ترجمة وتحرير: نون بوست
في الوقت الراهن، تتلبد الغيوم في سماء ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، بعد الاعتراف الرسمي الذي أصدرته الرياض في 20 تشرين الأول/ أكتوبر، حول مقتل الصحفي المُعارض جمال خاشقجي. مع ذلك، لم يزح اعتراف الرياض الشكوك عنها، بل كان محاولة فاشلة لحفظ ماء الوجه، إذ أنه لم يكن مقنعا بالنسبة للغرب أو وسائل الإعلام العربية التي تُعارض الأمير السعودي. ويتمثل الأهم من ذلك كله في مواقف الشركاء الرئيسيين لولي العهد السعودي؛ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره التركي رجب طيب أردوغان.
في مرحلة أولى، حاول ترامب التحقق من الجريمة التي أثارت جدلا واسعا، مع حرصه على تبني موقف معتدل. وعلى الرغم من أنه ليس من الواضح ما إذا كان موقف الرئيس الأمريكي يصب في صالح وريث العرش السعودي أم لا، إلا أنه من المؤكد أن ترامب لا يفكر في الانسحاب من صفقات الأسلحة التي تجمع بين بلاده والسعودية، على الرغم من أن ذلك قد يثير غضب الكونغرس الأمريكي.
في 24 تشرين الأول/ أكتوبر، صرّح ترامب قائلا: “إذا كان هناك مسؤول عن مقتل الصحفي جمال خاشقجي فهو ولي العهد محمد بن سلمان”. من جهته، أدلى محمد بن سلمان بتصريحاته للمرة الأولى حول هذه المسألة في مؤتمر “مبادرة مستقبل الاستثمار” في الرياض، حيث وصف الحادثة “بالمؤلمة” ووعد بمعاقبة كل المتورطين في هذه الجريمة، مؤكدا أن سلطات بلاده ستتعاون مع تركيا في التحقيقات المتعلقة بالقضية.
بحسب وجهات نظر غربية وعربية، فإن التصريحات الأخيرة لولي العهد السعودي هي محاولة خرقاء للتأثير على الرأي العام وللظهور بمظهر الشخص الحداثي الساعي لتطبيق الأفكار الأوروبية في منطقة غارقة في الصراعات والنزاعات
في توضيحه لمسألة مقتل خاشقجي، قال ولي العهد السعودي إنه “طالما أن هناك في السعودية ملك اسمه سلمان وولي عهد اسمه محمد بن سلمان، وطالما أن في تركيا رئيسا يدعى رجب طيب أردوغان، فلا يمكن التأثير على العلاقات السعودية التركية”. وفي الإطار ذاته، أشار محمد بن سلمان إلى أن “منطقة الشرق الأوسط ستصبح مثل أوروبا خلال السنوات الثلاثين القادمة”. لكن، في سبيل تحقيق ذلك، يبدو أن المنطقة ستشهد حربا من أجل نهضة شرق أوسطية.
بحسب وجهات نظر غربية وعربية، فإن التصريحات الأخيرة لولي العهد السعودي هي محاولة خرقاء للتأثير على الرأي العام وللظهور بمظهر الشخص الحداثي الساعي لتطبيق الأفكار الأوروبية في منطقة غارقة في الصراعات والنزاعات. لكن، من الواضح أن الأمير السعودي لا يحسن التعامل مع المسألة الأخيرة التي تلقي بظلالها عليه وتهدد مستقبله السياسي ما يجعله يتجه نحو المسائل الجيوسياسية الكبرى.
في خضم ذلك، قال مستشار الرئيس التركي، إيلنور شفيق، إن “يد الأمير غارقة في الدم”، وهو ما يعد التصريح الأشد للإدارة التركية تجاه الرياض، منذ بدء تحقيقاتها الخاصة حول اغتيال خاشقجي. من جهتها، امتنعت السلطات السعودية عن التعليق، وهو ما ضاعف الانتقادات القاسية التي وجهتها واشنطن وأنقرة. ولاحقا، ادعت الرياض أن جريمة قتل الصحفي السعودي هي “عملية لم يتم التصريح بها” من قبل ولي العهد ولا علاقة له بالأمر.
بالنسبة لترامب، يود الرئيس الأمريكي تصديق أن مسؤولين في مراتب أدنى من ولي العهد السعودي هم المسؤولون عن مقتل الصحفي في القنصلية السعودية في إسطنبول. على الرغم من ذلك، لم ينف ترامب إمكانية تورط كبار المسؤولين في المملكة في هذه الجريمة، حيث أفاد أنه “في هذه المرحلة، من يدير شؤون المملكة بشكل عام هو الأمير محمد بن سلمان، وبالتالي، فهو المسؤول”. ويوم الأربعاء الماضي، وصف ترامب تعامل المملكة مع الجريمة وطريقة إخفائها للحقائق “بالفشل الذريع”.
بالنظر لآثار العملية، تتجه أصابع الاتهام، فيما يتعلق باغتيال خاشقجي، بشكل مباشر نحو ولي العهد؛ الحاكم الفعلي للمملكة تحت رعاية الأب المسن
على الجانب التركي، اتخذ أردوغان، منذ البداية، موقفا حاسما تجاه الرياض، وأصر عليه. وبحسب الرئيس التركي، تعتبر عملية اغتيال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول عملية مخططا لها، كما أكد على ضرورة محاكمة مرتكبي هذه الجريمة البشعة. وبما أن الجريمة تحمل دوافع سياسية، يطالب الرئيس التركي بضرورة تدخل العدالة التركية. في هذا الصدد، طالب أردوغان بمثول المتهمين بمقتل خاشقجي والبالغ عددهم 18، الذين تم إلقاء القبض عليهم في المملكة العربية السعودية، أمام القضاء في إسطنبول.
رفض وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، مثل هذه الادعاءات التي أطلقتها السلطات التركية، موضحا أن المحاكمة في قضية خاشقجي ستتم على الأراضي السعودية حصرا. في الأثناء، حصل المحققون الأتراك على الإذن للتحقيق مع موظفي القنصلية في إسطنبول، كأحد الإجراءات المتبعة في القضية. وفي 25 تشرين الأول/ أكتوبر، تم استجواب 38 موظفا من البعثة الدبلوماسية السعودية، بما في ذلك السائق والموظفين الفنيين والمحاسبين، علما وأن هؤلاء لا يتمتعون بحصانة دبلوماسية.
يتولى موظفو مكتب مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة التابع لمكتب المدعي العام في إسطنبول مهمة التحقيق مع موظفي القنصلية. وفي 19 تشرين الأول/ أكتوبر، تم الاستجواب الأول حول قضية خاشقجي، أي قبل يوم واحد من اعتراف الرياض الرسمي بمقتل الصحفي السعودي في القنصلية. الجدير بالذكر أنه قد تم الاعتراف رسميا بمقتل الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي يوم السبت 20 تشرين الأول/ أكتوبر، حيث أكدت الجهات الرسمية السعودية، أنه وقع شجار بين الصحفي وأشخاص في القنصلية السعودية في إسطنبول، ما أسفر عن موته. وعلى إثر ذلك، تم الإعلان عن القبض على 18 مشتبها بتورطهم في قضية خاشقجي.
من المحتمل أن أمرا ما تغير بعد المكالمة الهاتفية التي أجراها ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، مع الرئيس التركي في 24 تشرين الأول/ أكتوبر. لكن، يعتمد ذلك على نية رجب طيب أردوغان، الذي سيحاول بالتأكيد، شأنه شأن نظيره الأمريكي، استغلال الوضع والمأزق الذي وقع فيه بن سلمان لتحقيق جملة من الفوائد لبلاده. ففيما يمكن أن تتمثل هذه المنافع؟ في الحقيقة، يبدو أن هناك الكثير مما يمكن تحقيقه على خلفية هذه المسألة.
قد يكون ولي العهد هو الآخر مطالباً بمراجعة السياسة الحالية للمملكة العربية السعودية بشأن مجموعة متنوعة من قضايا الشرق الأوسط، انطلاقا من رفض المواجهة مع الإخوان المسلمين، وصولا إلى التعجيل في المصالحة مع الجارة قطر
بالنظر لآثار العملية، تتجه أصابع الاتهام، فيما يتعلق باغتيال خاشقجي، بشكل مباشر نحو ولي العهد؛ الحاكم الفعلي للمملكة تحت رعاية الأب المسن، سلمان بن عبد العزيز آل سعود البالغ من العمر 82 سنة، وبالتالي، من المتوقع أن يعرض المتهم تعويضات مالية. ويشير نطاق عمل الأجهزة السرية السعودية، وموقع عملية الاغتيال، فضلا عن فريق التصفية المشارك فيها، وبعض التفاصيل الأخرى، إلى أنه تم التفويض لهذه العملية السرية من قبل جهات فاعلة في الحكم.
بالإضافة إلى ذلك، يسيطر محمد بن سلمان على جميع الخدمات الخاصة بالمملكة السعودية، كما أن المكلفين بتنفيذ العملية، الذين تم ذكرهم كمشاركين فيها، والذين أنكر بن سلمان صلته بهم، اعترفوا علنا في وقت سابق بأنه لا يمكنهم الإتيان بأي حركة دون أوامر من ولي العهد. وينطبق ذلك خاصة على عملية تم تنفيذها في مقر ديبلوماسي، ليتم بموجبها القضاء على الصحفي السعودي، جمال خاشقجي، ما تسبب في فضيحة لم تنجح المملكة في الحيلولة دون خروجها للعلن.
في السياق ذاته، يعتبر مستشار محمد بن سلمان، سعود القحطاني، أحد أبرز الوجوه المتورطة في اغتيال خاشقجي، حيث يُزعم أنه قاد، وبشكل شخصي، الفريق المتورط معه في إسطنبول. وقبل بضع دقائق من اغتيال خاشقجي في القنصلية السعودية، أجرى القحطاني مكالمة هاتفية مع الضحية، ليعطي بعد ذلك أمرا بتصفية الصحفي الذي رفض وبشكل قاطع العودة إلى المملكة.
في هذا الإطار، يسعى كل من ترامب وأردوغان للسيطرة على الوريث السعودي. في المقابل، يتوجب على ولي العهد التفكير في أمور كثيرة بما في ذلك الحفاظ على فرص توليه للعرش مستقبلا وعلى سمعته في العالم الإسلامي وعلى الساحة الدولية، وعلى الوضع داخل المملكة، لا سيما في ظل تواجد الكثير من الأعداء الذين يجيد السيطرة عليهم في الوقت الراهن. مع ذلك، تتضاءل فرص ولي العهد في مقاومة الوضع والتغلب عليه، خاصة مع تزايد الضغط الخارجي الذي تمارسه تركيا والولايات المتحدة وأوروبا.
قد يفرض أردوغان بدوره على الرياض عدم دعم الأكراد السوريين في الضفة الشرقية لنهر الفرات، حيث لا تزال إمكانية إقامة “دولة كردستان سوريا” هناك واردة
في الواقع، يمكن أن تطالب هذه الدول بن سلمان بتقديم العديد من الأمور. من جهتها، قد تقدم المملكة بعض التنازلات التي كانت تعارضها قبل اغتيال خاشقجي، أو المساومة على بعض الأمور. وفي الوقت الراهن، يواجه بن سلمان وضعا صعبا للغاية، حيث سيجبر على الاستسلام وتقديم تنازلات دون الحصول على مقابل. نتيجة لذلك، من المتوقع أن يزيد منتج النفط الرائد في منظمة “الأوبك” من كمية الذهب الأسود المخصصة للأسواق الخارجية، وهو ما نادى به ترامب قبل اغتيال خاشقجي، لا سيما بعد الحظر الذي فرضته الولايات المتحدة على النفط الإيراني، والذي سيدخل حيز التنفيذ بداية من الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر. وعموما، ستحاول المملكة تعويض كميات النفط الإيراني بمحروقاتها السائلة.
إثر انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأمريكي، التي ستعقد في السادس من تشرين الثاني/نوفمبر، من المرجح أن تتخلى الهيئة التشريعية الأمريكية الجديدة عن فكرة فرض عقوبات على المملكة العربية السعودية. وسيجبر خلق فرص عمل جديدة داخل الولايات المتحدة، وإبرام عقود أسلحة تتجاوز قيمتها مليارات الدولارات مع المملكة، ودور ذلك في تمويل الدين الوطني للاقتصاد الأول في العالم، والاستثمارات بمبلغ تريليون دولار، أعضاء الكونغرس الأمريكي عاجلا أم آجلا على العمل بطريقة براغماتية.
في الأثناء، قرر عدد من الشركات الأوروبية المصنعة للمنتجات العسكرية، بالفعل، تعليق توقيع عقود جديدة مع العملاء السعوديين، الأمر الذي لن تقف الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي حياله، خاصة بالنظر إلى قدرة المملكة على إيجاد بديل، والتوجه نحو المصدرين الروس والصينيين للأسلحة والمعدات العسكرية. وفي جميع الأحوال، تتميز العلاقات الأمريكية السعودية بقدمها، وليس من مصلحة البيت الأبيض ولا الكونغرس الأمريكي إلحاق الضرر بعدو إيران اللدود في المنطقة، الذي تحتاجه الولايات المتحدة لمواجهة طهران في الشرق الأوسط، وبالتالي، يتجنب الأمريكيون إلحاق الضرر بمصالحهم عن طريق إضعاف وتقسيم السلالات الحاكمة العربية.
قد يكون ولي العهد هو الآخر مطالباً بمراجعة السياسة الحالية للمملكة العربية السعودية بشأن مجموعة متنوعة من قضايا الشرق الأوسط، انطلاقا من رفض المواجهة مع الإخوان المسلمين، وصولا إلى التعجيل في المصالحة مع الجارة قطر. وفي المقام الأول، سيكون على المملكة التعامل مع تركيا ورئيسها بشكل شخصي. وقد يفرض أردوغان بدوره على الرياض عدم دعم الأكراد السوريين في الضفة الشرقية لنهر الفرات، حيث لا تزال إمكانية إقامة “دولة كردستان سوريا” هناك واردة. كما ستطلب أنقرة من الرياض عدم التدخل في علاقاتها مع طهران، الخصم الجيوسياسي للمملكة. أما فيما يتعلق بحل الأزمة القطرية التي طال أمدها، فتعتبر الولايات المتحدة المستفيد الرئيسي من المسألة وستعمل على المصالحة بين الطرفين.
المصدر: أورآسيا دايل