“واشنطن لن تضغط على محمد بن سلمان إلا إذا حدثت أزمة حقيقية في السعودية”، لم يكن جمال خاشقجي يدرك وهو يقول كلمته هذه ويمشي، أن “الأزمة الحقيقية” التي اشترط حدوثها لتضغط واشنطن على ابن سلمان ليُغيّر حال البلاد، هي حادثة قتله الوحشية بمقر قنصلية بلاده في إسطنبول.
لم يكن يدري، وهو يحدّث صَحَفيّة مجلة نيوزويك الأمريكية، بأن تقطيع جثته سيكون سببًا في قطع مسار استبداد ولي العهد الذي ظن أن طريقه سالكة لتحقيق مملكة أحلامه التي يستحيل فيها صمدا لا ما يُسأل عما يفعل.
لم تنشر المجلة هذا الجزء من المقابلة خوفًا على حياة خاشقجي، فقد رأت أن وصفه لولي العهد بكونه “زعيمًا قبليًا من الطراز القديم وليس إصلاحيًا”، وصفٌ يجاوز المسموح به، ويمكن أن يجر على الصحفي الناصح غضب الأمير، لم يكن خاشقجي و”نيوزويك” يعلمان أن صدر ولاة أمر الرياض قد ضاق مسبقًا بنصح جمال، فشرعوا في التخطيط لإخراس لسانه إلى الأبد، دون حاجة لسماع كلامه الأخير.
رد الفعل المضطرب الذي أظهرته مملكة سلمان وابنه تفاعلاً مع أزمة خاشقجي، ينبئ بأن الدولة التي نجحت في رد رياح الربيع ولم تقدم تنازلات كبيرة لتجاوز آثارها، إنها فقدت عنصر قوة كانت تستند عليه
إن أزمة اغتيال جمال خاشقجي تعيد من جديد طرح السؤال عن إمكانية عودة رياح التغيير لطرق باب مملكة آل سعود، وتلح على التذكير بأن بِركة الحراك الساكنة تنتظر حجرًا يحيي في جنباتها شغف الارتجاج، وتنبه إلى أن آثار الضعف مستترة في جسد كل نظام مهما بدت قوته جلية، وأسباب الانتفاض كامنة في طبقات كل مجتمع وإن ظهر في مفاصله الخمول، فهل يصح وصف المجتمع السعودي بـ”شعب الكنبة”؟
لم تكن السعودية بمنأى عن موجة التغيير التي اجتاحت بلاد العرب، إذ شهدت احتجاجات متفرقة طيلة الأشهر الثورية الأولى من سنة 2011، وأفرز كل تحرك مجموعة من الإصلاحات التي قدمها نظام الحكم، وكذا خروج المطالب إلى حيز الواقع المنظم في فبراير 2011، حيث طالب 123 مثقفًا في بيان وقعوه، بـ”إعلان ملكي يؤكد بوضوح التزام الدولة بالتحول إلى ملكية دستورية، وتطوير النظام الأساسي للحكم إلى دستور متكامل ينص على الفصل بين السلطات، وربط الصلاحيات بالمسؤولية والمحاسبة، والإفراج عن معتقلي الرأي ورفع الحصار عن حرية التعبير”.
لم يستجب الملك عبد الله بن عبد العزيز لمطلب تغيير شكل نظام الحكم وطبيعته، وكغيرها من الملكيات العربية، استطاعت السعودية إخماد التحركات الاحتجاجية وتجاوز الأزمة، لكن السنوات التالية لم تخل من محاولات احتجاج، كانت أبرزها دعوات “حراك 15 سبتمبر 2017” التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي كرد فعل على حملة الاعتقالات الواسعة التي دشنها الأمير محمد بن سلمان بعد أشهر من ارتقائه في سلم الحكم السعودي.
السعودية إذًا ليست دولة استثناء، رغم خصوصيتها الروحية، وليست مملكة أموات وقبور صامتة، والشعب السعودي ليس حشد رعية يسمع ويطيع “ولي الأمر” دون اعتراض.
إن رد الفعل المضطرب الذي أظهرته مملكة سلمان وابنه تفاعلاً مع أزمة خاشقجي، ينبئ بأن الدولة التي نجحت في رد رياح الربيع ولم تقدم تنازلات كبيرة لتجاوز آثارها، فقدت عنصر قوة كانت تستند عليه، أو أنها انخدعت بمقدار قوتها وبدا لها أن ما لا يأتي بالمال يأتي به مزيد من المال، وظنت خطأ أن ولاء ترامب وماكرون وتيريزا ماي يُشترى بـ”شوال رز” وبئر بترول.
دم خاشقجي ثورة ستشب في جنبات قصر الخزامى مهما طال الزمان وخفَتَ الحماس
لم يتذكر أولياء الأمر السعوديون أن فرنسا التي يُشتبه بأن عقيد ليبيا الهالك مول حملة لرئيسها الأسبق نيكولا ساركوزي، هي نفس الدولة التي أوفدت طائراتها لقصف قصره الأخضر، وأن أمريكا التي غازلت نظامَيْ بن علي ومبارك هي ذاتها التي سارع رئيسها إلى مباركة سقوطهما والتبشير بحكم ديمقراطي ينهي “الحكم الفاسد الذي أسسا له”، وقس على ذلك رأي ألمانيا وبريطانيا وبقية الدول القوية.
فالعلمانية الغربية – على رأي عبد الوهاب المسيري – تعتقد بأن “الإنسان أداة استعمال، وعندما تنتهي فاعليتها تلقى جانبًا“، وهكذا تتعامل الدول العظمى مع “الإنسان الحاكم”، وهكذا سينتهي الأمر بخادم الحرمين وخدامه حين تنتهي فاعليتهم، ولن تشفع لهم الآبار والأموال، فالأوراق الجافة تلقى وتداس.
دم خاشقجي ثورة ستشب في جنبات قصر الخزامى مهما طال الزمان وخفَتَ الحماس، وإن بعد حوْل، خمس أو عقد حتى؛ ولا يشترط أن تكون ثورة على شاكلة صرخة تونس أو جحافل ميدان التحرير، فتنحية ابن سلمان ثورة، والحد من استبداد آل سلمان ثورة، والتأسيس لفعل ديمقراطي ثورة، فكل بناء في البيداء صَرْح.
دم خاشقجي – كما صفعة البوعزيزي – لعنة تصدح في وجه الجاني: “اللهم لا تسلطه على أحد من بعدي“، وليذكر “الحَجّاج” قول “سعيد”.