مع قرب مرور شهر على قضية اختفاء الصحفي السعودي جمال خاشقجي التي سرعان ما تحولت إلى قضية اغتيال عالمية، تتصدر هذه القضية عناوين الوسائل الإعلامية العالمية والمحلية، وقد أُشبعت تحليلاً واستنتاجًا وتنبؤًا لما سيحدث من تطورات جرائها، لكن هل من تطورات إيجابية ستحدث للمنطقة أم أنها تطورات سلبية في حال ثبت تورط الأمير الصغير محمد بن سلمان في هذه القضية؟
جمال خاشقجي.. بوعزيزي الخليج
البوعزيزي الذي أحرق نفسه بسبب إهمال شكواه التي قدمها للسلطات البلدية جراء مصادرة الشرطة لعربة الخضار التي يسترزق من خلالها، فجر تظاهرات شعبية ضخمة في تونس، لتعبر عن غضب كامن بقلوب الشعب ضد نظام زين العابدين، وأصبحت التظاهرات التونسية، انطلاقة لتظاهرات شعبية واحتجاجية على أنظمة عربية مستبدة عديدة، اصطلح عليها فيما بعد إعلاميًا “الربيع العربي”، وما زالت تداعيات ذلك الربيع حتى الآن موجودة.
فهل ستكون حادثة اغتيال الصحفي جمال خاشقجي هي الأخرى مفجرة لانتفاضات في دول الخليج تطيح بملوك وأمراء نشأوا وشابوا وهم على كراسي الحكم؟ خاشقجي الذي كان يؤمن بالربيع العربي السابق ويتوق لربيع عربي آخر يستكمل ما بدأوه، ربما سيكون البوعزيزي الخليجي.
كثير من الإعلامين المحسوبين على الآلة الإعلامية السعودية بشكل مباشر أو غير مباشر، وللتقليل من شأن الجريمة التي اُرتكبت، شككوا بحصول الحادث أصلاً، لكن بعد اعتراف المملكة السعودية بواقعة القتل، عمِد هؤلاء إلى تبرئة أفراد العائلة المالكة من الضلوع فيها وحرف الحقيقة وإلصاقها بكبش فداء أو بمجموعة من أكباش الفداء.
النظام السعودي هو الذي مكّن لإيران أن تمتد بدول المنطقة من حيث يدري أو لا يدري
والبعض ممن نحسن الظن بهم التبس الأمر عليهم وآثروا الصمت أو انبروا للدفاع عن النظام السعودي باعتباره على خصومة مع النظام الإيراني، وللحيلولة دون تفوق النظام الإيراني على النظام السعودي، يعتقد أن من الواجب الدفاع عن هذا النظام ظالمًا كان أو مظلومًا، ولسان حالهم يقول إن مآلات الأمور أهم من مقدماتها ونحن نعرف سوء النظام السعودي وما تسبب به من ضرر لكثير من قضايا الأمة الحساسة، لكن ماذا نفعل وإيران تتربص بنا وشعب المملكة السعودية شعب مسلم عربي أصيل مهما كان ومهما حصل ولا نرضى أن يسقط هذا النظام تحت سكين الإيرانيين كما سقط العراق وغيره من الدول، ولا يجب أن ننظر للسعودية من خلال سياسات أمرائها الرعناء، بل ننظر إليها كقبلة للمسلمين لا نريد أن تعلّق رايات العجم على كعبة المسلمين ولا على منارات المسجد النبوي، فبعدها يكون باطن الأرض خير لنا من ظاهرها.
وهذا كلام حق، لكن إلى متى يستغل النظام السعودي حب المسلمين للديار المقدسة وللشعب المسلم الذي يعيش على أرضها، ليكمم أفواه منتقدي نظامه السيء؟
إن النظام السعودي هو الذي مكّن لإيران أن تمتد بدول المنطقة من حيث يدري أو لا يدري، فهذا النظام عمل على إسقاط العراق الذي كان حائلاً بين إيران وأطماعها بالبلاد العربية، والنظام السعودي ومعه النظام الإماراتي وقفا ضد تطلعات الشعوب العربية بالتحرر، وأجهضا الربيع العربي وأدخلا بلدانه بحروب أهلية قائمة لحد الآن، وهذان النظامان حاربا التيارات الإسلامية الوسطية لتخلوا الساحة للتيارات المتشددة وهي تجند الشباب لتدفعهم إلى المحارق.
هذان النظامان ما زالا يدعمان حفتر ليسفك الدماء في ليبيا، ويدعمان الانفصاليين في اليمن وكردستان العراق، ومهدا لصفقة القرن مع “إسرائيل” وضيقا الخناق على من يحارب “إسرائيل” في غزة، بل ولديهما الاستعداد للدخول بحلف مع “إسرائيل” ليقاتلا إيران، ويطلقان وسائلهما الإعلامية وذبابهما الإلكتروني لتسقيط كل صاحب رأي حر، ومن لا ينفع معه هذا الأسلوب، فالسجون جاهزة لهم يرمون في غيابتها، من دعاة ومفكرين وأحرار.
تحول أردوغان في الإعلام السعودي والخليجي، من ديكتاتور والسلطان العثماني الجديد، إلى الأخ الرئيس التركي وتركيا الشقيقة، إلا أن الأخير أبى إلا أن تُعرف الحقيقة ويُعرف القتلة ومن أمرهم بالقتل
وبعد هذا كله، هل يُعقل أن يكون نظام آل سعود ومن خلفه نظام الإمارات، رأسا حربة ضد إيران؟ إن الكثير من نجاحات النظام الإيراني قد تحققت بسبب حماقات أمراء المملكة والإمارات لا بسبب قوة إيران.
جاءت أخيرًا حادثة اغتيال خاشقجي لتفضح النظام السعودي وتزيل الغشاوة عن كثير من المخدوعين فيه، وجعلت الجميع يفكر، إذا كان هذا النظام يفعل هكذا بمعارض مسالم يدعو للإصلاح، فيقتله داخل قنصلية بلاده، فكيف الحال بمعارضي الرأي في غياهب السجون داخل المملكة؟ حيث لا تغطية إعلامية ولا أحد يستطيع الدفاع عنهم أو يعرف ما يجري لهم، لقد عرَّت حادثة اغتيال خاشقجي أمراء نظام آل سعود وأظهرتهم على حقيقتهم أمام العالم، وظهر النظام السعودي كنظام ديكتاتوري يعمد إلى تصفية خصومه السياسيين بأبشع الوسائل ويحكم شعبه المسلم بالحديد والنار.
تحول أردوغان في الإعلام السعودي والخليجي، من ديكتاتور والسلطان العثماني الجديد، إلى الأخ الرئيس التركي وتركيا الشقيقة، إلا أن الأخير أبى إلا أن تُعرف الحقيقة ويُعرف القتلة ومن أمرهم بالقتل
جريمة اغتيال خاشقجي سلطت الضوء على أساليب النظام ضد كل من يخالفه، وليس مستبعدًا أن هذه الجريمة ستتسبب بإقالة ولي العهد الأمير الصغير محمد بن سلمان من منصب ولاية العهد، وستؤجج حادثة الاغتيال الصراع بين أفراد العائلة المالكة، فهذه الجريمة قضت على حلم الملك سلمان بجعل المُلك في ذريته من بعده، بعدما تورط بالجريمة محمد وخالد ابناه، هذه الجريمة التي جعلت الملك سلمان يتصل بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان متوسلاً للملمة الموضوع وتبرئة ابنه من الجريمة.
وتحول أردوغان في الإعلام السعودي والخليجي، من ديكتاتور والسلطان العثماني الجديد، إلى الأخ الرئيس التركي وتركيا الشقيقة، إلا أن الأخير أبى إلا أن تُعرف الحقيقة ويُعرف القتلة ومن أمرهم بالقتل حتى لو عُرض عليه استثمارات كبيرة أو رفع الحصار عن قطر، ذلك لعلمه أن رفع الحصار عن قطر سيكون أول ثمار فضيحة آل سعود بجريمة القتل، وقطر “الصغيرة” كما كانوا يقولن عنها، ستخرج من الحصار كبيرة بمواقفها وخياراتها.
قدر شعوب المنطقة أن تكون وسط صراع بين قطبين، أحدهما النظام الإيراني الطامع بدول المنطقة ويحلم باستعادة مجده التليد، ويجلب الدمار والخراب لكل بقعة يمر بها أو تكون تحت نفوذه، وقطب آخر ضيع شعوب المنطقة وضيع نفسه، وأدخل الخراب على أهلها بسبب تخبطه يمنة وشمالاً
هذه الفضيحة ستتطور لتكون نكسة للكيان الصهيوني لخسارتهم أمير مثل محمد بن سلمان الذي كان سيكون ملكًا عما قريب لأكبر دولة نفطية عربية، عبر عن ذلك صراحة أحد المحللين السياسيين الإسرائيليين حينما قال: “لقد انتظرنا 50 عامًا لنحظى بأمير عربي مثل محمد بن سلمان”، ورغم جعجعات الرئيس الأمريكي عن قلقه من الجريمة ونيته فرض عقوبات ضد النظام السعودي، فإنه مع ذلك قال إن النظام السعودي جاء بفوائد كبيرة لنا بالأخص في موضوع “إسرائيل”، هذه الفضيحة جعلت من أقرب حلفاء النظام السعودي يتخلون عنه تحت ضغط شعوبهم، لأنهم يحترمون شعوبهم ولا يستطيعون دعم نظامًا، ثبت بالدليل أنه يقتل خصومه بطريقة بشعة.
ما أضرار تلك الجريمة؟
لكن مع الأسف تأتي حادثة اغتيال خاشقجي بعوامل قوة للنظام الإيراني الذي جاءته هذه الحماقة السعودية على طبق من ذهب ليصطاد فيها بالماء العكر، والرسالة الإعلامية الإيرانية تقول إن الدولة التي تتصدى لمشاريعها بالمنطقة هذا حالها، وهذه وحشيتها بتصفية الخصوم، ويعيد تقديم نظامه كمثال للديمقراطية بالمنطقة، ونسي أنه قتل سنة 1988 ما يزيد على 30 ألف سجين سياسي معارض لنظامه، وبالتالي فإن الضعف الذي سيصيب السعودية، سيكون انتصارًا لإيران بعدما ساهمت السعودية بإضعاف كل المنظومة العربية المواجهة لإيران، وستستغل إيران الضعف السعودي في اليمن، ومناطق عديدة أخرى في المنطقة.
وعلى ما يبدو أن قدر شعوب المنطقة أن تكون وسط صراع بين قطبين، أحدهما النظام الإيراني الطامع بدول المنطقة ويحلم باستعادة مجده التليد، ويجلب الدمار والخراب لكل بقعة يمر بها أو تكون تحت نفوذه، وقطب آخر ضيع شعوب المنطقة وضيع نفسه، وأدخل الخراب على أهلها بسبب تخبطه يمنة وشمالاً، تراه يركض كالثور الهائج لا يلوي على شيء.