“لو كنت أحد سكان عاصمة عُمان الساحلية مسقط، فإنك في الغالب ستقود سيارتك في شارع السلطان قابوس، وتمر بمسجد السلطان قابوس الكبير كما بميناء السلطان قابوس، وقد تكون خريج جامعة السلطان قابوس، وتشاهد مباراة كرة قدم في مجمع السلطان قابوس الرياضي، قبل أن تعود لبيتك في مدينة السلطان قابوس أحد أحياء العاصمة“.
هكذا علَّقت مجلة “الإيكونومست” في أحد مقالاتها لاختصار واقع فيه السلطان قابوس الرجل الوحيد في سلطنة عُمان، التي ارتبط اسمها به ليشكلا كيانًا واحدًا، فهذا الرجل جمع كل مقاليد الحكم بشكل مطلق في يده، فهو سلطان البلاد ورئيس الوزراء ورئيس المجلس الأعلى للتخطيط والقائد الأعلى للقوات المسلحة ووزير الدفاع ووزير المال ووزير الشؤون الخارجية ورئيس البنك المركزي.
عاد رئيس الوزراء نتنياهو وزوجته قبل قليل إلى “إسرائيل” في ختام زيارة رسمية قاما بها إلى سلطنة عُمان حيث التقى رئيس الوزراء السلطان قابوس بن سعيد.
هذا ووجه السلطان قابوس دعوة إلى رئيس الوزراء نتنياهو وزوجته للقيام بهذه الزيارة في ختام اتصالات مطولة أجريت بين البلدين. pic.twitter.com/qAzn2a48Qu
— بنيامين نتنياهو (@Israelipm_ar) October 26, 2018
هذا الواقع أيضًا جعل السلطنة مهبط الدول التي بينها خصومات في المنطقة، وقد كان لقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بالسلطان قابوس يوم الخميس الماضي آخرها، فهذه الزيارة التي تندرج في إطار التطبيع العلني مع الاحتلال الإسرائيلي، تأتي بعد زيارة أداها الرئيس الفلسطيني محمود عباس الإثنين الماضي، التقى خلالها السلطان قابوس في مسقط، حيث تباحثا عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية المتوقفة منذ 2014.
الرقص على الحبال دون أن يسقط
يبدو أن زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي مثال آخر على الدور الإستراتيجي الذي تلعبه السلطنة من وراء الكواليس، وهي الزيارة الثالثة لرئيس وزراء إسرائيلي لعمان بعد زيارة أولى لإسحاق رابين عام 1994، وأخرى بعدها بعامين لشمعون بيريز، لعل ذلك ما دفع إيران لانتقاد السلطنة، معتبرة أن استقبال نتنياهو بعد هذه المدة الطويلة بعيد كل البعد عن حكمة السلطان قابوس.
بحسب صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، فإن زيارة نتنياهو إلى سلطنة عُمان يمكن أن توفر قناة اتصالات خلفية مع بعض أعداء “إسرائيل” في المنطقة، لا سيما إيران
وبحسب صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، فإن زيارة نتنياهو إلى سلطنة عُمان يمكن أن توفر قناة اتصالات خلفية مع بعض أعداء “إسرائيل” في المنطقة، لا سيما إيران، فموقع سلطنة عمان في شبه الجزيرة العربية، جعلها تحتفظ بعلاقات ودية مع الدول التي بينها خصومات في المنطقة مثل إيران والسعودية.
وعن طريق هذه السياسة الناعمة، كان قابوس – الذي تستمر أحوال صحته ومصير السلطنة من بعده في إثارة التكهنات – قد جنب بلاده الصراعات في منطقة مشتعلة، ولم يظهر انحيازًا لطرف دون آخر، وهو عضو مؤسس وأساسي في مجلس التعاون الخليجي، لكنه شريك إيران وحليف الولايات المتحدة وبريطانيا.
ومنذ توليه الحكم أصبح قابوس “المحايد” في كثير من المواقف، فبعد يومين من قطع دول خليجية وعربية علاقاتها مع قطر، قام الوزير العماني يوسف بن علوي بزيارة سريعة للكويت والتقى الأمير الكويتي الذي أعلن جهودًا يبذلها لتقريب وجهات النظر بغية الوصول إلى حل سريع، كذلك زار وزير الخارجية السعودي عادل الجبير مسقط والتقى يوسف بن علوي، في حين لم يصدر أي تعليق عن تدخل عماني لحل الأزمة الراهنة.
ورغم أن السعودية والإمارات لم تقطع أي منهما علاقتها بعُمان، فإن مبررات مسقط للانحياز نحو قطر تبدو واضحة؛ فعُمان في نظر السعودية ارتكبت أخطاءً ربما أكثر من الدوحة؛ فهي رفضت علانية إنشاء الاتحاد الخليجي، وألمحت بصورة غير مباشرة إلى إمكانية خروجها من مجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى اعتذارها عن استضافة القمة.
وعلى الصعيد اليمني، كان قابوس قد امتنع عن المشاركة في عاصفة الحزم التي أطلقها مجلس التعاون لاستهداف الحوثيين في اليمن، ورفضت السلطنة الانضمام إلى التحالف العسكري بقيادة السعودية في حرب اليمن، وذهبت إلى أبعد من ذلك حيث طلبت من الولايات المتحدة حث السعودية على فتح باب التفاوض، وهذا ما حصل بعد مدة.
رفضت مسقط الانحياز نحو دول الحصار
ساهم موقف السلطنة من التحالف الخليجي وحرب اليمن بتعزيز الشكوك الخليجية بشأنها، وتعرضت لانتقاد في الصحافة الخليجية، إلا أن السلطنة اعتبرت وقتها أن الموقف العماني تكملة لسياستها الخارجية التي عرفت بالحياد الدائم الذي اتخذته شعارًا لها في مواقفها الرسمية.
لكن خطوات السلطنة الفعلية كانت أبعد من ذلك بكثير، ففي خطوة غير متوقعة للدولة التي انسحبت في السابق بطريقة حيادية مبررة، جاء قرار مسقط بالانضمام لتحالف الرياض الذي يحمل اسم “التحالف الإسلامي العسكري لمواجهة الإرهاب”، ليحمل أكثر من دلالة، أهمها استعداد عُمان لتحول سياسي وعسكري واقتصادي نحو الغرب، وأن السعودية أصبح لها اليد العليا في المنطقة.
ليس مبدأ الحياد وعدم التدخل موضوعًا طارئًا على السياسة الخارجية العمانية، فلها باع طويل في هذا المضمار، والأمثلة كثيرة، فخلال حرب العراق وإيران سنة 1980، بقيت عمان على الحياد ورفضت استعمال أراضيها لقصف إيران.
ليس مبدأ الحياد وعدم التدخل موضوعًا طارئًا على السياسة الخارجية العمانية، فلها باع طويل في هذا المضمار، والأمثلة كثيرة
وبعد توقيع اتفاقية “كامب ديفيد” بين “إسرائيل” وأنور السادات، كانت سلطنة عمان الدولة العربية الوحيدة التي لم تقطع علاقتها مع مصر، دون أن يؤثر ذلك على علاقتها بالدول العربية الأخرى، إلى جانب مساهمتها بالتدخل الإيجابي في الكثير من قضايا المنطقة، ما بين سوريا واليمن وليبيا، فكانت طرفًا حياديًا لا شريك في المشكلة.
كل الخصوم يجتمعون على أرضه
سويسرا الشرق الأوسط ونرويج الخليج وجنيف العالم العربي، هكذا بات يطلق على عمان في عهد السلطان قابوس، فهي الوجهة الآمنة لتسوية عمليات السلام في المنطقة، والوسيط الأهم دائمًا في كل المشاكل الإقليمية، بداية من الصراع الخليجي الإيراني، مرورًا بالملفات الجزئية مثل الملف اليمني، وصولًا إلى الصراع الإيراني الغربي.
تحت حكم قابوس تحولت السلطنة إلى لاعب مستقل ومتزن في السياسة الخارجية، جمع أعداء كثر إلى طاولته
هذه الأوصاف ليست بسبب استحواذ السلطنة على بنوك عالمية وأرصدة أو احتياطات بالمليارات، إنما لامتلاكها موقفها الحيادي الذي دأبت على انتهاجه، حتى أضحت الدبلوماسية العُمانية محطة واضحة للجميع، تعمل على مد الجسور بين الأطراف وتجمع بين التناقضات وترص صفوفها دائمًا للبحث عن حلول على المستوى الإقليمي أو العالمي، وهو ما ميزها عن محيطها وامتدادها الخليجي.
وتحت حكم قابوس تحولت السلطنة إلى لاعب مستقل ومتزن في السياسة الخارجية، جمع أعداء كثر إلى طاولته، فمنذ 2011 رعت السلطنة مفاوضات سرية بين أمريكا وإيران التقى فيها المفاوضون الإيرانيون والأمريكيون في مسقط برعاية مباشرة من السلطان قابوس، أُعلن بعضها لكن بقي الجزء الأكبر منها في طي الكتمان.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2013 تم التوصل إلى الاتفاق النووي الشهير في جنيف بين دول 5+1 (أي مجموعة الدول الـ5 دائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا) وإيران، وقد بدا الدور العماني واضحًا كوسيط للتفاوض في عملية الاتفاق.
وكنوع من الاعتراف بالجميل من إيران، زار الرئيس روحاني السلطنة في سنة 2014، وكان قابوس أول رئيس عربي يزور روحاني، كما توسط لإطلاق سراح معتقلين لدى الجانبين الأمريكي والإيراني، فضلًا عن اتفاقيات التعاون الأمنية العديدة التي تربط السلطنة بإيران.
كانت عُمان الدولة الخليجية الوحيدة التي لم تقطع علاقاتها مع دمشق
أما في سوريا، فهي الدولة الخليجية الوحيدة التي لم تقطع علاقاتها مع دمشق بعد أن قطعت معظم الدول العربية العلاقات مع النظام السوري، ولعبت دورًا حيويًا في التخفيف من الصراع من خلال مفاوضات وقف إطلاق النار وتنظيم العديد من اللقاءات السرية بين كل الفاعلين في الأزمة السورية في مسقط، فقد استقبل وزير خارجيته وليد المعلم، وفي نفس الوقت لم يتردد في استقبال المعارض خالد خوجة.
وخلال الأزمة اليمنية حاولت عمان أقصى جهودها لتجنب التصعيد اللفظي، وواصلت في الوقت نفسه مسعاها لتحرير رهائن سعوديين من قبضة الحوثيين، وساهمت كذلك سنة 2015 في تحرير عدد من الرهائن الغربيين، عبر معرفة عُمان الدقيقة بالساحة السياسية اليمنية وصلاتها بالقبائل، ومن بينها قبائل منخرطة في تنظيم القاعدة في جزيرة العرب.
رغم جهود الوساطة تبقى قليلة هي إطلالات الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية العمانية يوسف بن علوي، ولكنها دائمًا إشارة للملفات التي تهتم بها السلطنة وتأكيد على نهجها الدبلوماسي
وفي بداية عام 2016، بدأت السلطنة بوساطة جدية لحل الأزمة الليبية وتقريب وجهات النظر بين الفرقاء الليبيين، وعلى مدى 3 أسابيع استقبلت الأطراف الليبية وتم التوصل إلى مسودة دستور ليبي، وقالت الخارجية العمانية وقتها “مجرد اجتماع الأطراف المتنازعة أمر إيجابي”.
ورغم جهود الوساطة تبقى قليلة هي إطلالات الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية العمانية يوسف بن علوي، ولكنها دائمًا إشارة للملفات التي تهتم بها السلطنة وتأكيد على نهجها الدبلوماسي، ففي مقابلة مع قناة “CNN” الأمريكية سنة 2015، لخص ابن علوي سياسية بلاده الخارجية في قوله: “نحن لا ننحاز لهذا الجانب أو ذاك، بل نحاول أن ننقل لكلا الطرفين ما نعتقد أنه جيد لكليهما”.
قابوس “الوحيد”.. صديق الكل وعدو لا أحد
هكذا وصف موقع “ستراتفورد” الأمريكي سلطنة عُمان، فهي تتمتع بعلاقات دبلوماسية قوية مع الولايات المتحدة الأمريكية، كما تربطها في الوقت نفسه علاقات جيدة مع السعودية وإيران، الدولتان اللتان لا يعرف أطرافهما سوى الولاء الكامل أو العداوة الكاملة.
كل تلك الأطراف المتصارعة لا تجتمع إلا على علاقات دافئة بقابوس
في تلك المنطقة الملتهبة استطاع قابوس أن يصبح حليفًا إستراتيجيًا للولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، وكذلك عضوًا مؤسسًا ورئيسيًا في مجلس التعاون الخليجي، والأغرب من ذلك أن يحافظ مع هذا كله على شراكته الكبيرة مع إيران، هذا بالإضافة إلى العلاقات الاقتصادية والتجارية العميقة مع بقية أجزاء آسيا وعلى رأسها الصين والهند وباكستان.
إيران وأمريكا والسعودية، كل تلك الأطراف المتصارعة لا تجتمع إلا على علاقات دافئة بقابوس، لكن التقارب العُماني الإيراني هو الموضوع الأكثر تعقيدًا في الحديث عن السلوك السياسي للسلطنة التي تربطها علاقات ممتازة مع إيران بعكس معظم دول الخليج، ولطالما أثار الرابط الممتاز مع إيران جدلًا واسعًا لدى دول الخليج.
الوضع كذلك بالنسبة لأمريكا، فمع تكثيف الإدارة الأمريكية ضغوطها على حلفائها لوقف عمليات شراء الإمدادات النفطية من إيران بالكامل، لاقت هذه القرارات احتفاءً خليجيًا، وبالأخص من جانب السعودية والإمارات، لكن عُمان لم تعبأ بهذه التهديدات، فكانت النافذة الخليجية الوحيدة للاستيراد من طهران، والاستثناء من بين دول الخليج كافة التي لم تعلق استيرادها للنفط الإيراني.
بالتوازي مع تهديدات ترامب بملاحقة أي علاقة ثنائية مع طهران، نمت العلاقات ذاتها بين إيران وعُمان عبر اجتماعات ثنائية جمعت مسؤولي البلدين على مدار العام الماضي
وبالتوازي مع تهديدات ترامب بملاحقة أي علاقة ثنائية مع طهران، نمت العلاقات ذاتها بين إيران وعُمان عبر اجتماعات ثنائية جمعت مسؤولي البلدين على مدار العام الماضي، وعلى الصعيد الاقتصادي توجد روابط شديدة القوة بين البلدين؛ إذ يُقر التبادل التجاري بينهما بنحو مليار دولار سنويًا.
انعكاسات هذا التحول الأمريكي في النظر لدور عُمان كبانية للجسور وقناة دبلوماسية خلفية، ترتب عليه بالتبعية تحريض سعودي إماراتي بشكل صامت تمثل في عدم إدراج عُمان في أي زيارة خارجية لولي العهد السعودي محمد بن سلمان خلال العامين الأخيرين، فضلًا عن توتر ملموس بين الإمارات وعُمان تمثل في النزاع بينهما في المسألة اليمنية، خصوصًا أن هذا النزاع جاء بعدما كشفت عُمان شبكة من الجواسيس تعمل لصالح الإمارات العربية المتحدة، وكانت مهامها تتمثل في التجسس على الحكومة والجيش العُماني.