“رئيس الولايات المتحدة الصديق لروسيا”؛ بهذه الجملة يهاجم معارضو تحركات الإدارة الأمريكية الحاليّة، رئيسها ترامب، لكن عند النظر إلى الواقع، يُلاحظ أن الرئيس ترامب يُظهر غموضًا في توجهه حيال العلاقة مع الجانب الروسي، فمن جهة يُنسق معه في سوريا، ومن جهة أخرى يُظهر حياله حديةً في بعض الملفات الأخرى.
في 20 من أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ، خرج الرئيس ترامب بتصريحٍ يلوح فيه بتصعيد ضغوطه حيال روسيا، بالإشارة إلى احتمال الانسحاب من معاهدة الأسلحة النووية مُتوسطة المدى المُبرمة عام 1987، وبرر الرئيس ترامب خطوته، بالإشارة إلى أن موسكو لم تلتزم بالاتفاقية.
وبحسب ما ورد في الاتفاقية، فإن الطرفين يتعهدان بعدم صنع أو تجريب أو نشر أي صواريخ باليستية نووية متوسطة المدى، وتدمير منظومات الصواريخ التي يتراوح مداها المتوسط بين 1000 إلى 5500 كيلومتر، ومداها القصير ما بين 500 إلى 1000 كيلومتر.
ووفقًا لموقع سبوتنيك بالعربي، فإن المُعاهدة بين الطرفين دخلت حيز التنفيذ عام 1988، وبحلول مارس/آذار1991، تم تنفيذها بشكلٍ كامل، حيث دمر الاتحاد السوفييتي 1792 صاروخًا، ودمرت الولايات المتحدة 859 صاروخًا، وعند التمعن في طيات الاتفاقية، يُلامس أنها غير محددة بمدة معينة، ولا تسلب الطرفين حق الانسحاب بعد تقديم أدلة مُقنعة تُبيح الخروج.
إن السبب المباشر الذي تُقدمه الإدارة الأمريكية كدليل يسوغ لها التلويح بالانسحاب، إقدام موسكو على نشر منظومة صاروخية من طراز 9 إم، التي يتجاوز مداها 500 كيلومتر، بحسب ادعاء واشنطن التي رأت في ذلك انتهاكًا صارخًا للمُعاهدة
وردًا على الموقف الأمريكي، حذرت موسكو الإدارة الأمريكية بأن هذه الخطوة “خطيرة جدًا” سيكون لها ما بعدها، وصرح نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي ريابكوف، لوكالة تاس الروسية، بأن واشنطن لا تلتزم بالكامل بالمعاهدة، على العكس من موسكو التي تُبدي تجاوبًا كاملًا للمعاهدة، مشددًا على أن إدارة ترامب تستغل المعاهدة في محاولة لابتزاز موسكو، وأضاف ريابكوف أن بلاده لن ترضخ لسياسة الابتزاز، وستركن إلى الرد على هذه الخطوة، بتطوير قدراتها العسكرية التقنية، مستدركًا عدم رغبة بلاده في الوصول إلى هذه الخطوة، أما الجانب الألماني، فقد أعرب عن “فزعه”، داعيًا أوروبا إلى التدخل والحيلولة دون حدوث عملية الانسحاب.
وفي ظل تدافع التصريحات السياسية عن التلويح بالانسحاب من المعاهدة، يلوح في الأفق تساؤل مفاده: ما دوافع هذا التلويح؟ وما نتائجه المتوقعة؟
دوافع التلويح بالانسحاب من المعاهدة:
ـ خرق روسيا للاتفاقية:
إن السبب المباشر الذي تُقدمه الإدارة الأمريكية كدليل يسوغ لها التلويح بالانسحاب، هو إقدام موسكو على نشر منظومة صاروخية من طراز 9 أم، التي يتجاوز مداها 500 كيلومتر، بحسب ادعاء واشنطن التي رأت في ذلك انتهاكًا صارخًا للمُعاهدة.
ـ أمريكا أولًا وليس صداقة روسيا:
بالتعمن في التصريحات والخلفيات السياسية والفكرية والأمنية لشخصيات الإدارة الأمريكية، يمكن استقاء بعض دوافع الميل للانسحاب من الاتفاقية، تلك الشخصيات التي تتبنى فكرة الواقعية البشرية المُرتكزة إلى فكرة أنانية الإنسان الذي يُدير الدول، وبالتالي يسعى دومًا لأن يكون الأقوى على الساحة الدولية، ولأن الإنسان جُبل على الأنانية والغدر، لا بد للمؤسسات التي أُطلق عليها مجموعةً اسم الدولة، التي تُدير جماعة من البشر تحت سقفٍ يجمعهم وفقًا لمصالح مُشتركة، من إيلاء أهمية كبيرة للنظر في كل ما يكبح توجه هذه الدولة نحو تطوير قدراتها العسكرية والاقتصادية، لمواجهة الأطراف المنافسة الأخرى، والإبقاء على توازن قوى يضمن أحادية قطبها في الساحة الدولية دون قيود.
تشمل الاتفاقية واشنطن وحلفاءها وموسكو، ولا تشمل بكين، وبالتالي فإن بكين التي تخوض حلقات صراع محتدمة مع واشنطن
وربما تفكر بسيط بتصريح الرئيس ترامب ووزرائه ومستشاريه، يُمكن المُتفكر من تأكيد توجهه نحو تأسيس ما يُسمى “أمريكا أولًا” ذات الهيبة الدبلوماسية المُهيمنة على الساحة الدولية، بعيدًا عن ادعاءات وجود صداقة مُكتملة بين موسكو وواشنطن، لأن واشنطن تحكمها إدارة تتبنى أفكارًا تجعلها تؤمن إيمانًا عميقًا بضرورة التخلص من أي معايير قانونية، للتوجه نحو تسخير كل الجهود لحماية الأمن القومي، ومواجهة المؤامرات التي تُحاكم ضدها من الحلفاء قبل الأعداء.
لذلك لا بد من دخول سباق التسلح، ولا بد من التركيز على منح أي طرف فرصة التفوق العسكري، وما يؤكد عملية هذا الطرح، هو تصريح ترامب بأن “روسيا ـ التي وصفها بالغريمة في إستراتيجيته للأمن القومي ـ خالفت المُعاهدة، وعليه لن تبقى إدارته مكتوفة الأيدي حيال الأمر”، فلا صداقة وثقة على الساحة الدولية، بل صراع وتنافس دائمين.
ـ فقدان الدول العُظمى الإلمام بكل الأمور على الساحة الدولية:
أيضًا، تنبع هذه الفكرة من نظرية الواقعية، فلا يوجد دولة، مهما بلغت قوتها، قادرة على ضبط سلوك دولة أو دول أخرى، وعليه، يُستشف من تصريحات ترامب وإدارته، وجود تخوف لديهم من عدم الثقة بالمُعاهدة التي لا توفر لهم آلية يدركون من خلالها كيف تتصرف الدولة الأخرى ـ روسيا ـ بالكامل حيال المُعاهدة وشروطها.
لذلك يميلون لسيناريو سلبية التزام روسيا بالمُعاهدة، وبالتالي يلوحون بالخروج من المُعاهدة، رغبةً في تقوية جوانب العون الذاتي الذي يوفر حماية أوسع للأمن القومي، وحذروا من المؤامرة التي قد تظهر للسطح من خلال عدم إيفاء روسيا، ولعل ضغط مستشار الأمن القومي جون بولتون الذي يوصف بأنه أحد الأقطاب المهمة “لصقور المتشددين للأمن القومي الأمريكي”، على الرئيس ترامب للانسحاب من المُعاهدة، وجنوحه لإعاقة المفاوضات بشأن توسيع معاهدة “ستارت الجديدة” للحد من الأسلحة الإستراتيجية الهجومية التي ينتهي العمل بها عام 2021، يشكّل دليلًا واضحًا على التوجه الأمني المُتشدد للإدارة الأمريكية حيال جميع الأمور الفاعلة على الساحة الدولية، بما فيها تلك المُتعلقة بالحفاظ على روح الاستقرار الإستراتيجي على الساحة الدولية.
ميل واشنطن لتقديم مساعدات ترومان بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أسس لإستراتيجية الاحتواء والتطويق للنفوذ السوفياتي
كما أن بولتون عمل في إدارتي الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، المتعاقبتين، ما يعني أنه بصدد المحاولة لاستكمال مشواره في رفع القيود عن القدرات العسكرية الأمريكية، فقد كان له دور فاعل في انسحاب واشنطن من مُعاهدة الصواريخ المضادة للباليستية عام 2001.
ـ الحسم الصفري:
وبتبني ترامب وإدارته للأفكار المذكورة أعلاه، يظهر، بشكلٍ جليِ، ركونهم لمسار التلويح الدائم بالحسم الصفري لملفات علاقة بلادهم مع الآخرين، للظفر بأعلى مستوى من المكاسب في حال حدث إمكان للجلوس على طاولة المفاوضات أو لم يحدث.
ـ مواجهة المنافسين الآخرين:
تشمل الاتفاقية واشنطن وحلفاءها وموسكو، ولا تشمل بكين، وبالتالي فإن بكين التي تخوض حلقات صراع محتدمة مع واشنطن، قد تتجه نحو تطوير الأسلحة النووية المُتوسطة المدى، وعلى الأرجح، هذا ما يدفع الإدارة الأمريكية للنظر في آلية للتخلص من المُعاهدة أو تعديلها على نحوٍ لا يكبلها بقيود شديدة.
النتائج المُتوقع:
لا ريب في أن مجرد التلويح بالانسحاب من مُعاهدات كبحت التنافس بين أقطاب العالم، يولد نتائج سلبية يمكن تصورها على النحو التالي:
ـ سباق تسلح:
لقد ولد انعدام مُعاهدات تقييد التطوير العسكري، لحالة شديدة من سباق التسلح خلال فترة ما بين الحربين العالمية الأولى والثانية، وبعد الحرب العالمية الثانية وحتى ثمانينيات القرن الماضي، والتحدي يولد تحديًا، لذلك قد يؤدي الانسحاب الأمريكي، إلى إعادة إحياء روح سباق التسلح، لا سيما في ظل وجود توجه من حلفاء واشنطن من تنويع مجالات تعاونها العسكري وفق معادلة قد تشمل التعاون مع موسكو وبكين، بعيدًا عنها، ولعل ميل أثينا وأنقرة للتعاون عسكريًا مع روسيا أوضح مثال على ذلك.
تتبنى إدارة ترامب شعار “أمريكا أولًا” الذي يعني إقامة دولة عُظمى تحسم جميع ملفاتها بمعادلة صفرية تحقق المكاسب الأكبر لها على حساب الأطراف الأخرى
ـ توجه أوضح نحو تعدد القطبية:
إن ميل واشنطن لتقديم مساعدات ترومان بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أسس لإستراتيجية الاحتواء والتطويق للنفوذ السوفياتي، وهذا ما أدى لنشوب تنافس بين الطرفين؛ الأمريكي السوفياتي، وبالتالي ظهر للسطح عالم ثنائي القطبية، وتسير إدارة ترامب تجاه خصومها على ذات الدرب المُتبع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وعليه قد يظهر للسطح عالم متعدد القطبية تُشكل واشنطن وبكين وموسكو أركانه المتنافرة، والمتنافسة بقدرات عسكرية واقتصادية ودبلوماسية متفاوتة.
في الختام، تتبنى إدارة ترامب شعار “أمريكا أولًا” الذي يعني إقامة دولة عُظمى تحسم جميع ملفاتها بمعادلة صفرية تحقق المكاسب الأكبر لها على حساب الأطراف الأخرى، لكن في ظل تفاوت القدرات الاقتصادية والأمنية والثقافية والعسكرية للدول المتنافسة على الساحة الدولية، يبدو أن تحالف الدول المُتنافسة ضد تحرك الولايات المتحدة في ميادين متعددة حول العالم، قد يضطر الإدارة الأمريكية للتراجع عن بعض تحركاتها.