“يا أهلنا في الداخل المحتل… في النقب والجليل والمثلث، في يافا وحيفا وعكا واللد والرملة. أشعلوا الأرض لهيبًا تحت أقدام المحتلين الغاصبين، قتلًا وحرقًا وتدميرًا وإغلاقًا للطرقات، وأفهموا هذا المحتل الجبان أن طوفان الأقصى أكبر مما يظن ويعتقد…”، كانت هذه الكلمات من نداء الطوفان، الذي جاء على لسان محمد الضيف القائد العام للقسام صباح يوم السابع من أكتوبر.
شمل نداؤه الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948، مستنفرًا إياهم، وفق تصور يقوم على ما قام به فلسطينيو الداخل في هبّة مايو/ أيار (سيف القدس) 2021، عندما التحق أهالي قرى وبلدات فلسطينية، وكذلك في مدن الساحل (المدن “المختلطة”/ المستعمرة أي المدن التي تستوطنها أغلبية يهودية بوجود أقلية عربية)، بالهبّة الشعبية التي انطلقت من أحداث الشيخ جراح والمسجد الأقصى في القدس وقتها.
مع ذلك، ظل الداخل الفلسطيني خارج تغطية نداء طوفان السابع من أكتوبر يومها، ومعهم كل من استنفرهم النداء في باقي الجبهات من الأراضي الفلسطينية، إذ باغتت العملية الفريق الأول تحديدًا إلى حدّ الصدمة، خصوصًا أن الأنباء الأولية أفادت بـ”استهداف المقاومة الفلسطينية مدنيين إسرائيليين في مستوطنات الغلاف”، فتحسّسوا رؤوسهم ارتباكًا يومها، مستعيدين سؤال حقيقة تناقض واقعهم، ما بين هويتهم الفلسطينية ومواطنتهم الإسرائيلية معًا.
هل ثمة خصوصية؟
ثمة واقع يمايز فلسطينيي الداخل عن باقي أبناء شعبهم في فلسطين وخارجها، منذ اللحظة التاريخية التي تحولوا فيها بين ليلة وضحاها عام النكبة إلى “أقلية” في الدولة العبرية، بعد أن كانوا جزءًا من شعب وأكثرية عربية في البلاد حتى عام 1948، حيث اشترط بقاؤهم بحمل المواطنة الإسرائيلية، ما جعلهم فلسطينيين ومواطنين إسرائيليين في الوقت نفسه.
بالتالي، يعيش الفلسطينيون في الأراضي المحتلة عام 1948 في أفق قانوني واقتصادي إسرائيلي، أي أنهم يعيشون داخل منظومة مؤسسات الدولة العبرية وليسوا خارجها، ومع ذلك يعيش فلسطينيو الداخل في بلادهم وليس في دولتهم، فهي لطالما تعرف نفسها بدولة اليهود.
ففي ظل الصهيونية لا يمكن لفلسطينيي الداخل أن يكونوا مواطنين بقدر ما أنهم فلسطينيين ما لم تنفك القوانين الصهيونية عن التمييز ضدهم، ومصادرة أراضيهم وهدم بيوتهم وعدم الاعتراف ببعض قراهم، فضلًا عن ملاحقتهم سياسيًا وحظر بعض تنظيماتهم إلى حد تكميم أفواههم، كما هو جارٍ على مدار عام حرب الإبادة.
ومنذ مساء السابع من أكتوبر 2023، حين بدأت أجهزة أمن دولة الاحتلال بحملة وعيد وتهديد لفلسطينيي الداخل عبر وسائل إعلام عبرية مختلفة، إذا ما بدأوا حراكًا يزعزع ما يسمّى إسرائيليًا “الجبهة الداخلية”، كانت مقولة “وضعنا خاص” قد طفت على سطح لسان الداخل الفلسطيني برمّته.
لكن كل هذه الممارسات القمعية والعنصرية تنزع أي محاولة لمحو الصفة الفلسطينية عن العرب في الداخل عبر القول بـ”خصوصية الداخل”، أما عن تمايز واقعهم لناحية مواطنتهم الإسرائيلية، فذلك يؤخذ بعين الاعتبار حتى في السياق القانوني الإسرائيلي الذي يقع تحت وطأته الفلسطيني في الداخل عند التعبير عن فلسطينيته، بصرف النظر عن شكل ودرجة ذلك التعبير.
على سبيل المثال، أدانت المحكمة الإسرائيلية في مطلع فبراير/ شباط الماضي في ظل الحرب على غزة المربي رامي حبيب الله ومعه شخص آخر، بتهم ينكرها ذويهما مفادها “شبهة التخابر مع حماس”، ما يعني اتهامهما وفق قانون أحكام “التعاون مع العدو في زمن الحرب”، ولا يعتبران أسيرَين، إنما مواطنَين متهمَين بـ”الخيانة” بحكم مواطنتهما.
ولأن فلسطينيي الداخل قد التحقوا وشاركوا سابقًا بهبّة مايو/ أيار 2021 الشعبية، فقد توعّدتهم أجهزة أمن الدولة العبرية منذ مساء السابع من أكتوبر بوابل من عبارات التحذير والترهيب، تبعتها سلسلة ممارسات وإجراءات طاولت الحدّ الأدنى من حقهم في التعبير عن رفضهم لحرب الإبادة.
بناءً على تلك المعطيات، لا يجب محاسبة فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 48 على واقعهم، إنما يفترض محاسبتهم على أدائهم/ دورهم في ذاك الواقع، فخطاب “خصوصية الداخل” يستخدَم في كثير من الأحيان لتبرير حرفهم عن مسار قضاياهم الوطنية، بما فيه قضية مواطنتهم المنقوصة في البلاد نفسها.
“من يريد التعاطف مع غزة سأرسله مع الحافلات المتجهة إليها”.. المفوض العام لشرطة “إسرائيل” يهدد بمعاقبة المتضامنين مع ضحايا مجازرهم في قطاع غزة.#طوفان_الأقصى #غزة_تستغيث pic.twitter.com/xI9GdHL1ub
— نون بوست (@NoonPost) October 20, 2023
يجدر التنبُّه هنا إلى فرق أساس بين خاصية واقع فلسطينيي الداخل تاريخيًا، وبين خطاب “الخصوصية” الذي داومت بعض النخب السياسية والاجتماعية على إنتاجه في الداخل، خصوصًا في العقود الثلاثة الأخيرة، إذ كثيرًا ما يستخدَم خطاب “خصوصية” فلسطينيي الداخل كأداة لتحييد فلسطينيي الداخل عن مسار قضايا شعبهم الوطنية، وأحيانًا لتبرير مسار “الأسرلة” القائم على اختلاف ألوانه وتطوراته.
أما عن مقارنة موقفهم ما بين التحاقهم بهبّة مايو/ أيار 2021، وبين صمتهم في السابع من أكتوبر وما تلاه من حرب إبادة على غزة، فإن مردّ ذلك إلى طبيعة تناقض واقعهم ما بين كونهم فلسطينيين يمكنهم الالتحاق بأي هبّة شعبية مع أبناء شعبهم في القدس والضفة والقطاع في ظل توفر أسباب متصلة بواقعهم، وما بين “مواطنتهم” في “إسرائيل” تحكمهم الأعراف القانونية، وبالتالي تربكهم أي عملية عسكرية أو حربية ضد دولة هم مواطنون فيها، خصوصًا إذا ما كانت بحجم طوفان السابع من أكتوبر.
وبحسب ما يصف المفكر الفلسطيني عزمي بشارة في كتابه “الطوفان: الحرب على فلسطين في غزة”، فإن طوفان السابع من أكتوبر لم يكن هبّة شعبية، إنما هجمة أقرب إلى “عملية حربية” لأول مرة يرتقي فيها الفلسطينيون إلى هذا المستوى من الفعل العسكري في تاريخ صراعهم مع الصهيونية.
قيود غير مسبوقة
تعرّض فلسطينيو الداخل منذ السابع من أكتوبر إلى حملة قمع وتكميم للأفواه وإخراس غير مسبوقة في تاريخهم، حتى في ظل الحكم العسكري الذي خضعوا له في سنوات 1948-1966.
ففي تقدير موقف لمركز مدى الكرمل، تناول حملة تكميم الأفواه التي مارستها أجهزة الأمن الإسرائيلية على المجتمع الفلسطيني، وسياسات الأمن فيما أُطلق عليه “الإخراس” بالتعاون مع الإعلام الإسرائيلي والمؤسسة السياسية، وكذلك عامة المجتمع اليهودي الإسرائيلي، إلى حدّ بات فيه كل تصريح أو تعبير تضامني في منشور أو على شكل تغريدة على مواقع التواصل الاجتماعي، يعبَّر فيه عن موقف مبدئي معارض للحرب وضد قتل المدنيين أو تعاطف مع سكان غزة، أطفالًا ونساءً وشيوخًا، يعدّ موقفًا داعمًا لـ”الإرهاب”.
تُرجمت تلك السياسة بإجراءات أمنية، اُعتقل وأُوقف فيها العشرات من فلسطينيي الداخل من قبل أجهزة الأمن خلال الأسابيع والأشهر الأولى للحرب، من بينهم مواطنون عرب ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك قيادات وفنانون محليون، وأئمة مساجد ومحامون وعاملون في قطاعات مختلفة مثل المستشفيات والمدارس، وحتى الأساتذة العرب في الجامعات الإسرائيلية طاولتهم الحملة.
كان أبرزها تعليق عمل المحاضرة نادرة شلهوب كيفوركيان في الجامعة العبرية في القدس من قبل الجامعة نفسها في مارس/ آذار الماضي، لمجرد أن عبّرت كيفوركيان عن موقفها المناهض للحرب، وذلك في محاولة أرادت منها أجهزة الأمن ردع فلسطينيي الداخل وتلقينهم درسًا، وفق تصور توراتي يقول: “لكي يروا فيخافوا”.
لا بل هناك من اعتبر، من إعلاميين وضباط أمن إسرائيليين على وسائل الإعلام الإسرائيلية في الأسابيع الأولى التي تلت يوم السابع من أكتوبر، العرب في الداخل مصدر “تهديد” حقيقي على أمن الدولة، باعتبارهم “جبهة داخلية” يجب التحوط منها، بحسب ما ظلَّ يردد الضابط الإسرائيلي المتقاعد يتسحاك بريك في أكثر من لقاء متلفز معه منذ ما قبل السابع من أكتوبر، منها مقابلة على قناة TOV العبرية في مطلع سبتمبر/ أيلول 2022.
وذلك بحجّة تفاقم ظاهرة الجريمة وانتشار السلاح غير المرخّص بين فلسطينيي الداخل في السنوات الأخيرة -مع العلم أن الجريمة وتسليح مجرميها العرب جارٍ بعلم بعض أجهزة الأمن الإسرائيلية (الشاباك) بحسب أقوال وتصريحات بعض ضباط الشرطة-، ما يجعلهم بعد السابع من أكتوبر مصدر “تهديد محتمل” بنظر الإسرائيليين، وكان ذلك بمثابة تحريض مباشر على فلسطينيي الداخل، في ظل حالة العصاب الهستيري التي ما زالت تخيّم على أجواء المجتمع الإسرائيلي منذ يوم السابع من أكتوبر.
ليست هذه الحملة وليدة سياق طوفان السابع من أكتوبر وحرب الردّ عليه في غزة فقط، إنما ضمن سياق سابق على الطوفان يعود إلى هبّة مايو/ أيار 2021، حين انتفضت القرى والبلدات الفلسطينية ضد أجهزة الأمن الإسرائيلية تضامنًا والتحاقًا بهبّة حي الشيخ جراح في القدس.
اعتقلت أجهزة الأمن المئات ممّن شاركوا في الهبّة، وقدمت النيابة الإسرائيلية العامة سنة 2022 نحو 397 لائحة اتهام ضد 600 متهم من بينهم قاصرين، وصدرت على العشرات منهم أحكام سجن عالية، وصلت إلى 17 عامًا بحقّ شاب من مدينة عكا على خلفية مشاركته في الهبّة، وذلك في اتهامات كان القضاء الإسرائيلي قبل الهبّة يكتفي بحكم “الحبس المنزلي” لأيام معدودة عليها.
ولما كان بعض معتقلي الهبّة لا يزال موقوفًا على ذمة التحقيق حين حدث الطوفان في السابع من أكتوبر واندلاع الحرب على غزة، اضطر محاموهم إلى إرجاء جلسات البتّ في حكمهم إلى حين انتهاء الحرب، بحسب ما يروي المحامي خالد محاجنة في مقابلة أجراها الكاتب معه، وذلك في محاولة لتفادي نقمة النيابة العامة والقضاء معها، والتي قد تنعكس على موكليهم بأحكام انتقامية تطول سنواتها في السجن.
الأهم من ذلك، في سعي أجهزة أمن الدولة العبرية لتفعيل سياسات الملاحقة والترهيب، ليس لتكميم الأفواه وردع كل من تسوّله نفسه التضامن مع أبناء شعبه في ظل حرب الإبادة عليهم في غزة، إنما السعي إلى تغيير قواعد اللعبة في علاقة المواطنين العرب بالدولة اليهودية.
وهذا ما تسعى الحكومة اليمينية الحالية إلى استغلاله لناحية الضغط، لكي تقتضي المواطنة الولاء العلني للدولة اليهودية، وكأن من يعبّر عن نفسه خارج هذا الولاء يخرج على القانون، بحسب وصف عزمي بشارة لأثر الطوفان على فلسطينيي الداخل في كتابه “الطوفان”.
بالتالي يمكننا فهم سياسة تكميم الأفواه والملاحقات لفلسطينيي الداخل من قبل أجهزة الأمن الإسرائيلية خلال الحرب الدائرة، بوصفها ترتيبًا وتأسيسًا لمرحلة جديدة في علاقة الدولة العبرية بالمجتمع الفلسطيني فيها، وليس بوصفها ممارسات طارئة-مؤقتة على هامش الحرب.
مواقف قوى وأحزاب الداخل
من الطبيعي فهم تفاجؤ وبالتالي صمت القوى والأحزاب العربية في الداخل الفلسطيني، مثل لجنة المتابعة وهي أعلى هيئة تنظيمية تمثيلية للمجتمع العربي في الداخل، وكذلك الأحزاب السياسية على اختلاف مشاربها، البرلمانية منها وغير البرلمانية، فضلًا عن اللجان التمثيلية الأخرى، والنقابات والجمعيات الأهلية التي تنشط داخل المجتمع العربي إزاء أحداث طوفان الأقصى في صباح السابع من أكتوبر.
خصوصًا لما أسفر عنه الطوفان من قتلى إسرائيليين، وتحديدًا المدنيين منهم الذين سقطوا في مستوطنات الغلاف، فقد تقاطعت جميع القوى والأحزاب في الداخل في موقفها من استهداف المدنيين، كما أكّدت حماس نفسها في نصّ وثيقتها التي أصدرتها في يناير/ كانون الثاني الماضي بعنوان “هذه روايتنا… لماذا طوفان الأقصى” على موقف الحركة الرافض لاستهداف المدنيين.
مع العلم أن هناك تقاريرًا ومنها إسرائيلية، كشفت وأكدت مقتل عشرات المستوطنين الإسرائيليين بقصف طائرات ودبابات جيش الاحتلال ورصاص شرطته في يوم السابع من أكتوبر، تحت ذريعة ما يُعرف بإجراء “بروتوكول هنيبعل” في محاولة لمنع وقوع أسرى إسرائيليين بيد المقاومين في غزة.
ظل الصمت المطبق بعد حملة الترهيب الإسرائيلية يخيّم على قوى وأحزاب فلسطينيي الداخل إلى ما بعد يوم طوفان الأقصى، مع بدء حرب الإبادة الانتقامية التي شنّها جيش الاحتلال على القطاع، وتحت ذلك الصمت تفاوتت مواقف الأحزاب في قراءتها السياسية ليوم السابع من أكتوبر وحرب الردّ عليه.
فهناك من يرفض الحرب مثل حزب التجمع الوطني الديمقراطي بوصفها حرب إبادة ردًّا على “طوفان الأقصى”، والذي اعتبره التجمع تحصيل حاصل لسياسات الاحتلال في السنوات الأخيرة في القدس والضفة والقطاع، وبالأخص الحصار على هذا الأخير المستمر منذ سنوات طويلة.
وهناك من يرفض الحرب لكنه يختزل فعل الطوفان بوصفه “جريمة” ضد المدنيين الإسرائيليين، وبالتالي تحميل فصيل فلسطيني بعينه -يقصد حركة حماس- المسؤولية عمّا حلَّ بالقطاع من حرب وتدمير، وعبّر عن هذا الموقف الأخير رئيس القائمة العربية الموحدة في الكنيست النائب منصور عباس في أكثر من مناسبة، منها في مقابلة متلفزة معه على قناة “العربية” في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023.
امتدّت حرب الإبادة على غزة لأسابيع وأشهر وما زالت إلى يومنا هذا، بينما لا تزال قوى وأحزاب الداخل الفلسطيني السياسية والاجتماعية تداوم على خلق موقفها الرافض للحرب في أفق القانون الإسرائيلي ذاته وتحت غطائه، عبر سعي بعض القوى العربية على سبيل المثال بطلب من الشرطة الإسرائيلية منحها ترخيص لتنظيم مظاهرة أو وقفة احتجاجية منددة بالحرب واستهدافها المفرط للمدنيين في القطاع، فيما تدرك تلك القوى سلفًا موقف أجهزة الأمن الإسرائيلية الرافض لأي مظاهر احتجاج على الحرب حتى بعد مرور أشهر طويلة عليها.
حتى حين بادرت لجنة المتابعة العليا ودعت إلى وقفة احتجاجية على الحرب يوم 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 في مدينة الناصرة، كانت الشرطة الإسرائيلية قد وصلت إلى مكان الوقفة واستعدّت فيه قبل وصول أول محتج، واعتقلت يومها رئيس لجنة المتابعة محمد بركة من سيارته قبل وصوله موقع وقفة الاحتجاج، كما اعتقلت الشرطة وأوقفت يومها كلًّا من حنين زعبي وسامي أبو شحادة وآخرين من قيادات التجمع الوطني الديمقراطي.
ليست مواقف قوى وأحزاب الداخل الفلسطيني من يوم السابع من أكتوبر مشتقة ممّا حدث فيه فحسب، إنما من السياق السياسي المتراكم في السنوات الأخيرة، فقد غلب المكوّن الحقوقي في خطاب وأداء الأحزاب العربية السياسية على المكون الوطني فيها، وأصبح “السياسي” لدى قوى وأحزاب الداخل يعمل أكثر ضمن شروط الخريطة السياسية الإسرائيلية وعلى أرضيتها.
خصوصًا في ظل تفاقم القضايا المطلبية الحارقة في المجتمع العربي، التي قابلها سدّ “إسرائيل” كل أفق سياسي ممكن على الساحة الفلسطينية عمومًا، الأمر الذي دفع إلى تنامي خطاب “الأسرلة” بين فلسطينيي الداخل، إلى حدّ قبول أحد الأحزاب العربية (القائمة العربية الموحدة) المشاركة في تشكيل ائتلاف حكومي، تحت شعار “ضرورة التأثير” أو “الدخول في اللعبة السياسية”، ثم تبيّن أنها تجربة لم تكن لعبة البتة.
حتى حين اندلعت الهبّة الشعبية في مايو/ أيار 2021، التي التحق بها فلسطينيو الداخل على أثر هبّة حي الشيخ جراح في القدس، فقد كانت هبّة جماهيرية، مستقلة عن إرادة القوى والأحزاب العربية في الداخل، حيث تخلفت معظم هذه الأخيرة عن اللحاق بجماهيرها وقتها، ما يفسّر الشكل الذي باتت عليه مؤخرًا القوى الحزبية والأطر التمثيلية في الداخل الفلسطيني سياسيًا وتنظيميًا، بما يجعلها متأخرة عن الحدث أو دون مستواه.
هكذا يمكن تفسير صمت الداخل الفلسطيني تجاه السابع من أكتوبر، غير أن الصمت الذي تحول إلى “خوف” حقيقي في ظل حملة الترهيب الأمني، وحالة العصاب الانتقامي الذي شهده ولا يزال المجتمع الإسرائيلي إثر السابع من أكتوبر، كان وما زال يجب أن يؤخذ إلى مكانه الصحيح لا إلى مكانه الخطأ، حيث تريده حكومة نتنياهو اليمينية على طرق الإذعان والولاء، وهذه مهمة سياسية تنظيمية منوطة بالأطر التمثيلية والقوى الحزبية في الداخل.
في سؤال السقف النضالي
إن أي محاولة لمقارنة موقف فلسطينيي الدخل ما بين هبّة مايو/ أيار 2021 والسابع من أكتوبر 2023، يجب أن تأخذ بعين الاعتبار المعطى التالي: في الحالة الأولى التحق وانتفض فلسطينيو الداخل قبل أن تدخل المقاومة المسلحة من غزة على خط الهبّة في عملية “سيف القدس”، حيث انحصرت الهبّة الشعبية في الداخل وتراجعت حتى تلاشيها بعد ذلك التدخل.
أما “الطوفان” جاء كفعل عسكري مسلح من بدايته، ما يفسّر عدم استجابة فلسطينيي الداخل له، وهذا ما يحيلنا إلى سؤال متّصل بالسقف النضالي لدى فلسطينيي الداخل، وتحديدًا موقفهم من المقاومة المسلحة أو “فعل العنف السياسي” في حال أقدم أحد أبناء المجتمع الفلسطيني في الداخل عليه.
في نهار يوم 3 يوليو/ تموزالماضي، أقدم شاب من قرية نحف في الجليل في العشرينيات من عمره يدعى جواد ربيع على تنفيذ عملية طعن داخل أحد المجمعات التجارية في مستوطنة كرمئيل شمالي البلاد، استهدف فيها جنديَّين إسرائيليَّين، أسفرت عن مقتل أحدهما ومنفذ العملية الذي قُتل برصاص أحد الجنديَّين.
اعتقلت الشرطة الإسرائيلية والدة المنفذ جواد ربيع من قرية نحف وشقيقه من مكان العملية في كرمئيل، واقتادتهما معصوبي العينين، ثم اقتحمت قوات أمنية قرية نحف واعتقلت والد ربيع وعددًا من أقاربه، كما أطلقت قنابل غاز لتفريق المتجمهرين من أبناء القرية.
بحسب تقرير نُشر على موقع “عرب 48”، فقد كان أول من استنكر العملية هو رئيس المجلس المحلي (السلطة المحلية) في قرية نحف نفسها، في بيان أصدره مجلس القرية عبّر فيه رئيسه وأعضاؤه عن شجبهم واستنكارهم للعملية باعتبارها “لا تمثل بأي شكل من الأشكال قيم ومبادئ المجتمع العربي في البلاد”، مؤكدًا البيان أنها عملية لا تمثل أهالي قرية المنفذ العرب.
موقف رئيس السلطة المحلية للقرية هو بالضرورة موقف معظم القوى والأطر التمثيلية التنظيمية والسياسية للمجتمع العربي في الداخل الفلسطيني، وإن التزم بعضها الصمت حيال العملية، وهو ما يعدّ نزعًا للسياق السياسي والأمني القائم في ظل الحرب، كما يجعل المنفذ “جانحًا” أو حتى “مختلًّا” لا غاضبًا أو رافضًا للظلم الواقع على أبناء شعبه، رغم أن العملية جاءت في سياق السابع من أكتوبر وحرب الإبادة الدائرة على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، واستهدف فيها ربيع مجندَين لا مدنيين إسرائيليين.
هذه ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها أحد فلسطينيو الداخل إلى المقاومة المسلحة ضد الإسرائيليين، فقد سبقت عملية ربيع عمليات أخرى في السنوات السابقة، كان أشهرها عملية نشأت ملحم ابن قرية عارة، التي نفذها عام 2016 في تل أبيب.
هناك إجماع على رفض العنف السياسي واللجوء إلى الفعل الثوري المسلح لدى فلسطينيي الداخل، سواء كان هذا الرفض على مستوى القوى التمثيلية والأحزاب والسياسية أو على المستوى الشعبي، وهذا موقف يمكن فهمه إلى حدّ ما، إلا أن رفض الفعل واستنكاره لا يجب أن يعني نزعه من سياقه السياسي، خصوصًا إذا ما اتصل بحرب إبادة دائرة تُرتكب فيها مجازر بحق مدنيين أبرياء.
غير أن عملية ربيع، مثل غيرها من عمليات المقاومة، تحيلنا إلى طبيعة الموقف المتوقع من فلسطينيي الداخل والرافض بطبيعته لها، بحكم واقع “مواطنتهم” الإسرائيلية، أو لشرط نضالهم تحت سقفها، وهذا تفسير لواقع قد لا يقبل البعض فهمه إلا على محمل التبرير.
الكسر التدريجي للصمت
في ظل استمرار حرب الإبادة التي تشنّها حكومة نتنياهو على القطاع ومن خلفها إجماع صهيوني كامل على ضرورة استمرارها، تمكن فلسطينيو الداخل تدريجيًا من كسر حاجز الصمت، الذي فُرض عليهم أمنيًا منذ الأيام الأولى التي تلت يوم السابع من أكتوبر، من خلال التعبير عن رفضهم حرب الإبادة على أبناء شعبهم في قطاع غزة والعمليات الحربية في الضفة الغربية على مواقع التواصل الاجتماعي، دون أن يخلو ذلك من ملاحقات أمنية إلى يومنا هذا.
فضلًا عن موقف بعض القوى التمثيلية والأحزاب السياسية المعبّرة عن رفضها للحرب على غزة ولبنان مؤخرًا، عبر تنظيم خطوات احتجاجية مختلفة، كان أبرزها إعلان لجنة المتابعة وتنظيمها الأضراب العام في 1 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، احتجاجًا على استمرار الحرب على غزة والضفة الغربية ولبنان، وضدّ الملاحقات السياسية، وسياسة تكميم الأفواه، وكذلك ضد ممارسات الاحتلال في تعذيب والتنكيل بالأسرى الفلسطينيين في سجونه، بحسب ما جاء في بيان اللجنة الذي أُعلن فيه عن الإضراب العام.
إضافة إلى النشاط الإعلامي والحقوقي في الكشف عن ممارسات جيش الاحتلال في ظل الحرب وفضحها، مثل تطوُّع حقوقيين ومحامين من الداخل عن موكليهم المعتقلين من أبناء الضفة والقطاع في سجون الاحتلال، أو في معسكرات الاعتقا، التي فعّلها جيش الاحتلال منذ بداية حربه على القطاع.
مثل معسكر سديه تيمان في النقب، حيث تمكن بعض المحامين من فلسطينيي الداخل من دخول المعتقل ومقابلة موكليهم، وفضح ممارسات جيش الاحتلال بحقّ المعتقلين الغزيين فيه، وذلك بالتعاون مع مؤسسات حقوقية إسرائيلية كانت هي أول من بادرت وكشفت عن تفعيل معتقل سديه تيمان وممارسات الاحتلال فيه.
في أواسط أغسطس/ آب الماضي، انطلقت حملة داخل قرى ومدن فلسطينيي الداخل، تدعو إلى واجب جمع المساعدات الإنسانية لإغاثة أهلهم في قطاع غزة، ومع أن الحملة لم تكن منظمة فيما يخصّ كيفية ترتيب دخول المساعدات إلى القطاع في ظل الحرب والحصار الدائرَين عليه، فضلًا عن التضييق الإسرائيلي على جمعيات الإغاثة العربية لمنع دعم غزة، إلا أن الجماهير العربية في الداخل الفلسطيني سرعان ما هبّت ملبية نداء الحملة بجمع أطنان من المساعدات، منها مواد تموينية ومستلزمات طبية، إضافة إلى أموال سخية توجّه أصحابها من أجل التبرع فيها لأهلهم غزة.
العمل الإغاثي ليس فعلًا سياسيًا بالتأكيد، غير أن هبّة فلسطينيي الداخل للإغاثة لم تكن كذلك عملًا خيريًا إطلاقًا كما يُظنّ للوهلة الأولى، إنما كانت تعبيرًا عن كبت سياسي مارسته أجهزة أمن الدولة اليهودية منذ يوم السابع من أكتوبر عليهم، وبالتالي كانت المساعدات دعمًا إغاثيًا وسياسيًا في الوقت نفسه.
لطالما أراد فلسطينيو الداخل التقاط أي فرصة ممكنة للتعبير عن انحيازهم المكبوت لأهلهم في غزة في ظل حرب الإبادة عليهم، فكانت حملة المساعدات الإنسانية لغزة فرصة للتعبير عن موقف وطني رافض للحرب، ولملاحقتهم أمنيًا في ظلها معًا.
بعد عام، أين يقف الداخل؟
امتد نطاق الحرب في الأسابيع الأخيرة ليشمل لبنان، دون أن تتوقف في غزة ودون أي أفق ممكن لوقفها كما يبدو، والداخل الفلسطيني أكثر تماسًّا مع الحرب بعد تحولها على الجبهة الشمالية من البلاد، خصوصًا لدى فلسطينيي الجليل الذين يقيم بعضهم في قراهم وبلداتهم الواقعة بالقرب من الشريط الحدودي مع لبنان.
الأمر الذي يجعل القرى والبلدات العربية ليست عرضة لصواريخ المقاومة التي يجري إطلاقها من لبنان، بقدر ما هي عرضة لسقوط شظايا الصواريخ الاعتراضية التي تطلقها القبّة الحديدية الإسرائيلية عند محاولة اعتراضها الصواريخ، ففي مطلع أغسطس/ آب الماضي سقطت شظية صاروخ اعتراضي أطلقته القبّة الحديدية بالقرب من قرية المزرعة العربية شمالي مدينة عكا، وقتلت الشاب ميخائيل سمارة من قرية كفر ياسيف في الجليل الذي كان يتواجد في المكان.
كما أودى انفجار صاروخ في قرية مجدل شمس الدرزية في الجولان المحتل يوم 28 يوليو/ تموز بحياة 12 طفلًا وطفلة من القرية تتراوح أعمارهم بين 10 و16 سنة، دون أن يعرف مصدر إطلاق الصاروخ، وقد اتهمت الحكومة الإسرائيلية “حزب الله” بإطلاقه، بينما شهود عيان في الجولان ذكروا أنه صاروخ اعتراضي أُطلق من القبّة الحديدية الإسرائيلية، كما لم تفتح الحكومة الإسرائيلية ملف تحقيق في الموضوع مكتفية باتهام “حزب الله” اللبناني.
في ظل الوضع الأمني الراهن، باتت القيود التي تفرضها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية على سكان القرى والبلدات العربية في الداخل -في الجليل تحديدًا- ضمن حالة الطوارئ أكثر ممّا كانت عليه من قبل، وذلك لناحية حرية التنقل ومنع التجمعات ورفض منح تراخيص لنشاطات اجتماعية ووطنية منها احتجاجية على الحرب، تحت طائل خطاب “السلامة والأمن”.
غير أن التحدي الأبرز الذي يواجه فلسطينيي الداخل في المرحلة القادمة، هو تحدٍّ سياسي أكثر منه أمني، فحملة التخويف والترهيب التي شنّتها الأجهزة الأمنية عليهم منذ السابع من أكتوبر، تسعى التيارات الأشد تطرفًا في الائتلاف الحكومي اليميني إلى تحويلها لمرحلة جديدة يترتب عليها شكل جديد من علاقة الدولة اليهودية بـ”مواطنيها” العرب.
يأتي ضمن هذه المرحلة المحتملة إعادة النظر في المنجزات المدنية والسياسية التي تمكّن فلسطينيو الداخل من انتزاعها بجهد نضالي على مدار العقود الماضية، أو جعل تلك المنجزات مشروطة بالولاء للدولة اليهودية، وقد يستغل تيار “الأسرلة” العربي في الداخل ذلك لتبرير مسار “الأسرلة” ونزع الخطاب الوطني عن سؤال الحقوق المدنية والقضايا المطلبية، فضلًا عن سعي لخفض سقف حريات فلسطينيي الداخل السياسية والثقافية، والتي سيسعى اليمين المتطرف إلى تضييق المنظومة القضائية كهامش يلجأ إليه فلسطينيو الداخل، للتضييق على حرياتهم أكثر فأكثر.
تتطلب هذه الصورة الواقعية من الأطر التمثيلية والأحزاب السياسية والقوى الاجتماعية الأهلية في الداخل الفلسطيني، أن تعي حجم خطورة المرحلة، خصوصًا أن نتائج الحرب الدائرة لم تتضح بعد، وقد يطول أمدها، للعمل على تفعيل وبناء مقومات صمود، بما يمنع تحول المناخ الأمني الحالي إلى نظام حياة تريده حكومة نتنياهو لفلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948.