“أين الجنرال قاآني؟”.. تحت هذا العنوان طالب موقع “تبناك” الإخباري المقرب من الدوائر الأمنية في طهران، السلطات الإيرانية بتقديم توضيح بشأن اختفاء قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، إسماعيل قاآني، الذي غاب عن الأضواء منذ استهداف الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله نهاية سبتمبر/أيلول الماضي.
تساؤلات عدة وجدل كبير داخل إيران وخارجها حول تضارب الأنباء بشأن مصير قاآني، الذي كان في مهمة إلى الضاحية الجنوبية في بيروت للقاء القيادي هاشم صفي الدين بمقر استخبارات “حزب الله” اللبناني، ليختفي بعدها وينقطع الاتصال معه، وسط شكوك عن إصابته جراء القصف الإسرائيلي للضاحية الأسبوع المنقضي، كما أعلنت عائلته عدم معرفتها بأي تفاصيل عن حالته أو مكان وجوده، ما يزيد من الغموض المحيط بمصيره.
ويعد قاآني الرجل الأول في فيلق القدس والمسؤول الأبرز عن إدارة حلفاء طهران شبه العسكريين في أنحاء الشرق الأوسط، وفي مختلف دول العالم، ما يجعل غيابه بهذه الطريقة مثار تساؤل وجدل كبير، ليس في الداخل الإيراني فقط، في ظل تساقط قيادات الصف الأول في طهران وأذرعها وحالة الارتباك والخلل التي تعاني منها المنظومة الأمنية الإيرانية.. فماذا نعرف عن خليفة قاسم سليماني؟
غياب يثير الشكوك
غاب قائد فيلق القدس عن العديد من المناسبات خلال الأسبوع الأخير، بعضها شارك فيها المرشد الإيراني، وهو الغياب الذي أثار الكثير من الشكوك والتساؤلات كونه حدثًا غير تقليدي و ظاهرة نادرة الحدوث:
– لم يظهر قبيل ولا في أثناء ولا عقب الضربة الإيرانية ضد الكيان المحتل في الأول من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، والمعروفة إيرانيًا بـ”الوعد الصادق 2″، رغم تبني الحرس الثوري التابع له فيلق القدس الذي يتزعمه قاآني، تلك العملية التي احتفت بها السلطات الإيرانية بشكل كبير.
– لم يحضر ولم يشارك في خطبة الجمعة التي حضرها المرشد الإيراني علي خامنئي في 4 أكتوبر/تشرين الأول وشارك خلالها في مراسم تأبين نصر الله، رغم حضور كبار القيادات العسكرية والسياسية في الدولة الإيرانية.
– غاب عن مراسم منح المرشد الإيراني، وسام “فتح” لقائد القوات الجوية للحرس الثوري، أمير علي حاجي زاده، أمس الأحد بعد إشرافه على الضربة الصاروخية ضد “إسرائيل”، التي حضرها كذلك لفيف من قيادات النخبة السياسية والعسكرية.
– غاب عن احتفال رسميّ في طهران يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2024، وقُرأت رسالة منسوبة إليه يعتذر فيها عن حضوره “لأن لديه اجتماع مهم”.
📹 خبر رسمی سلامتی سردار #قاآنی
فرمانده نیروی قدس سپاه به مراسم سالگرد عملیات «طوفان الاقصی» نامهای ارسال کرد pic.twitter.com/kFEGOxrFzP
— خبرگزاری تسنیم 🇮🇷 (@Tasnimnews_Fa) October 7, 2024
قُتل أم أصيب؟ جدل لم يُحسم بعد
حسبما نقلت وكالة “رويترز” عن مسؤولين أمنيين إيرانيين كبيرين فإن الاتصال بقائد فيلق القدس، فُقد منذ تعرض بيروت لضربات إسرائيلية الأسبوع الماضي، وعليه فلا معلومات متوفرة عن مصيره بشكل دقيق، وهو ما أحدث تضاربًا في الأنباء بين قتله وإصابته.
الفريق الأول يشير إلى احتمالية إصابته إصابة خطيرة، خلال استهداف سيارته ليلة الخميس 3 أكتوبر/تشرين الأول، في طريقه إلى الاجتماع مع القيادي بـ”حزب الله” هاشم صفي الدين لبحث ترتيب المشهد الحزبي في أعقاب اغتيال نصر الله، حسبما نقل “عربي بوست” عن مصدر مطلع في فيلق القدس.
المصدر أضاف أن “سيارتين كانتا تتبعان الجنرال إسماعيل قاآني لتأمين طريقه إلى الضاحية الجنوبية، وهما من قاما بإنقاذه ونقله إلى مكان آمن بعد إصابته”، لافتًا إلى أنه في العناية المركزة الآن في مكان آمن.
وفي الجهة المقابلة هناك من يقول، نقلًا عن مصدرين أمنيين آخرين في طهران أيضًا، أحدهما مسؤول في استخبارات الحرس الثوري، إن قائد فيلق القدس قُتل، وأن القوة المؤمنة له أكدت انفجار سيارته ومقتل من كان فيها بالكامل، مؤكدين أن نسبة قتله ومرافقيه وسائقه تتجاوز الـ70%، وأن الفيلق والحزب لم يتمكنا من انتشال جثامينهم حتى الآن.
وأمام هذه الجدل بين الإصابة والقتل، نفى عضو لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني، عباس غلرو، كل الأنباء الواردة في هذا الشأن، التي وصفها بـ”الشائعات”، مؤكدًا أن قاآني بخير، مضيفًا: “أؤمن أن الحرس الثوري سوف يبدد المخاوف من خلال الإدلاء ببيان حول هذه القضية”، فيما أكدت مصادر من داخل الفيلق أنه بخير ويباشر عمله.
وهنا تساؤل يفرض نفسه: إذا كان قاآني بخير أو قُتل فلماذا لا يصدر الحرس الثوري بيانًا يؤكد فيه ذلك ويكشف فيه الحقائق بشكل واضح ويزيل حالة اللغط والجدل المثارة حاليًا؟ وهو الصمت الذي يثير الريبة ويمنح الشكوك فرصة كبيرة للتمدد والانتشار.
صمت مريب و3 احتمالات
أرجع مراقبون هذا الصمت بشأن مصير قاآني إلى 3 احتمالات:
الأول: أن يكون قُتل بالفعل، وهنا يفضل الإيرانيون عدم الإفصاح عن ذلك خشية تداعيات هذا الأمر على معنويات عناصر الحرس وفصائله، وعلى الجبهة الداخلية وحلفاء طهران الإقليميين، وحفاظًا على سمعة الاستخبارات الإيرانية بعد سقوط العشرات من كبار قادتها خلال الآونة الأخيرة، وحتى لا تمنح الاحتلال فرصة الاحتفاء بانتصار جديد على حساب المنظومة الأمنية الإيرانية.
الثاني: أن يكون قد تعرض لإصابة، بسيطة أو بالغة، وعليه فإخفاء مكانه بعيدًا عن الأنظار قد يكون الحل الأفضل للحفاظ على حياته التي حتمًا ستكون مهددة إذا ما تم الكشف عن مكانه أو الإعلان عن أنه لا يزال على قيد الحياة، ليبقى الأمر قيد الجدل والتأرجح وتضارب الأنباء حتى توفير الضمانات اللازمة لحمايته.
الثالث: أن يكون خاضعًا للتحقيق، رفقه العديد من القيادات الأمنية الإيرانية، وهو ما يتسق نسبيًا مع التسريبات التي تشير إلى توبيخ المرشد الإيراني له بسبب الإخفاقات الأمنية التي وقع فيها الفيلق تحت قيادة قاآني، وتسببت في اغتيال العديد من قادته، خاصة أن الشركة التي استوردت أجهزة الاتصالات “البيجر” التي انفجرت في لبنان كانت ضمن نطاق اهتمام ومسؤولية الفيلق، الذي يتولى مهمة التنسيق بين طهران و”حزب الله” وباقي قوى محور المقاومة، وفق ما أشارت مصادر مطلعة.
شكوك حول التجسس
منذ بداية حرب غزة وتتعرض طهران ومحورها لضربات استخباراتية قاصمة على أيدي جيش الاحتلال، سقط فيها كبار القادة والجنرالات، كشفت عن حالة اختراق فاضح للمنظومة الأمنية الإيرانية، الأمر الذي أثار الكثير من التساؤلات بشأن تورط قيادات كبيرة في التجسس لصالح الموساد الإسرائيلي.
ويرى أنصار مثل تلك التساؤلات أن معلومات الوشاية بأماكن اختفاء واجتماع أسماء بهذا الثقل السياسي والأمني والتي تم استهدافها من الكيان المحتل وفق معلومات حصل عليها من مصادره الخاصة، حسب تصريحاته الرسمية، لا يمكن أن تخرج إلا من مصدر قيادي مطلع وعلى مقربة من دوائر صنع القرار وعلى دراية تامة بمثل تلك المعلومات الحيوية التي تعد في مثل تلك الظروف أسرارًا عسكرية.
ورغم عدم وجود اتهام مباشر لقائد فيلق القدس بشأن تورطه في هذا الأمر، فإن السياق العام يضعه في مرمى الاتهام وفق عدد من المؤشرات، على رأسها اعتذاره عن الاجتماع الذي استُهدف فيه نصر الله وعدد من قيادات الحزب والفيلق معًا، رغم تقديمه وعدًا بالحضور قبل ذلك.
البعض ربط اختفاءه عن المشهد وغيابه عن عدد من الأحداث المهمة على الساحة الإيرانية بخضوعه للاستجواب وربما وضعه قيد الإقامة الجبرية لحين انتهاء التحقيقات معه في مثل تلك الاتهامات، فيما ذهبت توقعات أخرى إلى أن الاختراق الإسرائيلي ليس شرطًا أن يكون عن طريق قاآني وإنما قد يكون عن طريق مدير مكتبه، إحسان، الذي كان مقررًا له أن يرافقه في الاجتماع الذي لم يحضره.
قد يكون من السابق لأوانه التيقن من صدق اتهامات التخابر مع الموساد، لكن وفي ظل المشهد الملبد بغيوم الفوضى والارتباك، وصراعات النفوذ بين القيادات الإيرانية، والشروخات التي تعاني منها المنظومة الأمنية في طهران، والأجواء الرخوة التي تخيم على الساحة السياسية والأمنية، فإنه ليس هناك من مستبعد ولا مستحيل.
ماذا نعرف عن قاآني؟
– التحق قاآني المولود في مدينة مشهد (شمال شرق إيران) في أغسطس/آب 1958، بصفوف الحرس الثوري في خراسان في العشرينيات من عمره، ثم انتقل إلى طهران لتلقي الدورات التدريبية هناك أوائل عام 1981.
– شارك في الحرب العراقية الإيرانية وتولي قيادة فرق كبيرة في أثناء الحرب، ثم عينه قائد الحرس الثوري – آنذاك – محسن رضائي، نائبًا للوحدة الثامنة لعمليات القوات البرية للحرس، ثم نائبًا لقائد فيلق القدس الذي كان يقوده وقتها قاسم سليماني.
– تولي إدارة شئون الفيلق في الخارج، وقيادة الفرقتي (5) و(21) بالحرس الثوري، حيث أشرف على العديد من العمليات التي نفذها الحرس في بعض دول الشرق الأوسط، وفي عام 2012 وضعته وزارة الخزانة الأمريكية على لائحة العقوبات الخاصة بها.
– عينه المرشد الإيراني في 3 يناير/كانون الثاني 2020 قائدًا لقوة الفيلق بعد مقتل الجنرال قاسم سليماني في غارة جوية أمريكية بطائرة مسيرة دون طيار بالقرب من مطار بغداد الدولي.
– تعهد عندما تولي منصبه بطرد القوات الأمريكية من الشرق الأوسط ثأرًا لمقتل سليماني، حيث قال قبل انطلاق مراسم تشييع جنازة سليماني في طهران “نعد بمواصلة طريق الشهيد سليماني بالقوة نفسها.. والتعويض الوحيد لنا هو إخراج أمريكا من المنطقة”.
– لا يحب الظهور الإعلامي كثيرًا، حيث أجريت معظم الاجتماعات واللقاءات التي عقدها وشارك فيها بشكل سري، كما كان التعتيم هو السمة الأبرز لزياراته الخارجية، وهو ما جعله شخصية غامضة لدى الكثير من المتابعين.
– لفت سياسيون وعسكريون مقربون من قاآني إلى أنه لم يحظ قط بالاحترام نفسه الذي حظي به سلفه سليماني، ولم يتمتع بعلاقاته الوثيقة بين حلفاء إيران في العالم العربي، وهو ما أثر بشكل أو بآخر في أدائه خلال الأعوام الأربعة الماضية.
– شهد فيلق القدس تحت إدارته العديد من الاختراقات الأمنية من الاستخبارات الإسرائيلية، فيما تعرضت أذرع طهران في المنطقة لضربات مؤلمة في عهده، وهو ما تسبب في إحداث فجوة كبيرة بينه وبين المرشد الإيراني الذي لفتت وسائل إعلام إلى أنه عنفه بشدة بسبب تلك الاختراقات.
وحتى الإعلان الرسمي من السلطات الإيرانية عن مصير قائد فيلق القدس، تبقى كل الاحتمالات قائمة، خاصة في ظل السوابق السوداء للاستراتيجية الإيرانية في التعاطي مع مثل تلك التساؤلات الجدلية، ويبقى في النهاية – أيًا كان الاحتمال الحقيقي – ما حدث حلقة جديدة في سلسلة تساقط قطع الشطرنج الإيرانية.