في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وبعد أكثر من ساعة من تنفيذ عملية “طوفان الأقصى” التي شنتها المقاومة الفلسطينية على “إسرائيل”، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت حالة الطوارئ في نطاق 80 كيلومترًا في قطاع غزة، وصرح أن “قوات جيش الدفاع تقاتل العدو في كل مكان”، وأن “إسرائيل سوف تنتصر في هذه الحرب”.
ووسط حيرة الإسرائيليين، ظهر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بعد ساعات مرهقًا ومتفاجئًا مثلهم، متعهدًا بشن حرب لا هوادة فيها ضد حماس، ثم كرر تعهده بعد أشهر عندما عجز عن الوفاء به قائلًا: “إننا في طريقنا إلى تحقيق النصر المبين: القضاء على حركة حماس، وإطلاق سراح المحتجزين”، متعهدًا أن غزة لن تشكل تهديدًا لـ”إسرائيل” بعد اليوم.
ومع دخول حرب غزة عامها الثاني، ورغم الفترة الطويلة من القتال، تُثار التساؤلات حول عجز “إسرائيل” حتى الآن عن تحقيق “نصر مطلق” وصفه الداعون له لاحقًا بأنه “هراء”، أو حتى تحقيق أيّ من أهدافها التي أعلنتها في أعقاب ما شهدته صباح يوم “السبت الأسود”.
أهداف عصية على التحقيق
خلال ما تبقى من أكتوبر/تشرين الأول، كان جيش الاحتلال يكثف غاراته على قطاع غزة، ويحشد قواته على الحدود، وتزامنًا مع ذلك كان المستوى السياسي في “إسرائيل” اتخذ قرار الهجوم على غزة لتحقيق هدفين: إنهاء وجود حركة حماس واستعادة الأسرى الإسرائيليين.
تحت هذين الهدفين اللذين أُضيف إليهما لاحقًا هدف آخر وهو تعزيز الردع الإسرائيلي واستخدام القوة العسكرية ضد حماس، شنت قوات الاحتلال بعد 3 أسابيع من الطوفان، عملية برية واسعة مسكونة بهاجس الانتقام والفشل العسكري الكبير، ليخيَّم رعب “السبت الأسود” على كل ما جرى لاحقًا.
لم تكن “إسرائيل” من قبل بهذه الصراحة والوضوح في إعلان نيتها القضاء على حماس، وهو الهدف الذي وضعه نتنياهو على رأس قائمة أولويات الحرب منذ السابع من أكتوبر، وكرر هو ومسؤولون آخرون الحديث عنه والتأكيد على السعي لتحقيقه باستمرار.
لكن في ظل مضي “إسرائيل” في مسعاها وبعد أشهر من اندلاع المواجهات، تبيَّن أن حكومة نتنياهو حددت لنفسها هدفًا عصيًا على التحقيق، حيث لا تزال “إسرائيل” تواجه مقاومة ضارية في غزة رغم تفوق قدراتها العسكرية بكثير على قدرات حماس.
وكثرت الروايات التي تسردها “إسرائيل” عن تقدمها في مهمتها، وتصفية أعداد كبيرة من حركة حماس، وتفكيك هيكل القيادة لجميع كتائبها تقريبًا، وتفجير أنفاق وصفتها بالاستراتيجية، وأحدث هذه الروايات كانت ما خرج به وزير الدفاع بأن 60% من مقاتلي حماس قُتلوا أو أُصيبوا، معتقدًا تفكيك غالبية كتائب الجناح العسكري للحركة التي ناهز عددها 24 في بداية الحرب.
وإذا كانت هذه الأرقام صحيحة، فإنها تشير إلى تراجع كبير في القدرات العسكرية لحماس، لكن كيف يفسر الاحتلال استمرار عمل المقاومة بقوة في كل مناطق غزة؟. فالمؤكد وفق أحد مؤسسي حركة حماس عبد الحكيم حنيني أن “المقاومة قادرة ومستعدة للاستمرار في الدفاع عن الشعب الفلسطيني في هذه الحرب طالما استمر عدوان الاحتلال على غزة”.
وما فتئت المقاومة تؤكد أن معامل تفريخ المقاتلين لديها تدور بكل قوة، وجنَّدت الآلاف خلال الحرب في غزة، خصوصًا مع قدرتها على جذب أجيال جديدة من العناصر والمقاتلين المستعدين للموت دفاعًا عن قضيتهم.
وأثبتت حماس أنها لا تزال قادرة على المواجهة من مسافة صفر في أكثر المناطق تدميرًا بالقصف، فأطلقت الصواريخ حتى من الأماكن التي أعلن الاحتلال سيطرته عليها وقضائه عليها عسكريًا، ما يشير إلى أن قدرات حماس لا تزال تشكل تهديدًا حقيقيًا لدولة الاحتلال.
ورغم الترويج لسردية النجاح في السيطرة على مراكز قيادية لحماس وتدمير طرق إمداد حيوية والاستيلاء على بعضها، وإعلانات الجيش الإسرائيلي المتكررة عن تقويض قدرة المقاومة على إطلاق الصواريخ بعيدة المدى على “إسرائيل”، أثبتت حماس أنها جيش منظم وهرمي تقوده كفاءات ذات تأهيل علمي ومهني تعرف كيفية توفير وإدارة البنى التحتية اللازمة للبقاء والهجوم.
ولا يزال الآلاف من مقاتلي حماس والمسؤولين الحكوميين يسيطرون على أجزاء كبيرة من غزة، وحتى في المدن التي سيطرت عليها قوات الاحتلال لفترة وجيزة، ترك رحيلهم في النهاية فراغًا ملأته حماس وجماعات المقاومة المسلحة الأخرى بسرعة.
وهم القضاء على حماس
يشاهد ملايين الناس يوميًا فيديوهات المعارك في غزة، وليس ثمة صور لقتال جدي أمام من يراقب غير تلك التي تنشرها المقاومة الفلسطينية التي يكاد يُجمع لها بأنها فاقت في توازن القوى المختل أي مقاومة في العصر الحديث.
ذاك تحديدًا ما يجعل سؤال اليوم الأول من الحرب هو نفسه سؤال ما بعد العام الأول: هل القضاء على المقاومة أمر ممكن؟ سمع الإسرائيليون الجواب المشكك من واشنطن الحامية الداعمة حين دعت نتنياهو في بداية الحرب إلى وضع أهداف واقعية، وأبلغ وزير خارجيتها أنتوني بلينكن في خامس جولاته مجلس الحرب الإسرائيلي بأنه لا يمكن القضاء تمامًا على حماس، الموقف الذي سبقه إليه قبل أيام منسق مجلس الأمن القومي الأمريكي للاتصالات الاستراتيجية في البيت الأبيض جون كيربي.
وفي رؤية متشائمة حول نتائج الحرب، نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية عن قادة عسكريين ومسؤولين أمنيين إسرائيليين حاليين وسابقين اعتقادهم بعدم قدرة جيش الاحتلال على هزيمة حماس.
وباعتراف هؤلاء الذين فضحوا إخفاق نتنياهو في تحقيق هدفه الأول، ومن بينهم القائد السابق لفرقة غزة في جيش الاحتلال غادي شامني، فإن أحدًا لا يستطيع تحدي حماس بعد رحيل قوات الاحتلال، فقد استعاد مقاتلوها المدن بعد ربع ساعة فقط من انسحاب الجيش الإسرائيلي، مشيرًا إلى أن جيش الاحتلال ينتصر تكتيكيًا في مواجهة حماس لكنها هي من تفوز بالحرب في النهاية.
في أواخر يونيو/حزيران الماضي، رفض المتحدث العسكري الإسرائيلي دانيال هاغاري اقتراح نتنياهو بأنه يمكن القضاء على حماس، وقال في مقابلة مع القناة الـ13 الإسرائيلية إن “حماس فكرة لا يمكن القضاء عليها، والحديث عن تدميرها مجرد ذر للرمال في العيون الإسرائيلية”.
وعلى الرغم من الضرر الذي قد تكون “إسرائيل” ألحقته بحماس في هذه الحرب، فإن الحركة ما زالت تمتلك قدرة ومرونة كبيرة تجعلها تتصدى لقوات الاحتلال، بل وتطور تكتيكاتها العسكرية باستمرار في ظل القصف العنيف المتلاحق والاقتحامات البرية المتواصلة منذ السابع من أكتوبر.
كل هذا يقودنا إلى القول إن حماس لم تُهزم، ولا حتى على وشك الهزيمة، فقد صرَّح العديد من المحللين والمسؤولين الغربيين أن “إسرائيل” فشلت في فهم مصادر قوة حماس، ولهذا لم تستطع ردع عزيمتها بعد عام على اندلاع الحرب، تمامًا كما لم تستطع ردع الهجوم الصاروخي الإيراني الذي استهدف قواعد عسكرية إسرائيلية قبل أيام قليلة.
بعد كل هذا، يمكن لنتنياهو أن يتحدث كثيرًا، وأن يسرح بخياله ليفكر كيف ينشئ أجيالًا فلسطينية تستعذب الاحتلال وتتعلم حبه في المدارس، أمَّا على الأرض فالسلاح بالسلاح، والضحايا هم خَلَفُ مَنْ هُجروا، وسلف مَنْ يتجرعون احتلالًا يفجِّر بحور مقاومة يقول التاريخ إن قادمات موجِهِ أكثر من الذاهبات.
عُقدة الأنفاق باقية
بالعودة إلى الوراء، نجد أن “إسرائيل” لم تتمكن من هزيمة حماس بشكل حاسم رغم عمليات الاغتيال التي استهدفت قادتها وكوادرها، في الوقت الذي يُرجع فيه البعض فشل “إسرائيل” في ذلك إلى أن الحركة ليست مجرد منظمة عسكرية أو حركة سياسية، بل هي إيديولوجيا متكاملة صمدت، بل وازدهرت في مواجهة حروب الماضي.
وتؤكد تجارب الحروب السابقة فشل “إسرائيل” كسر شوكة حماس، حيث كانت بعد كل مرة تعود لتقصف تل أبيب من جديد، وكأن شيئًا لم يكن، وهذا بالضبط ما يجعل مهمة القضاء عليها دائمًا ليست مهمة سهلة على الإطلاق.
ورغم الحملة الدعائية الكبيرة وترويج حكومة الحرب، فشلت عملية “أتلانتس” لإغراق أنفاق حماس بشكل ذريع، واصطدمت خطط نتنياهو بجدران أنفاق هائلة تتعدى 500 كيلومتر تحت الأرض، غالبيتها ديناميكية وفعالة، خصوصًا تلك القائمة تحت مخيمات للاجئين وسط قطاع غزة وفي حي الشجاعية في الشمال، وكذلك في رفح بالجنوب.
أسباب الفشل أرجعتها صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية إلى عدم امتلاك جيش الاحتلال معلومات واضحة عن الأنفاق وآليات بنائها والموجودين داخلها، وما إذا كان فيها أسرى إسرائيليون، لكن الجيش الإسرائيلي قرر العمل على إغراقها بمياه البحر بسبب ضغوط الإدارة السياسية التي كانت تبحث عن نصر ميداني سريع.
كما أن عاملًا آخر وفقًا لضباط اسرائيليين ساهم في فشل الخطة، فجميع التدريبات التي خاضتها قوات الاحتلال قبل الحرب تبين أنها لا تنسجم مع الواقع الذي تكشَّف أمام الجنود في الميدان.
ولهذا، وبعد عام من القتل والتدمير، تغيرت لهجة “إسرائيل” التي عبَّر عنها وزير دفاعها بقوله إن “مستقبل إسرائيل يتوقف على نتائج الحرب في القضاء على قدرات حماس”، وبدلًا من ذلك، أصبح بعض المحللين العسكريين أكثر تشككًا في مدى الضرر الذي أُلحق بحماس وشبكة أنفاقها العنكبوتية، واعترف العديد من القادة في “إسرائيل” بأن هذا الهدف ليس واقعيًا، بل يعتقد مسؤولون إسرائيليون أن هذه الحرب قادت إلى تعزيز قوة حماس.
وفي اعترافات صادمة نُشرت بعد موافقة الرقابة العسكرية، كشف قادة إسرائيليون أن الأنفاق التي دمَّرها جيش الاحتلال جزئيًا تُستخدم حاليًا في نصب الكمائن بعدما أعاد مقاتلو المقاومة قسمًا كبيرًا منها إلى العمل، واستدلوا على ذلك بأن الحمساويين أعادوا ترميم واستخدام أنفاق خان يونس التي دُمرت، ومن ضمنها مصنع أسمنت تحت الأرض يُستخدم في الترميم والبناء.
وبذلك تتحول غزة إلى نفق كبير يتيه فيه ما وُصف بأحد أقوى جيوش العالم، ويتقاذف قادته المسؤولية، فيما تخلو الساحة الدولية إلا من حركة أمريكية تقفز فوق ما يحدث، وما يحدث أن المقاومة لا تنتهي، إذ تقوم – فضلًا عن عقائدها الأيديولوجية – على تأسيس قانوني زمني، وهو حق الانسان في مقاومة محتل أرضه.
معضلة الأسرى
مع كل الدمار الذي أحدثته العملية العسكرية في غزة، فشل جيش الاحتلال في استعادة أي من الأسرى المحتجزين باستثناء من أطلقتهم حماس بإرادتها المنفردة في عمليات تبادل أسرى أو صفقات منفصلة خلال الأشهر الأولى من الحرب، أجبرت خلالها المقاومة نتنياهو على توقيعها بعد فشل العملية البرية في تحقيق أهداف تل أبيب المعلنة.
منذ ذلك الحين، أعلنت “إسرائيل” أن هدف حربها على غزة هو تحرير 107 أسرى إسرائيليين، لكن بدلًا من إنقاذهم، قتلت قواتها 3 منهم رفعوا الرايات البيضاء بعد خروجهم من محبسهم في حي الشجاعية شمالي غزة، ووقع آخرون في الأسر عندما حاولت قوة مكلفة بتنفيذ عملية خاصة لتحرير عدد من الأسرى قبل أن يقع بعض أفرادها في كمين للقسام.
وتسببت الغارات الجوية المستمرة والقصف الإسرائيلي العشوائي على القطاع في مقتل العشرات من الأسرى، وفقدت حماس الاتصال بمجموعات مكلَّفة بحمايتهم، من بينهم 6 عُثر على جثثهم داخل نفق بمنطقة رفح جنوبي قطاع غزة التي شنَّت فيها قوات الاحتلال عملية برية منذ أشهر، وتبين أن 3 منهم كانوا ضمن قائمة وافقت عليها حماس في يوليو/تموز الماضي للإفراج عنهم ضمن صفقة تبادل، لكن نتنياهو فضَّل أن يعودوا في توابيت.
وفي حين يماطل نتنياهو على مدار عام مضى من أجل عدم التوصل إلى صفقة تبادل مع المقاومة الفلسطينية، ويصر على الضغط العسكري حتى “تدمير حماس وضمان عدم وجود أي تهديد آخر من غزة” كما يقول، أكد عدد من مسؤولي الأمن القومي في الحكومة الأمريكية أن الهدف الأكبر المتمثل باستعادة الأسرى لن يتم إلا بطريقة واحدة، وهي المفاوضات.
وبينما يصر مسؤولون إسرائيليون يمينيون على استكمال أهداف الحرب عسكريًا، واستخدام الأسرى لإضفاء الشرعية على قتل الفلسطينيين وتجويعهم في غزة، وجد مسؤولون أمريكيون أن الطريقة الدبلوماسية هي التي تبقت أمام “إسرائيل”، وتوفير حوافز لحماس بعد التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار يضمن إعادة الأسرى الإسرائيليين إلى ديارهم.
هكذا تراكم الفشل الاستخباراتي والأمني والعملياتي والإعلامي على كاهل جيش الاحتلال، ونتيجة لذلك، رجَّح مسؤولون أمريكيون أن تظل حماس قوة ذات نفوذ في غزة حتى بعد انتهاء الحرب، وأن عمليات “إسرائيل” العسكرية في القطاع وصلت نهايتها، ولم يتبق أي أهداف عسكرية لتحقيقها، وما يجري الآن ليس من شأنه إلا التسبب بسقوط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين.
ورغم عجزها عن تحقيق أي من أهدافها السابقة، حدّثت حكومة نتنياهو قائمة أهدافها قبل أيام، لتضيف هدفًا جديدًا يتضمن العودة الآمنة لسكان المناطق الشمالية في “إسرائيل” إلى منازلهم، واختارت لتنفيذه العمل العسكري عبر فتح جبهة جديدة على الحدود الشمالية مع “حزب الله”، ولا تقل ضراوة عن الحرب الدائرة في غزة.
ولا يزال سكان المناطق الشمالية حتى اليوم بعيدين عن منازلهم، ما يدل على فشل نتنياهو في تحقيق آخر أهدافه التي اختار لها جميعًا القوة الغاشمة التي ثبت فشلها في كل مرحلة من مراحل الحرب التي تتوسع على أكثر من جبهة، وسط تحذيرات من تحولها إلى حرب شاملة بدأت بفشل استخباراتي وأمني وانتهت بهزيمة عسكرية، ولم يبق منها إلا جرائم تلاحق المسؤولين عنها سواء أكانوا في مناصبهم أم خارجها على حد سواء.