ترجمة وتحرير: نون بوست
أحدث شهر شباط/فبراير من سنة 1945 فارقا ملحوظا في تاريخ العالم. في ذلك الوقت، أقام كل من الدكتاتور السوفيتي، جوزيف ستالين، والرئيس الأمريكي، فرانكلين ديلانو روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني، ونستون تشرشل، ما يعرف بمؤتمر يالطا الذي عُقد بين 4 و11 من شباط/ فيفري في مدينة يالطا الواقعة في شبه جزيرة القرم. في الأثناء، ناقش هؤلاء القادة كيفية تقسيم العالم بعد الحرب العالمية الثانية في وقت كانت ألمانيا النازية وإمبراطورية اليابان على وشك الاستسلام. وقد حددت القرارات التي أسفر عنها هذا المؤتمر ملامح النظام العالمي حتى انهيار الشيوعية في أوروبا الشرقية في سنة 1989.
بعد مرور 29 سنة، يبدو أن مؤتمر يالطا أو ما يسمى باتفاقية يالطا، لم يعد ذا أهمية تذكر على مستوى السياسة العالمية. وقد مثل اتفاق كوينسي الذي أبرمه الملك السعودي، عبد العزيز أل سعود مع الرئيس الأمريكي آنذاك، فرانكلين روزفلت في 14 شباط / فبراير سنة 1945 بعد عودته من مؤتمر يالطا، حدثا مهما للغاية في التاريخ وقع تهميشه. ولا يزال هذا الاتفاق يرسم الجغرافيا السياسية العالمية إلى حد اليوم. وقد تم اللقاء بين الطرف السعودي والأمريكي في البحيرات المرة في مصر.
خلال ذلك اليوم، نشأ التحالف بين الولايات المتحدة والسعودية في وجه كل التحديات على غرار مسألة حظر النفط والحروب، فضلا عن تأميم أصول شركات الطاقة الأمريكية وانهيار الاتحاد السوفيتي، العدو المشترك لكلتا الدولتين. وقد رأى الكثيرون أن انهيار الاتحاد السوفيتي كان السبب وراء هذا التحالف. وقد تواصل هذا التحالف حتى في أعقاب مجزرة الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر سنة 2001، التي ارتكبها 19 إرهابياً من بينهم 15 سعودياً بقيادة السعودي، أسامة بن لادن.
أظهرت الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية بشكل عام اهتماما كبيرا إزاء المملكة السعودية منذ اليوم الذي انعقد فيه اتفاق كوينسي
خلال الأسبوع الجاري، تعزز التحالف الأمريكي السعودي التاريخي من خلال الدعم الذي أظهره دونالد ترامب لولي العهد، محمد بن سلمان، حاكم السعودية القوي، في خضم قضية مقتل الصحفي، جمال خاشقجي، المثيرة للجدل، في القنصلية السعودية في إسطنبول بتركيا. في حقيقة الأمر، يمكن وصف التحالف بين الدولتين على أنه أشبه بزواج تاريخي ضد المألوف لعدة أسباب. من جهة، تعد الولايات المتحدة دولة ديمقراطية مبنية على مبادئ التنوير، في حين أن السعودية مبنية على حكم ملكي مطلق. ومن جهة أخرى، تمثل الولايات المتحدة الطرف الأقوى في الاتفاق المبرم، لكنها تميل إلى أن تنحني أمام السعودية، الطرف الأضعف.
أظهرت الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية بشكل عام اهتماما كبيرا إزاء المملكة السعودية منذ اليوم الذي انعقد فيه اتفاق كوينسي. وقد كان التباين في القوة بين الزعيمين واضحا وجليا. فقد انتقل روزفلت من مؤتمر يالطا، الذي قسم من خلاله العالم مع ستالين، لمقابلة الملك عبد العزيز الذي يخرج لأول مرة من مملكته. وعلى الرغم من ذلك، نجح الملك في فرض حزمة من الشروط.
في ذلك الوقت، اصطحب الوفد السعودي معه نحو 100 رأس من الخرفان والماعز، لكنه اكتفى في النهاية بأخذ 8 خرفان فقط على متن السفينة الحربية كوينسي، بعد أن تحققوا من توفر الطعام الذي يكفيهم طيلة الرحلة. وقد أفاد الكاتب والباحث الاقتصادي الأمريكي، دانيال يرجين، صاحب كتاب “تاريخ البترول”، أن “السعوديين قاموا بذبح الخرفان الثمانية وطهيهم على سطح السفينة. كما لم يرغب الملك السعودي في النوم في المقصورة المخصصة لذلك، حيث فضل النوم في خيمة قام ببنائها حشد مكون من 48 شخصا بمن فيهم أحد المنجمين، على سطح السفينة”.
في خضم اللقاء بين الطرفين، كرس الرئيس الأمريكي، فرانكلين روزفلت، كل جهوده لنيل رضا السعودية؛ الدولة الإسلامية المتشددة. ففي الواقع، لم يدخن روزفلت سيجارة واحدة في حضرة الملك السعودي، طوال محادثتهما التي تواصلت لخمس ساعات. وقد وصل الأمر إلى درجة أنه كان يدخن خلسة في أحد المصاعد بعيدا عن أنظار الملك.
أفادت المؤرخة راشيل برونسون في كتابها عن العلاقات السعودية الأمريكية: “أكثف من النفط” سنة 2008، أن المسائل التي تمت مناقشتها تبدو معاصرة للغاية، على غرار النفط والقدس والاستثمارات العقارية. عموما، كان لفرانكلين روزفلت السبق في الحصول على الدعم السعودي لشركات النفط في بلاده، على حساب البريطانيين، مقابل ضمان استقلال المملكة العربية السعودية عن بريطانيا العظمى. والجدير بالذكر أن روزفلت حقق مآربه في نهاية هذا اللقاء، على الرغم من أنه لم يستطع إقناع الملك السعودي بدعم إقامة دولة يهودية في فلسطين.
لم يتغير فحوى هذه الاتفاقية كثيرا إلى غاية اليوم فيما يتعلق بالنفط، وحتى الاستثمارات العقارية
من جانبه، احتفظ الملك عبد العزيز بهدية ثمينة للغاية قدمها له الرئيس الأمريكي، والمتمثلة في كرسي متحرك، نظرا لأن روزفلت كان مصابا بمرض شلل الأطفال. كما كان الملك السعودي، بدوره، يعاني من مشاكل في المشي بسبب الجروح التي أصيب بها في الحروب التي دارت ضد العائلات الإقطاعية الأخرى.
لعبة التحالفات
لم يتغير فحوى هذه الاتفاقية كثيرا إلى غاية اليوم فيما يتعلق بالنفط، وحتى الاستثمارات العقارية. من جهته، أكد دونالد ترامب، الذي عمد إلى بيع يختين للسعوديين، أن المملكة تستثمر في ممتلكاته العقارية بشكل سنوي. أما فيما يتعلق بمسألة القدس، لا زال الاتفاق قائما، خاصة بالنسبة “للصهاينة المسيحيين” في الولايات المتحدة، الذين يستميتون في الدفاع عن إسرائيل. وقد كان تحالف بن سلمان مع إسرائيل أمرا غير مسبوق ومفاجئ بالنسبة لهم. أما التحالف الأكثر غرابة، فذلك الذي يجمعه بالولايات المتحدة، وهو ما يرتبط جزئيا بإيران؛ العدو المشترك بين واشنطن والرياض.
في حقيقة الأمر، تجدد سيناريو التوتر الذي طغى على علاقة الحليفين، الولايات المتحدة والسعودية، مع بريطانيا العظمى اليوم، ولكن هذه المرة مع إيران، التي ستضيق عليها الولايات المتحدة الخناق عبر استئناف حصار نفطي كامل خلال 12 يوماً القادمة. من جانب آخر، طغى التوتر أيضا على العلاقات التركية مع كلا الدولتين.
لا يعد الخلاف بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية بشأن سياستها في الشرق الأوسط جديدا، بل يعود إلى سنة 1945.
في الأثناء، تتسابق كل من السعودية وإيران من أجل قيادة العالم الإسلامي، في حين تنافس تركيا السعودية من أجل قيادة الإسلام السني في العالم العربي. من جهته، صرح أحد المصادر الدبلوماسية، أن “تصفية جمال خاشقجي بتلك الطريقة الوحشية في تركيا على وجه الخصوص، يمكن أن يكون إشارة موجهة إلى هذا البلد من قبل السعوديين”.
عموما، لم يسر دونالد ترامب على خطى سلفه روزفلت. وبدلا من تهميش لندن لصالح الرياض، تجاهل ترامب أنقرة، العضو في حلف الناتو، للحفاظ على تحالفه مع تل أبيب والرياض ضد طهران. وقد ربط الرئيس الأمريكي بذلك سياسته في الشرق الأوسط بهذين الحليفين حصراً. وعلى الرغم من أن هذا التحالف قد لا يروق لأوروبا، إلا أنها مجبرة على تقبله والتعامل معه في نهاية الأمر.
لا يعد الخلاف بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية بشأن سياستها في الشرق الأوسط جديدا، بل يعود إلى سنة 1945. فبعد معرفة رئيس الوزراء البريطاني، ونستون تشرشل، بشأن اجتماع فرانكلين روزفلت والملك عبد العزيز، طلب بعقد اجتماع مماثل مع الملك من أجل محاولة الوقوف في وجه النفوذ الأمريكي. بناء عليه، التقى الملك السعودي مع تشرشل في أحد الفنادق الواقعة في مصر بتاريخ 17 شباط/ فبراير، لكن الاجتماع لم يسر على ما يرام.
قدم الملك السعودي للوزير البريطاني هدية تتمثل في جملة من السيوف المرصعة بالأحجار الكريمة بالإضافة إلى 1500 كيلوغرام من اللؤلؤ والألماس، قال عنها الملك عبد العزيز أنها لم تكن لتشرشل بل “لإناثه”
كتب رئيس الوزراء البريطاني تشرشل، بشأن منع الوهابيين لمسألة التدخين وشرب الكحول: “لقد قلت له أنت ضيفي، وإن كان دينك يقضي بمنع التدخين وشرب الكحول، فإن ديني يعتبرهم طقوسا مقدسة قبل وبعد تناول الوجبات وإن لزم الأمر في الفترات الفاصلة بينها”. في ظل هذه البداية، ليس من المستغرب أن بريطانيا العظمى لم تقدر على كسر التحالف الذي جمع الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية.
قدم الملك السعودي للوزير البريطاني هدية تتمثل في جملة من السيوف المرصعة بالأحجار الكريمة بالإضافة إلى 1500 كيلوغرام من اللؤلؤ والألماس، قال عنها الملك عبد العزيز أنها لم تكن لتشرشل بل “لإناثه”. وقد فسرت الأكاديمية الملكية الإسبانية هذه الكلمة بأنها تعني “مجموعة من الماشية الإناث” أو “مجموعة من النساء” أيضا. وتعد هذه العبارة الأنسب والأقرب، حيث استخدمها الاقتصادي الأمريكي دانيال يرجين من أجل ترجمة الكلمة الإنجليزية التي قالها مترجم اللقاء والتي تعني مجموعة من النساء.
من جهته، أهدى رئيس الوزراء تشرشل، المحرج من سخاء وكرم الملك السعودي، لعبد العزيز آل سعود سيارة من نوع رولز رويس التي كانت ضمن أسطول سياراته. بعد مرور 73 سنة، يبدو جليا اليوم أن العلاقات الأمريكية السعودية كانت أكثر صلابة وامتدادا عبر الزمن من العلاقات السعودية البريطانية.
المصدر: الموندو