وسط عالمٍ مشبعٍ بالصور النمطية عن النساء، سواء في الإعلام أو السينما أو مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تقدّم المرأة من خلال مفاهيم تحصرها في شكل الجسد لتوافق معاييرًا وُضعت بدقّة لتخدم الأنظمة الاستهلاكية والرأسمالية، تصبح مرحلة المراهقة عند الفتيات مرحلةً ملغومةً يصعب فيها بناء الثقة بالذات وتطغى عليها معايير المقارنة بالغير ومحاولة التلقيد والخضوع للمعايير الاستهلاكية.
تعدّ سنوات المراهقة مرحلةً مليئة بالتحديات العديدة، فهي وقت التغييرات الكبيرة في الحياة التي يرافقها الضغط والقلق وعدم اليقين والخوف. وفي مثل هذه الظروف والمشاعر السلبية المتفاوتة، يمكن أن تتحوّل حادثة صغيرة في بعض الأحيان إلى قلق كبير مستمرّ، مما قد يولد العديد من السلوكيات المدمّرة للذات لدى المراهق.
قد يتحوّل التفكير بصورة الجسد عند الفتاة المراهقة إلى هوسٍ حقيقيّ ومن ثمّ إلى “اضطراب التشوّه الجسمي” يكون فيه عدم الرضا عن المظهر الجسدي هو السمة الأساسية المحددة
وواحدة من الأمور الأكثر تسبيبًا للقلق هي صورة الجسد، وبشكلٍ أكثر دقة “صورة الجسد المثالية”، تأثرًا بضغط المجتمع والأقران والصور النمطية عن المرأة في الإعلام والمسلسلات. وبالتالي، تسعى الفتاة في مرحلة المراهقة إلى تحقيق صورةٍ معيّنة لجسدها، إلا أنّ الإخفاق في الوصول إلى الصورة المثالية قد يؤدي إلى تكوين صورة سلبية عن الجسد الأمر الذي يؤدي بدوره إلى الاكتئاب وتدني صورة الذات والثقة بها، أو محاولة اتّباع نظام غذائي قاسٍ ومؤذٍ والذي قد يتحوّل إلى شكلٍ من أشكال اضطرابات الأكل.
وقد يزداد الأمر سوءًا حين يتحوّل التفكير بصورة الجسد إلى هوسٍ حقيقيّ ومن ثمّ إلى “اضطراب التشوّه الجسمي” يكون فيه عدم الرضا عن المظهر الجسدي هو السمة الأساسية المحددة، ويُعرّف بأنه انشغال حاد أو شديد للفرد بعيب بسيط أو متوهم وغير حقيقي في مظهره، بما يسبب خللًا وظيفيًا في حياته، ويصيب الرجال والنساء على حدٍ سواء، لكنه أكثر شيوعًا في فترة المراهقة بسبب التقييمات الاجتماعية السلبية للمظهر. أما أعراضه الشائعة فغالبًا ما تظهر على شكل اكتئاب أو انسحاب أسريّ واجتماعيّ أو التفكير بالانتحار أو تدني احترام الذات وضعف الثقة بها، ناهيك عن انخفاض الأداء الأكاديمي واللجوء إلى السلوكيات السلبية كالتعاطي.
ضعف الثقة.. مشكلة أساسية فما الحل؟
يمكن تعريف ضعف أو تدنّي الثقة بأنه اضطرابٌ في التفكير يرى فيه الفرد نفسه غير كافٍ وغير محبوب ممّن حوله، وبمجرد تكوّن تلك النظرة السلبية فإنها تتغلغل في معظم الأفكار وتنتج افتراضاتٍ وسلوكيات خاطئة. ومن المعروف أنّ هذا الشعور عادةً ما يلازم الإناث في فترة المراهقة. إذ تشير الأرقام إلى أنّ أكثر من 70٪ من الفتيات اللواتي تتراوح أعمارهن بين 15 و 17 عامًا يتجنبنَ الأنشطة اليومية العادية، كالذهاب إلى المدرسة على سبيل المثال، عندما يشعرن بالسوء تجاه مظهرهن. فيما 44 ٪ منهنّ يحاولن محاولاتٍ جدية لإنقاص الوزن بهدف الظهور بصورةٍ أفضل أمام الآخرين.
محاولة القمع قد تتحوّل في السنوات القادمة إلى أحد أنواع الاضطرابات النفسية كالاكتئاب والقلق الدائم وفقدان الأمان العاطفي والاجتماعيّ
بدايةً، يعدّ فهمك الجيّد لما يحدث في دماغ ابنتك المراهقة خطوةً مهمّة وضرورية لفهمك لها بطريقةٍ أفضل. إذ يخضع لدماغ في هذه المرحلة لوتيرة كبيرة من التغيير وإعادة الهيكلة ولا عجب من كلّ تلك التقلبات التي نمرّ بها الفتاة أثناءها. واحدة من أهم مناطق الدماغ الخاضعة للتغيرات هي قشرة الفصّ الجبهي “thalamus“، والمسؤولة عن العمليات المعرفية عالية المستوى والتي يتميّز بها الإنسان عن غيره من الحيوانات؛ كاتخاذ القرارات والتخطيط وحل المشكلات وقياس الأفعال والتمييز بين الصحيح والخاطئ والتفكير في العواقب، إضافةً إلى التفاعل الاجتماعي والتعاطف مع الآخرين، وتشكيل الوعي الذاتي. وبالتالي ليس من الصعب إذن استنتاج أنّ الوتيرة الكبيرة من التغيرات التي تحدث في ذلك الجزء من الدماغ تلعب دورًا ضخمًا في طريقة تفكير ابنتك وسلوكياتها.
ينصح خبراء الصحة النفسية الوالديْن بتعليم فتاتهما المراهقة بعدم الخوف من الفشل، فهو أمرٌ لا مفرّ منه بتاتًا
ولهذا السبب، قد تبدو الفتاة واثقةً بنفسها أحيانًا وفاقدةً للثقة أحيانًا أخرى، أو أنها بحاجة لوالديها في بعض الأوقات، وأوقاتٍ أخرى وكأنها لا تحتاج إلى أحد منهم. ولذلك، فهم الوالدين لكلّ تلك التغيرات وأساسها ونتائجها قد يكون حجر الأساس لطريقة تعاملهم مع ابنتهم المراهقة. إذ يمكنهم مساعدتها لتجاوز هذه المشكلة من خلال محاولة وضع ضغوط وتوتّرات هذه الفترة في نصابها، عن طريق التواصل الفعّال كأنْ تخصص الأم على سبيل المثال الوقت الكافي لمشاركة قصصها الخاصة وكيف أنها مرت بأوقات مربكة أو صعبة. فعندما تعلم الفتاة أنها ليست أو من يمرّ بهذه المرحلة، وأن الأمور ستتحسن مع الوقت، فغالبًا ما تبدأ حدة المشكلة بالخفوت.
كما ينصح خبراء الصحة النفسية الوالديْن بتعليم فتاتهما المراهقة بعدم الخوف من الفشل، فهو أمرٌ لا مفرّ منه بتاتًا، خاصّة مع فهمهم أنّ اللوزة الدماغية “amygdala” تكون نشطة جدًا في هذه المرحلة، وهي الجزء في الدماغ المسؤول عن الخوف. وبالتالي، حاول أنْ تجعل مخاوف ابنتك محطّ نقاشٍ لتساعدها على تحليلها وفهمها ومن ثمّ تجاوزها أو التخلص منها.
وقبل كلّ شيء، يجب على الآباء معرفة أنّ كل ما تتعرّض له ابنتهم المراهقة من خوفها المستمر من مظهرها أو ما يفكر فيه الناس من حولها أو من تحصيلها الدراسيّ أو من عدد الأشخاص الذين يحبّونها ويصادقونها، أو حتى عدد متابعيها على مواقع التواصل الاجتماعي، جميعها علاماتٍ طبيعية تحدث في هذه المرحلة، فإمّا أنْ يتمّ التعامل معها بعقلانية وتفهّم حتى يتمّ تجاوزها أو أنْ يتمّ إهمالها أو تعنيفها ومحاولة قمعها حتى تتحوّل في السنوات القادمة إلى أحد أنواع الاضطرابات النفسية كالاكتئاب والقلق الدائم وفقدان الأمان العاطفي والاجتماعيّ وغيرها الكثير.