بإعلان أو باعتراف وكالة الأنباء السعودية وفاة خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول، نتيجة لشجار حدث بينه وبين الفريق الأمني الذي جاء “ليفاوضه على العودة”، تزاحم رجال الدين وعلى رأسهم عبد الرحمن السديسي وصالح المغامسي، للدفاع عن هذه الرواية، داعين العامة لقبول تقدير ولي الأمر “الملهم” للأمر.
بالمعنى البسيط لخطاب بعض دعاة الدين ودفاعهم المستميت عن أفعال ولي الأمر، يلامس توجههم نحو تبرير بل وشرعنة ما يقوم به ولي الأمر، انطلاقًا من مصطلح يشار إليه باسم “الأخلاقية السياسية”، ما آثار تساؤلًا بين المتابعين مفاده: ما معنى الأخلاقية السياسية؟ وانطلاقًا منها ما موقع الأخلاق والسياسة في قضية خاشقجي؟
بعض الدول العربية، إلى الآن، ما زالت غير قادرة على الوصول إلى نقطة تأسيس دولة بالمعنى السياسي المفروض الذي يدور في فلك السياسة القائمة على الحلول التوافقية لصالح الشعب
يجيب عن هذا التساؤل الشائع الباحث في العلوم السياسية إمام عبد الفتاح إمام، في الصفحة 88 من كتابه المعنون باسم “الأخلاق والسياسة”، مشيرًا إلى أن الأخلاقية السياسية تعني ربط سلوك الحاكم بمنطلقات أو معايير أخلاقية تجعل معارضة الرأي السياسي للحاكم أو ولي الأمر “عيبًا” أو “رذيلةً” لا بد من التخلص منها، وبهذه الأخلاقية التي تنطلق في الحالة السعودية، من طروحات دينية، يبيح علماء الدين للحكام، ويبيح الحكام لذاتهم، فعل كل شائنة ضد المعارضين الذين خرجوا، ولو فكريًا، ضدهم، فأخلاقيتهم البعيدة عن القواعد السياسية لا تحتمل تعدد الآراء التي تنقسم إلى مؤيد ومعارض.
وعلى العكس من القواعد السياسية، تنبع القواعد والقوانين الأخلاقية من وجودها المستقر في شعور الأفراد وضمير الجماعة اللذين يتشبعان في مجتمعاتنا العربية بعادات وتقاليد استقرت في نفوس المواطنين بفعل تأويلات لا محل لها في حقيقة وجوهر الدين الإسلامي أو في حقيقة وجوهر التاريخ العربي الناصع الذي حرم، في يومٍ من الأيام، دخول بيت الغريم عنوةً، كي لا يقال إن “العرب تروع النساء”، فبينما حرم عرب الجاهلية اقتحام بيت الغريم عنوةً، تقلل القواعد الأخلاقية المؤولة من علماء السلطان، من هول قتل إنسان دخل قنصلية بلاده، بعد أن تمت دعوته من قبلها لزيارتها بعد 4 أيام.
بعيدًا عن وقع المخالفة الصارخة لقواعد القانون الدولي، يتساءل عدد لا بأس به من المواطنين العرب عن أسباب موت الشهامة العربية التي كانت تكرم الضيف أو الملهوف ولو كان حقيرًا، وعن أسباب التخلص من هذه الخصال، وارتداء ثوب التفنن في قتل المحتاج لدخول القنصلية لدقائق، بهدف الحصول على ورقة يكمل بها معاملة زواجه!
وفي الحقيقة، بمعايير الأخلاقية القديمة التي تعود إلى العصور الوسطى، يظهر أن بعض الدول العربية، إلى الآن، ما زالت غير قادرة على الوصول إلى نقطة تأسيس دولة بالمعنى السياسي المفروض الذي يدور في فلك السياسة القائمة على الحلول التوافقية لصالح الشعب، بعيدًا عن الإكراه أو التهديد أو العنف.
استمرار حكم الحزب أو الحاكم الواحد في الدول العربية، ما زال ينبع، بصورةٍ أساسيةٍ، من “أفيون الشعوب”؛ أي قواعد الدين المؤولة في غير محلها
لقد وصل العالم إلى القمر، وعدد لا بأس به من الدول العربية ما زال يصور السياسة على أنها ممارسة الإجبار بالقوة على إجراء فئة نخبوية مركزية “حزبية أو عائلية” عملية اتخاذ القرار المفروض على الجماعة، غير أن المدلول المفاهيمي للسياسة يشير إلى أن السياسة عبارة عن أداة تقوم على النشاط التفاعلي بين الحاكم والناس، لاستيعاب الآراء المتضاربة والمصالح المتنافسة في إطار التفنن في التقاط مسار التقاء المصالح المشتركة التي تجمع الأغلبية من الناس.
وفي السياسة، يكون دور الحكومة قائمًا على التوفيق بين مصالح المجموعات المختلفة إما بالأسلوب التفاوضي أو بأسلوب الإكراه الشرعي الذي يقوم على فرض قوانين ترعى المصلحة العامة التي يعاقب من يتجاوزها بقوانين سياسية تصدر بتوافق ركائز السلطة التشريعية، بعيدًا عن توجهات الحزب أو الحاكم الواحد.
إن استمرار حكم الحزب أو الحاكم الواحد في الدول العربية، ما زال ينبع، بصورةٍ أساسيةٍ، من “أفيون الشعوب” أي قواعد الدين المؤولة في غير محلها، الذي يخدر أو يلهي بها علماء السلطان ووسائل إعلامه الرعية، بل والسلطان الذي يصبح يؤمن أن كل ما يقوم به فعلًا يخدم التوجه الديني أو الوطني.
وبطبيعة الحال، لا يمكن نفي دور القمع القاسي وأساليب الإلهاء المتنوعة والحفاظ على العادات والتقاليد “الأبوية العشائرية” غير القابلة بتعددية صانعي القرار والتحرر والديمقراطية والمستقر في ضميرها أخلاق نظام الحكم المشوهة وتغييب منظمات المجتمع المدني ومحباة الغرب عبر الاتفاقيات المليارية، وغيرها الكثير من الأدوات في استمرار حكم الشخص الواحد الذي يرى التخلص من معارضيه أو ما يسمون بالفقه السلطاني “منازعيه” الحكم الشرعي.
في بعض مراحل التاريخ الغابرة، كان يوصف الحاكم في الدول الأوروبية المحكومة بالتوجه الكنسي على أنه “ممثل الله”، واليوم يشار إلى الحاكم على أنه “قدر” الناس، وبما أن الناس تؤمن بالقدر خيره وشره، لا يجوز الخروج على هذا القدر، فالخروج عليه مخالفة لشرع الله والعياذ بالله.
تنطلق قواعد الحكم في المملكة العربية السعودية من منطلقات أخلاقية سياسية دينية متضاربة من منطلقات القواعد السياسية العصرية
لا أتقصد في المقال “التهكم” على قواعد شرع الله والعياذ بالله، بل غايتي الكشف عن طبيعة الأنظمة الفاعلة في المنطقة، وليس السعودية فقط، تحت شعارات دينية أو وطنية أو اجتماعية تم تأويلها في غير مكانها، فالشورى جوهر الدين الإسلامي الحنيف والخروج على رأي الحاكم على نحو انتقادي بناء، وليس “فتنوي”، لا يجيز قتل المعارض.
في الختام، تنطلق قواعد الحكم في المملكة العربية السعودية من منطلقات أخلاقية سياسية دينية متضاربة من منطلقات القواعد السياسية العصرية، لذلك اغتيال خاشقجي، مهما كانت الصورة، كان مباحًا لمنازعته الحاكم صورته البيضاء أمام الغرب ولو كانت قواعد الحكم سياسية، ولو على نحوٍ نسبي، لوضع اعتبار لقواعد القانون الدولي التي تقضي بضرورة عدم استغلال التمثيليات الدبلوماسية لأي هدف غير هدف خدمة المواطن، لكن قواعد القانون الدولي بالنسبة لأصحاب هذه المنطلقات، “بدعة” ليس بالضرورة الالتزام بها.