وسط غرفة صفّية بأحد مراكز الإيواء في محافظة خان يونس جنوبي قطاع غزة، تقطن عائلة أبو عمشة النازحة من شمالي القطاع إلى جنوبه، والمكونة من 9 أفراد جُلّهم ينهش أجسادهم مرض السرطان الذي تكالب عليهم مع حرب الإبادة والتجويع، ليكون معهم ثالوثًا من القهر والوجع الذي يعانونه، لا سيما كبار السن منهم.
تخبر المواطنة فاطمة أبو عمشة، 33 عامًا وأمّ لـ 7 أبناء، “نون بوست” أنها لم تتلقَّ هي وعائلتها علاجهم منذ عام، فهي تعاني من سرطان في الرحم والثدي، ما ضاغف من معاناتها غياب مواد التنظيف في مركز الإيواء الخاص بهم، والذي تعرض في وقت سابق لقصف دمّره بشكل جزئي.
وتشير فاطمة إلى أنها خضعت لـ 7 عمليات في الرحم وتحتاج إلى علاج ومتابعة مستمرة، متمنية بعد مرور عام على الحرب أن تعود لشمال قطاع غزة وأن تحصل على علاجها.
تشاركها المعاناة ذاتها والدتها المسنة الحاجة انشراح أبو عمشة، 65 عامًا، حيث خضعت لعمليات استئصال الغدة والرحم، كما اشتكت صعوبة الظروف المعيشية، لا سيما أن قرابة الـ 5 أشخاص بالعائلة يعانون ويلات السرطان.
ضعف المناعة وندرة الغذاء
وتعاني الحاجة انشراح من ضعف في المناعة جراء انعدام الأكل الصحي من خضروات وفواكه ولحوم، وعدم تمكن العائلة من شرائه إن وُجد، بسبب ارتفاع الأسعار وضعف القدرة الشرائية، عقب فقدانهم مصادر رزقهم بسبب الحرب على غزة.
سرطان في القولون وسرطان بالعين وسرطان الثدي. تسرد الحاجة أبو عمشة أنواع الأمراض التي تنهش بجسد أبنائها، بالإضافة إلى زوجها الذي يعاني هو الآخر من سرطان في الجلد، وسط غياب واضح لكل مقومات الحياة التي قد تعين العائلة على محاربة السرطان أو تخفيف آلامه، فتكتفي بسلاحها الوحيد ألا وهو الصبر على المرض، ودعواتها بأن يكتب الله لهذه الحرب أن تنتهي وتعود لشمال غزة وتحصل على فرصة العلاج لها ولعائلتها.
بدورها، تروي ابتسام المدني لـ”نون بوست” تفاصيل إصابة طفلتها انشراح المدني، 17 عامًا، بسرطان العين بعد حرب 2008 على غزة بسبب استنشاقها الفسفور الأبيض، وبعد فحوصات ورحلة علاج طويلة كان محدد لها في 10 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي أن تسافر إلى تركيا لإجراء عملية جراحية في عينها وتلقيها العلاج اللازم، لكن الحرب حالت دون أن تباشر الطفلة السفر والعلاج.
وتضيف الأم أن ابنتها خسرت عينها اليسرى بسبب الورم السرطاني، حيث قالت إن العين قد سقطت أرضًا أمام أعيننا ومكانها فارغ، وأن الورم وزنه يزداد بشكل ملحوظ فيما تشتكي من ضعف بالنظر في العين اليمنى.
تعاني انشراح من نفسية صعبة وترفض الخروج من مكان نزوحها أو الاختلاط مع أطفال المخيم، وبحسب والدتها فإن علاج الطفلة غير متوفر في مشافي قطاع غزة، وأن كل ما يقدم لها في حالات التعب الشديد هي فقط بضعة محاليل ملحية ومسكنات بسيطة لا تسكّن وجعها.
وقد أفقدت الحرب الإسرائيلية على غزة والدة انشراح تحويشة العمر التي كانت تدخرها لكي تتمكن من السفر لعلاج ابنتها، بسبب قصف منزلها ونزوحها من الشمال للجنوب، فلم تستطع أخذ أي من مقتنياتها الشخصية.
ظروف قاهرة وغير إنسانية
من جهته، يقول مدير عام مستشفى الصداقة التركي، الدكتور صبحي سكيك، إن وضع مرضى السرطان خلال عام من الحرب على غزة ليس بأقل كارثية، بل هو أكثر كارثية من الوضع العام من الشمال إلى الجنوب.
وأضاف أن إغلاق الاحتلال للمعابر مع الدول المجاورة يفاقم معاناة وآلالام المرضى، إذ إن التأخير في حصولهم على فرصة العلاج يزيد من انتشار الخلايا السرطانية في باقي أنحاء الجسم، ما يتسبب في وفاة المرضى الذين ينتظرون سفرهم للعلاج، ويحكم على آخرين منهم بالموت البطيء.
أرقام وإحصائيات
وعن احصائيات مرضى السرطان، قال د. سكيك إن عدد ملفات المرضى تجاوز 17 ألف مريض في مشفى الصداقة التركي “مركز غزة للسرطان”، إضافة إلى 750 طفلًا مريضًا في مشفى الرنتيسي للأطفال، وكان عدد الأطفال المراجعين 170 مريضًا، بينما عدد المراجعين في المشفى التركي 10 آلاف مريض قبل السابع من أكتوبر 2023.
وأوضح سكيك أنه بعد 5 مايو/ أيار من هذا العام، جرى إصدار 1200 تحويلة طبية لسفر المرضى للعلاج خارج مشافي قطاع غزة، غادر منهم قرابة 450 مريضًا فقط فيما ينتظر البقية دورهم.
أما عن عدد الوفيات التي كان السرطان السبب المباشر فيها، فقد سجّلت الصحة الفلسطينية بغزة 500 حالة وفاة خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري، بينما عدد المرضى الذين في مشفى ناصر خلال الشهرين الماضيين حوالي 800 مريض، يتوفى منهم من 9 إلى 10 مرضى شهريًا، في مجمل الوضع كان يتوفى قبل الحرب على غزة قرابة الـ 700 مريض سنويًا من مرضى السرطان.
وتضاعف العدد بسبب الحرب المندلعة إلى ضعفين و3 أضعاف، وذلك نتيجة معاناتهم أيضًا من أمراض أخرى بجانب السرطان، وعدم تلقيهم العلاج، والمناعة الضعيفة، وانتشار المرض بباقي أنحاء الجسم.
وذكر سكيك أن هناك ما يقارب 2500 مريض مصاب بالسرطان داخل مخيمات النزوح غير مشخّصين بالمرض، لأن نسبة حدوث السرطان بغزة هي 93.01% أي 2000 مريض سرطان غير مشخصين بالإضافة إلى 10 آلاف مريض سُجّلوا قبل الحرب، بإجمالي 12 ألف مريض تقريبًا موزعين على محافظات قطاع غزة.
انهيار المنظومة الصحية
وتفاقمت معاناة المرضى مع توقف مستشفى الصداقة التركي، الواقع في منطقة الزهرة إلى الشمال من منطقة وادي غزة، عن العمل، إذ يعدّ المشفى الوحيد بقطاع غزة لعلاج مرضى السرطان، وذلك بعد استهداف “إسرائيل” للمشفى وأقسامه المختلفة ونفاد الوقود، وتعرضه لأضرار جسيمة بسبب تعرضه للقصف والتدمير.
وبعد عام من الحرب، أضحى النظام الصحي بالقطاع على حافة الانهيار ونفاد الإمدادات الطبية. ورغم الحاجة الماسّة لها فإن كمية المساعدات الإنسانية المسموح بدخولها حاليًا إلى غزة معدومة، لا سيما أن الاحتلال يفرض قيودًا كبيرة على المستلزمات والأجهزة الطبية للقطاع، ويمنع دخول الأدوية البسيطة كالمضادات الحيوية والمسكّنات.
ولدى سؤالنا عن مدى تأثير المتفجرات التي ألقتها “إسرائيل” على غزة خلال الحرب، قال د. سكيك إن الحروب الإسرائيلية وما تقذفه من أسلحة على مواطنين عزّل منذ عام 2008 حتى عام 2024 على طول عدة حروب ممتدة عاشها قطاع غزة، استخدمت فيها “إسرائيل” مئات أنواع الأسلحة والقذائف بما فيها أسلحة محرمة دوليًا، كشفت عدة أبحاث ودراسات احتواءها على مواد مشعّة، وهي أحد أهم الأسباب التي تؤدي إلى الإصابة بمرض السرطان خاصة أصحاب المناعة ضعيفة.
مع استمرار إغلاق المعابر وتصاعد الأزمة الإنسانية في غزة، بات مرضى السرطان ومنهم عائلة أبو عمشة محاصرين بين الحرب والمرض، لا علاج، لا أمل، ولا استجابة. ومع كل يوم يمرّ دون علاج، تتعمّق معاناتهم ويصبح الأمل في النجاة بعيد المنال، ليظل الصبر والتضرع هما السلاح الوحيد في مواجهة هذا الجحيم اليومي.