ترك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أول خطاب ألقاه بشأن مقتل الكاتب السعودي جمال خاشقجي، الباب مُواربًا أمام سلطات العاهل السعودي للإفصاح عن الحقيقة كاملة بشأن جريمة مقتل مواطنه، حاشرًا ولي العهد محمد بن سلمان في الزاوية لكن دون ذكره، ليبقى الملف مفتوحًا دون إعلان أي منعرجات حاسمة كما توقع المتابعون عبر العالم.
ضغط مستمر
أشار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى أن بلاده ماضية في التحقيقات، ما يعني ضمنيًا، أن الضغط السياسي والإعلامي والتسريبات مستمرة، أما اقتراحه على الملك سلمان في حد ذاته، تسليمه المعتقلين الـ18 للتحقيق معهم في إسطنبول، فيعكس انعدام الثقة في تحقيقات السعوديين، وانعدام الثقة كذلك في السعوديين إلا في شخصه، وهذه رسالة أنه لا نية في تأليب الرأي العام على نظامه.
وقد أوضح أردوغان علنًا أن الجريمة معدة مسبقًا ومدبرة، مما يدحض الرواية السعودية المتهافتة التي قالت إن الجريمة وقعت خطأ، وذلك لن يرضي تركيا ما لم يُكشف عن المتورطين من أسفل السلم إلى أعلاه في إشارة إلى شكوكه الكبيرة التي تحيط بولي العهد، فمساندة النظام السعودي لا تعني مساندة المجرم ولو كان ركنًا أساسيًا في النظام.
ابن سلمان وجّه رسالة واضحة إلى السلطان في الباب العالي، يقول له إني ها هنا قاعد، ومادام هناك سلمان وولي العهد وأردوغان فلن يفلح أحد في خلق العدواة أو ما أسماه بالشرخ بينهم الثلاثة!
كما من شأن التحقيقات التركية بعث روح الطمأنينة في العالم الذي شدته القضية التي صارت محل رأي عام، وبالتالي فإن القضية تحمّل محمد بن سلمان مسؤولية سياسية وجنائية بصفته القائد الفعلي للبلاد، الذي تجاهله أردوغان في خطابه، بينما أشاد بالملك سلمان، وتلك رسالة إدانة واضحة لولي العهد السعودي.
ابن سلمان يغازل السلطان
يبدو أن محمد بن سلمان تلقّف الرسالة بعد يوم واحد، ليرد عليها في زيارته الثانية لمؤتمر “دافوس الصحراء” الذي قاطعته شخصيات أعمال دولية كغضبة منهم على استهداف خاشقجي.
ابن سلمان وجّه رسالة واضحة إلى السلطان في الباب العالي، يقول له إني ها هنا قاعد، وما دام هناك سلمان وولي العهد وأردوغان فلن يفلح أحد في خلق العدواة، أو ما أسماه بالشرخ بينهم الثلاثة! هذا الانقلاب غير المتوقع لم يكن ليحدث لولا شعور ابن سلمان بارتباك كبير وجلي، في قسمات وجهه وحركاته، ناهيك عن غيابه عن الساحة منذ اغتيال مواطنه خاشقجي وظهوره بعد 20 يومًا من العملية.
ولي عهد #السعودية الأمير #محمد_بن_سلمان : لن يستطيعوا إحداث شرخ في العلاقات مع #تركيا مادام هناك الملك سلمان وولي عهد اسمه محمد بن سلمان ورئيس في تركيا اسمه أردوغان .. حادث #خاشقجي مؤلم وبشع .. وجميع الجناة سيعاقبون. #ولي_العهد_في_منتدى_الاستثمار #محمد_بن_سلمان_يبهر_العالم pic.twitter.com/kKchAQmjSA
— الأنباء (@AlAnba_News_KW) October 24, 2018
هذا الظهور هو الثاني في مؤتمر الاستثمار بعد بقائه أمس دقائق معدودات فقط في قاعة بدت شبه فارغة، وربما ظهوره اليوم جاء لترميم صورته المتآكلة في الداخل والخارج، وترميم صورة المؤتمر بعد ظهوره مع رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري، حراك ابن سلمان هذا جاء في إطار قياس مدى الرغبة فيه، بعد اعتراف بلاده بالجريمة، وتعزيته لأبناء خاشقجي، وبعد اتصال والده مرتين بأردوغان.
ها هو الآن ابن سلمان يطلب التواصل بنفسه في أوّل حركة منه تجاه “السلطان العثماني” الذي لم يترك الإعلام السعودي منذ تولي ابن سلمان، ما لم يقله في تركيا والعثمانيين، ونذكر حملات الشيطنة والتضليل التي نظمها الإعلام السعودي لتشويه حاضر تركيا وماضيها وضرب مستقبلها.
هذا الخنوع لا يمكن فهمه إلا بشيء وحيد وهو أن ابن سلمان مدرك لنقاط القوة التي يملكها أردوغان
لكن عندما نعلم أن ابن سلمان منذ ثلاثة أيام حاول التواصل مع أردوغان بل وطلب وساطة ملك الأردن كما راج، ثم قبول الرئيس التركي، فهذا يعكس حدة الرضوخ السعودي عمومًا للواقع الجديد، هذا الواقع الذي فرضه انكشاف جريمتهم البشعة بحق مواطن سعودي، لا يعني براءة ولي العهد من دماء خاشقجي ما لم تضع التحقيقات وزرها.
هذا التغير الكبير في النهج السعودي أشار إليه كذلك ابن سلمان في كلمته في مؤتمر الاستثمار ببلاده، عندما تطرق إلى قطر في معرض حديثه عن مستقبل اقتصادي يتوقعه لمنطقة الشرق الأوسط، لقد وصفه ولي العهد بأوروبا الجديدة، قائلاً ستشمل قطر لأن لها اقتصاد قوي! وهذا لعمري انقلاب آخر مع حليف تركيا الوثيق، بل أضاف إن قطر ستتغير تمامًا خلال السنوات القادمة! بعد أن طالب بحصارها اقتصاديًا محاصرة أمريكا لكوبا! وبعد أن نظمت الرياض حملات إعلامية سلطلت فيها برامجها وأغانيها للنيل من قطر وقياداتها، موجة انخرط فيها مستشارون إعلاميون ورياضيون وشعراء.
لا يمكن فهم سرّ هذا الخنوع والخضوع، بعيدًا عن التطورات الجديدة بعد مقتل خاشقجي ومع شعور ابن سلمان باستهدافه في منصبه، هذا الخنوع لا يمكن فهمه إلا بشيء وحيد وهو أن ابن سلمان مدرك لنقاط القوة التي يملكها أردوغان، لكن يبدو أن الأخير لديه نقاط قوة أخرى تتجاوز غريمه إلى حلفائه.
حلفاء ابن سلمان متورطون؟
في كلامه الديبلوماسي المنمق والمختار جيدًا والبعيد عن التدخل في الشأن القضائي والشطحات التي انتظرها شعبويون، لم يخل كلام الرئيس التركي كذلك من إمكانية تورط دول أو أفراد حليفة للنظام السعودي في الجريمة، ربما يُفهم منه إدانة لدول عربية لم يسمها كذلك، أتت على ذكرها التحقيقات التركية في علاقة بطائرات غادرت إلى دبي والقاهرة.
يبدو أن أنقرة مستمرة في حشد الضغوط على الرياض كما بدأت أوّل مرة، كي تكشف الحقيقة الجنائية، وهو ما تعهد به أردوغان
وهنا يجب التذكير بتلك الدول المتحالفة ضده في محور معادٍ للثورات العربية، التي لطالما تحدث عنها أردوغان كلما ذكّر بالمحاولة الانقلابية التي تعرض لها نظامه قبل ثلاث سنوات، من هنا فإن الرئيس حافظ على شعرة معاوية دون فضح أو كشف، فالملف ما زال مفتوحًا والجرح غائرًا والرجل مكلومًا، والعلاقة مع السعودية قد تتغير في أي لحظة من نقيض إلى نقيض.
إذًا، يبدو أن أنقرة مستمرة في حشد الضغوط على الرياض كما بدأت أوّل مرة، كي تكشف الحقيقة الجنائية، وهو ما تعهد به أردوغان، مقدمًا ذلك على أي تسويات سياسية حتى يراها العالم مرأى العين.
وباستناد الرئيس التركي إلى نتائج التحقيقات التركية، يكون بذلك قد أكد الوقائع التركية المسربة بشأن عملية مقتل الخاشقجي، وبالتالي حشر الملك سلمان المخاطب الوحيد، في الزاوية أمام طريقين لا ثالث لهما: إما الاعتراف بالحقيقة أو تمسكه بالروايات المتهافتة، والحالتان تدينان الجاني مما قد يفتح الباب أمام تدويل القضية، لكن قبل كل ذلك، لا شك أن طوق النجاة لا يزال متاحًا للرياض.