنا الأشياء الجميلة؟
الاقتصاد والتطوّر: تفسيران ممكنان
يستند التفسير الأكثر شيوعًا للارتباط بين السعادة والجمال على كلٍ من الاقتصاد والتطور. إذ توصلت إحدى الدراسات عن وجود علاقة كبيرة بين كون المرء جميلًا وكونه سعيدًا في ذات الآن. تقول الدراسة أنه كلما كنت أكثر جاذبية، زادت الفرص المتاحة أمامك في الحياة، الأمر الذي سيجعلك أكثر سعادةً وقدرةً على إشباع حاجاتك ورغباتك. دراسة أخرى أجراها عدد من الباحثين في كلية الاقتصاد في جامعة ييل، توصلت إلى أنّ الجَمال يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمستويات السعادة والرضا عند الفرد، التي ترتبط بدورها بالوضع الاقتصادي له. ويستند التفسير إلى أنّ الأشخاص الأكثر جمالًا يميلون إلى كسب المزيد من المال نظرًا لتوفّر العديد من الفرص أمامهم، سواء في العمل أو الزواج، على عكس غيرهم.
توصلت دراسة إلى أنّك كلما كنت أكثر جاذبية، زادت الفرص المتاحة أمامك في الحياة، الأمر الذي سيجعلك أكثر سعادةً وقدرةً على إشباع حاجاتك ورغباتك
أمّا تطوريًا، فيرجع السبب إلى أنّ الجَمال ارتبط لدينا بالصحة والسلامة، اللذين بدورهما يحفّزان الدماغ على تكوين المشاعر الإيجابية كالسعادة والرضا والراحة النفسية وغيرها، وهذا بدوره يعني قدرات إنجابية قوية وقدرة أقوى على البقاء والاستمرار، ما يعني أيضًا فرصةً أكبر لجذب شركاء أكثر نجاحًا وصحةً وجَمالًا.
وعلى نحوٍ لا يمكن إنكاره، فإنّ تأثير الجَمال في البشر لا يقتصر فقط على الافتتان الجنسيّ كما تنصّ نظرية التطور. فعندما أصبحت العقول البشرية أكثر تطورًا خلال المليون سنة الماضية، أصبحنا قادرين على تخزين تفاصيل واسعة مثل الذكريات والحالات العاطفية المرتبطة بأشياء معينة، وبالتالي كانت اللوحات المنحوتة في الكهوف هي أقدم الآثار التي يتفق عليها علماء الأنثروبولوجيا ومؤرخو الفن على أنها أقدم الفنون الجَميلة التي عرفها البشر، وهي نتاج قدرتنا على التمثيل البصريّ لما حولنا إضافة لتطوّر ذكرياتنا لحفظ ذلك التمثيل.
الجَمال طريقٌ للسعادة والراحة النفسية
خلال العقود الأخيرة، توصّلت الكثير من الدراسات إلى أنّ إحاطة أنفسنا بالأشياء الجميلة يؤدي إلى رفع مستويات الصحة النفسية والسلوكية للأفراد. وهذا ما أثبتته دراسة بحثت في العلاقة بين مستويات السعادة عند الأفراد وبين مستوى الجمال في المدينة التي يقطنونها، توصل الباحثون فعليًا إلى أنّه يمكن تحقيق مستويات أعلى من السعادة بسهولة فقط من خلال العيش في مدينة جميلة، دراسات أخرى توصلت إلى قدرة المدن الجميلة على الحدّ من معدّلات الجريمة. ومن جهة أخرى، توصلت دراسة أخرى إلى أنّ قدرة المرضى على الشفاء تكون أكبر وأسرع في حال كانوا في مشفىً أكثر جمالًا، كما أنّ حاجتهم لمسكّنات الآلام تكون أقل.
وفي محاولة لقياس العلاقة اليومية بين السعادة والجَمال، قام “جورج ماكرون” المحاضِر في جامعة ساسكس، بتصميم تطبيق على جهاز آيفون يسمّى “Mappiness“، يقوم بطرح عدد من الأسئلة مرتين يوميًا على مستخدميه الذين بلغ عددهم 20 ألف مشترك مثل: ما مدى شعورك بالسعادة؟ ما مدى يقظتك؟ ما مدى استرخاؤك؟ ثمّ يطرح أسئلةً أخرى من قبيل: أين أنت؟ ماذا تفعل الآن؟ وهكذا.
جورج ماكرون يتحدّث عن تطبيقه الذي يدرس العلاقة بين الجَمال والسعادة
تقدّم هذه الإجابات، التي تستغرق 20 ثانية فقط، الكثير من المعلومات عن السعادة، لو علمنا أنّ الأوقات التي سجّل فيها مستخدمي التطبيق مستوياتٍ أعلى من السعادة والرضا كانت خلال لحظاتهم الجنسية الحميمية أولًا، ثم لحظات أدائهم لتمارينهم الرياضية نظرًا لتدفّق الإندورفين، ثمّ اللحظات المرتبطة بالأفعال والنشاطات المرتبطة مباشرةً بالجَمال، كأن يكون الشخص في المسرح أو الباليه أو يشاهد حفلةً موسيقية أو يزور معرضًا فنّيًا أو قيامه بنشاطٍ فنّي بنفسه مثل الرسم والكتابة والخياطة والنسيج والعزف. هذا إذا اعتبرنا أيضًا أنّ اللحظات الجنسية نفسها نابعة أيضًا من شعورنا بالجَمال حيال الشريك.
بالنهاية، يبدو أنّ تقديرنا للجَمال، نابعٌ أيضًا من قدرتنا على استحضار المشاعر الإيجابية التي نميل إلى ربطها بالسعادة والراحة النفسية؛ مثل اتصال الجَمال بالله والقدرة على الخلق، أو اتصاله بتاريخ البشر العريق، أو الثورة والاقتصاد، أو حتى اتصاله بالأمل في أنّ الحياة ستكون أفضل طالما أنها تحتوي على هذا الكمّ من الجَمال الذي نشعر به ونستشعره كما يفترض الفيلسوف “ألكسندر نيهاماس”.