“القضاء على حماس”، الشعار الذي رفعه رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، محدِّدًا أساسيًا لأهداف الحرب العدوانية على قطاع غزة، وما انفكّ يكرره على مدار عام كامل من حرب الإبادة التي تستهدف الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده.
حظيَ هذا التوجه بدعم أمريكي مطلق، وتفويض دولي غير معهود في شهور الحرب الأولى، جنّدت “إسرائيل” في إطار تحقيقه الموارد الواقعة تحت سيطرتها المباشرة، وتلك التي جنّدها حلفاؤها من أجل تمكينها من تحقيق أهدافها كافة.
على مدار عام كامل، واجهت حماس محاولات اقتلاعها والقضاء عليها، كما أفشلت رهانات دفعها إلى الانهيار، أو الانحراف الحدّي في مسار مطالبها وصولًا إلى الاستسلام بصيغة مباشرة أو ضمنية، تقبل وفقها بأية صيغ مطروحة لإنهاء القتال والخروج بما يمكن حفظه من قيادتها ومواردها من الحرب، حتى لو كان الثمن التخلي عن كل ما انطلق “الطوفان” من أجله، وهو ما لم يحصل، أو يكد أن يحصل.
بعد عام من “طوفان الأقصى” الذي لم ينتهِ، استطاعت حماس أن تمرَّ عبر العديد من الموجات الكبرى، وأن تستوعب الكثير من الضربات، وأن تتجاوز عنق الزجاجة مرات ومرات، في إطار سياسة مناورة واسعة ومتينة، أثبتت فيها تماسك قدرتها على القيادة ووحدة الموقف والمواجهة، كما أجبرت العالم وجزءًا هامًّا من قادة الاحتلال على الإقرار بأن هدف “القضاء” الواضح والصريح على حماس نوع من الطوباوية الحالمة.
قرار الطوفان: السير على حافة الصفرية
أخذت حماس قرارها بالمضيّ صوب تنفيذ عملية “طوفان الأقصى”، التي بدأت بالهجوم الكبير الذي عبر فيه مقاومو قطاع غزة السياج الفاصل بالآلاف عبورًا متزامنًا نحو المواقع العسكرية الإسرائيلية في الأراضي المحتلة المسمّاة بـ”غلاف غزة”، نجحت فيه في توجيه ضربة كبرى إلى العديد من المفاهيم والقواعد التي شكّلت أُسُس المواجهة بين قوى المقاومة والاحتلال على مدار عقود.
ضربت حماس ضربتها الكبرى وهي تعي تمامًا حجمها المخطط له بحرفية كبيرة، وتعي تمامًا ارتداداتها الواسعة، ويمكن الاستدلال على هذا بوضوح في قراءة التسمية “طوفان الأقصى”، و”الطوفان” بالمعنى اللغوي “ما كان كثيرًا أو عظيمًا من الأشياء أو الحوادث بحيث يطغى على غيره”، وهو تمامًا ما سعت إلى إطلاقه الحركة بعمليتها في السابع من أكتوبر 2023، ما كان عظيمًا بحيث يطغى على غيره.
يدفع البعض بأن حماس قد ذهبت إلى خيار “الطوفان” ارتباطًا بصفرية الحسابات، وانعدام الأفق، وهو خيار انتحاري حمل معه المنطقة نحو الانفجار، وفي هذا الطرح جانبان: الأول يقارب جزئيًا الصواب، والثاني ينافي مجريات الواقع وسير الأحداث.
من ناحية الصفرية كان المشهدان الفلسطيني والإقليمي يوحيان بأن القادم يتمثل بوضع الفلسطينيين أمام صفرية التأثير والحضور والخيارات، خصوصًا مع التجاهل الدولي للقضية الفلسطينية والسعي المحموم إلى توسيع التطبيع وعكوف الاحتلال على المضيّ في حسم الصراع وتجاوز كل الخطوط في الاستيطان والتهويد والضمّ، وفصل وعزل قطاع غزة عن محيطة الوطني وارتباطه المبدئي بقضيته، وامتداده الفلسطيني مع الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 1948.
أما عن الانتحارية، فلا يوحي سلوك الصمود والمواجهة والثبات والتمسك بالمطالب المحقة، والمآلات المستقبلية، بأن من اتخذ خيار “الطوفان” قد اتخذ خيار الانتحار بقدر ما اتخذ خيار المجازفة الثورية بالسير على الحافة، حافة الصفرية والمجازفة بالمواجهة، والوقوف أمام المسؤولية التاريخية، وعكس مجرى الأحداث جذريًا، وفرض أجندة جديدة على العالم بأسره، تكون القضية الفلسطينية عمادها وجوهرها.
من الطبيعي أن يواجه الاحتلال خطة المقاومة، وأن يحاول التصدي لها وحتى عكس مفاعليها، ومحاولة تسخير الأحداث لتخدم خططه واستراتيجياته العدوانية وفي القلب منها سعيه المحموم إلى تصفية القضية الفلسطينية، وهذه صيرورة المواجهة التاريخية بين المحتل وصاحب الحق والأرض، ويرتبط الجوهر والمآلات بالقدرة على الصمود ومواجهة العدو وإفشال خططه.
ديناميكية حماس الميدانية والسياسية
تعرض قطاع غزة إلى هجوم إسرائيلي قاسٍ جدًّا لم تعهده المنطقة من قبل، استخدمت “إسرائيل” خلاله كل أدوات القوة الغاشمة والقتل والفتك، الذي استهدف كل شيء في القطاع، من بشر وحجر وشجر، لم تترك “إسرائيل” فيه سيناريو أو خطة هجومية أو خيالًا عدوانيًا مريضًا إلا ومارسته في إطار معاقبة المجتمع في قطاع غزة، وتدفعيه ثمن الحضور المقاوم في صفوف أبنائه.
كانت حماس، التي تحكم قطاع غزة فعليًا، والمسؤول الرئيسي عن هجوم السابع من أكتوبر، الهدف الرئيسي للهجمات الإسرائيلية، التي استهدفت القضاء على الحركة ومؤسساتها، والإجهاز على قدراتها العسكرية والمجتمعية، ومؤسساتها وهيكلها الحكومي بالقطاع، وتصفية قيادتها في أي مكان في العالم.
تعاملت حماس على مدار عام من الحرب بديناميكية كبيرة جدًّا في التعامل مع الهجمات الإسرائيلية، استطاعت عبرها المرور من أكبر موجات الهجمات مرورًا فريدًا جدًّا ضمنَ لها سلامة قدرتها على القيادة والسيطرة على مختلف مفاصل العمل، سياسيًا وعسكريًا وحكوميًا، وحافظت فيه على مقدراتها اللازمة لاستمرار قدرتها على المواجهة والصمود.
كما حافظت على أوراقها القوية في التفاوض، خاصةً التمكن من تأمين عدد كبير من الأسرى في داخل 365 كيلومترًا تشكّل مساحة القطاع، وصلت آليات الاحتلال إلى معظم أراضيه في خلال عام من العدوان ولم ينجح في الوصول إلى الغالبية العظمى من أسراه.
ميدانيًا، عملت حماس على استقراء نمط الهجوم الإسرائيلي على مدن ومخيمات قطاع غزة، واعتمدت تكتيكات حرب المدن في المواجهة، على قاعدة أن المقاومة لن تمنع/ لا تستطيع أن توقف الاجتياح البرّي لهذه المدن، لكنها تستطيع أن ترفع كلفة بقائها داخل الأحياء والتجمعات السكانية، عبر أوسع حالة استنزاف تحدثها العقد القتالية المنتشرة على طول أراضي القطاع، وفق هيكلية تضمن استمرار المواجهة والاشتباك مع القوات الغازية.
رغم ادّعاءات جيش الاحتلال المتكررة بشأن نجاحه في تفكيك كتائب وألوية المقاومة في القطاع، تشير المعطيات الميدانية إلى عكس ذلك تمامًا وقطعيًا، فلم تسجّل للاحتلال أية حالة توغل في شمالي القطاع أو جنوبيه دون تلقي ضربات مؤثرة وواضحة من المقاومين، تقع خلالها القوات المتقدمة في كمائن وعبوات ناسفة وقذائف مضادة للدروع، تجعل من الكلفة البشرية والمادية لهذه التوغلات ثمنًا أكبر من الهدف المرجو تحقيقه، في ضوء انعدام النتائج الفعلية للمواجهة البرية لا في تفكيك بنية المقاومة، ولا في الوصول للأسرى.
حكوميًا، ورغم سعي الاحتلال إلى تفكيك البنية الحكومية التابعة لحماس في قطاع غزة، والاستهداف المتواصل بالاغتيال والتصفية إضافةً إلى ضرب المقدرات لكل القطاعات الحكومية، الأمنية والمدنية، فإن كلًّا من العمل الحكومي والسيطرة الأمنية على الأرض لا يزالان متماسكَين ويداران مركزيًا ضمن سياسات ومحددات تضعها الجهات المسؤولة، وتعمل وفقها على إفشال خطط الاحتلال في تفكيك البنية الحالية، وخلق واقع حكم مدني جديد متعاون مع الاحتلال، كما تواجه مخططات إغراق الاحتلال بالفوضى.
ورغم كون المؤسسات الحكومية التابعة التي تديرها حركة حماس ليست في حالة نموذجية أصلًا، وأنها قد ورثت فعليًا التركيب والهيكلة التي أنشأتها السلطة الفلسطينية بعد أوسلو، وورثت معها حماس ما احتوته هذه التركيبات من بيروقراطية وفساد، فإن هذه المؤسسات نجحت في الصمود والمواجهة على مدار شهور حرب الإبادة، لدرجة أنها مستمرة في تقديم دفعات لموظفيها، وتسديد جزء أساسي من التزاماتها لأسر الشهداء والجرحى وتوفير موازنات لإنجاز بعض مهام العمل الحكومي.
تتحرك الأجهزة الأمنية في قطاع غزة بفاعلية سريعة فور انسحاب جيش الاحتلال من مناطق التوغل، في جنوبي القطاع أو شماليه على السواء، وتعيد بسط سيطرتها الأمنية وتنخرط في عملية مواجهة مباشرة مع مثيري الفوضى والمعتدين على المقدرات العامة أو لصوص المساعدات، ومع أية طموحات للتعاون مع الاحتلال، وهي مهمة تنطوي على مخاطرة كبيرة دفع في سبيلها عدد كبير من رجال الأمن واللجان الشعبية المساندة لهم أرواحهم ثمنًا لها، إذ لا يتوانى الاحتلال عن استهدافهم كلما نجح في رصد حركتهم أو تحديد مواقع قيادتهم.
يحيى السنوار زعيمًا لحماس بالإجماع.. 12 سببًا يثبت أنها هجمة مرتدة
سياسيًا، نجحت حماس في تجاوز أثر الضربات والاغتيالات التي طالت المستوى السياسي فيها، سواء داخل قطاع غزة أو خارجه، والتي تكللت باغتيال رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية، ونائبه صالح العاروري، ومن سبقهما من الشهداء من أعضاء مكتبها السياسي في قطاع غزة، سواء أولئك الذين نعتهم حماس رسميًا، أو الذين ادّعى الاحتلال اغتيالهم ولا يزال مصيرهم مجهولًا.
حافظت حماس على حركة قيادتها السياسية وتحرك قيادتها داخل القطاع وخارجه، مع مراعاة الظروف الأمنية اللازمة لهذا التحرك دون السماح بالغياب عن الساحة السياسية وتفاعلاتها، ومن اللافت أن قطاع غزة قد شهد اجتماعات تنسيقية على المستوى السياسي بين قيادة حركة حماس وقيادة الفصائل من يمينها إلى يسارها، نتج عنها إصدار بيانات ومواقف مشتركة من مختلف الأحداث، بما في ذلك الموقف الجمعي والقطعي من محاولات الاحتلال خلق نظام بديل ضمن سيناريوهات “اليوم التالي”.
من جانب آخر، إن اختيار حركة حماس السريع لرئيس جديد لمكتبها السياسي، الذي تمثل بالإجماع على يحيى السنوار قائد الحركة في قطاع غزة، والمتهم بكونه المسؤول الرئيسي عن قرار البدء في هجوم “طوفان الأقصى”، شكّل رسالة هامّة حول الحيوية التنظيمية لحماس من جانب، والإجماع في داخل الحركة على قرار المواجهة والتحدي من جانب آخر، وهو ما يحمل دلالة على انعدام جدوى الضربات الكبرى في خلق تيار داخل الحركة يبحث عن “الخروج الآمن” أو يتقهقر بفعل حجم وقوة الضربات.
تمتعت حركة حماس بديناميكية كبيرة في التعامل مع شكل وحجم الضربات التي وُجّهت إلى بنيتها، ووضعت سيناريوهات بديلة لتجاوز الفترات الحرجة، وحافظت على تماسكها وبنيتها العسكرية والسياسية ومؤسساتها الحكومية، وفي كل جزئية من هذه التكتيكات يكمن العديد من التفاصيل التي تحتاج إلى مساحة واسعة من التأمل والرصد والتحليل لإدراك حجم عمق البنية المؤسسية التي بنتها حماس، وكانت كفيلة بحمايتها من التأثر السريع بفعل الضربات التي استهدفت المقدرات والخبرات والقيادة لدى الحركة.
البراغماتية السياسية والمناورة التكتيكية
تتّسم سياسة حماس بالبراغماتية منذ عقود، وهي براغماتية سمحت لها بتسخير العديد من الفرص لخدمتها وتعزيز قدراتها السياسية والعسكرية، إضافةً إلى تدعيم حكمها للقطاع الذي تعرّض للحصار منذ الشهور الأخيرة لنجاحها في الانتخابات وتشكيلها للحكومة الفلسطينية.
سمحت هذه البراغماتية لحماس بالمرور عبر كل التناقضات في الإقليم، والموازنة ما بين علاقتها وتحالفاتها، التي تتصف في أجزاء كثيرة منها بالتناقض، خصوصًا في لعبة المحاور في الإقليم، ما بين الحفاظ على العلاقة الاستراتيجية مع إيران، والتواجد المركزي في قطر، والمصالحة مع النظام المصري، والعلاقة القوية مع النظام التركي، وما بينها من محاولات لرأب الصدع مع العديد من مكونات المنطقة، بما فيها محاولة ترتيب العلاقة مع الأردن والسعودية.
عززت حماس من هوامش براغماتيتها السياسية بتعديلها لميثاقها السياسي في العام 2017، حينما قبلت ضمنيًا بالدولة الفلسطينية على حدود العام 1967 بوصفه برنامج الحد الأدنى الذي يمكن التوافق عليه وطنيًا، وهو ما أمّن لها مساحةً من المناورة والحركة السياسية التي تفتح لها أبوابًا وآفاقًا أوسع، وتخلق مساحات يمكن العمل فيها مع لاعبين دوليين لإطلاق مسار سياسي، كما تفتح الباب أمام إمكانية دخولها منظمة التحرير والتوافق على برنامج سياسي وطني مشترك.
تعي حماس تمامًا أن خيار المضي نحو “طوفان الأقصى”، حمل معه بوضوح القضاء على فكرة استمرار حماس في حكمها لقطاع غزة حكمًا مباشرًا على غرار الوضع الذي ساد فيه حكم القطاع ما بين العامين 2007 و2023، وبناءً عليه تعاملت ببراغماتية مطلقة مع الأطروحات والأفكار المقدَّمة من لاعبين في الإقليم لشكل وصيغة “اليوم التالي” في قطاع غزة، طالما أن تلك الصيغة تبقى موضع توافق معها وانسجام مع محدداته، ولا تلبّي الرغبة الإسرائيلية في نظام متعاون يعمل تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية.
من هذا المنطلق، تعاطت حماس إيجابيًا مع ما قُدّم من أطروحات من القيادي السابق في حركة فتح، محمد دحلان، الذي يقود “التيار الإصلاحي في حركة فتح” ويتلقى دعمًا إماراتيًا غير محدود، وقدم رؤيته المدعومة إماراتيًا لشكل انتقالي للحكم في القطاع تديره “لجنة وطنية” بقيادة شخصية من تياره وبمشاركة قوى وفصائل ومؤسسات فاعلة في القطاع، وهو ما قبلته حماس جزئيًا وفق مقتضى يحوّل اللجنة الوطنية للشراكة والتنمية المشكلة قبل الحرب إلى صيغة عمل يدار عبرها الجانب الإنساني، وتوزيع المساعدات الإماراتية التي تصل إلى القطاع.
على المنوال ذاته، تعاملت حماس مع كل الأفكار التي قدمتها شخصيات مثل ناصر القدوة، القيادي السابق في حركة فتح أيضًا، وقوى وشخصيات فلسطينية أخرى، وفق منطق براغماتي، يستثمر المساحات التي يوفّرها التعامل مع هذه الأطروحات، ويسخّر أصحابها لتعزيز فكرة أن أي نقاش لـ”ليوم التالي” بلا حماس بمثابة نقاش عقيم لن يفضي إلى أية نتيجة فعلية على الأرض.
ساد هذا النمط في نقاش حماس مع القوى الإقليمية للأفكار بشأن “اليوم التالي”، وسيناريوهات وشكل الحكم الفلسطيني، وقدمت ضوءًا أخضر غير مشروط بقبولها أن تغادر الحكم رسميًا لصالح صيغ وأشكال حكم أخرى، تكون ناتجة عن توافق وطني فلسطيني، وليس إملاءً احتلاليًا أو هندسة أمريكية.
في شقّ آخر، لم تغلق حماس الباب أمام التفاهم الفلسطيني الداخلي على ترتيبات حكم غزة، وفي سياقه يأتي الاتفاق في بكين، الذي شمل اتفاقًا على تكليف حكومة وحدة وطنية تتولى مسؤولية إدارة العمل الحكومي في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو مسار لم يتوقف التشاور فيه مع قيادة حركة فتح مباشرةً، أو عبر قنوات الاتصال الإقليمية، وحتى بعض الجهود الدولية، مثل الجهود الروسية والصينية في هذا الإطار.
حافظت حماس عبر البراغماتية التي أظهرتها في نقاش “اليوم التالي” لقطاع غزة منذ الأشهر الأولى للحرب، على حضورها على طاولة النقاش، وبعد أن كان المطلب تجاوزها تجاوزًا مطلقًا، بات من المقر به إقليميًا ودوليًا أن أي نقاش لهذه الصيغ دون توافق فلسطيني تشكّل حماس جزءًا أساسيًا منه يعني الحكم مسبقًا بالفشل على الأطروحات المقدمة، فيما أمّنت البراغماتية السياسية، التي سبق أن أظهرتها حماس في تعديلها لميثاقها، الهامش اللازم لإمكانية ترجمة نتائج “الطوفان” إلى مسار سياسي حقيقي، يمكن الخوض في مساراته وخلق أفق لتحقيق مكاسب سياسية.
مقاربات مستقبلية: الأفق والخيارات
بعد عام من “طوفان الأقصى”، لا يزال المشهد في ذروته، بفعل التطورات الإقليمية الناتجة عن استمرار ارتدادات “الطوفان”، ومعادلات الاشتباك التي توسعت في الإقليم، ولا تزال تحمل بين طياتها نذر الحرب الشاملة في الشرق الأوسط التي تغذيها الاندفاعة الإسرائيلية لإجراء تغيير استراتيجي يشمل هندسة “الشرق الأوسط الجديد” الذي ينشده بنيامين نتنياهو.
صمدت حماس خلال عام كامل من القتال، أثبتت فيه قدرتها على تجاوز الضربات والاستمرار في المواجهة، ولم تظهر فيه أية إشارات حول النية للتراجع أو تقديم تنازلات جوهرية، وهو ما دفع إلى تغيير العديد من الحسابات للاعبين الدوليين والإقليميين، أقرّوا من خلالها باستحالة القضاء على حماس من منطلق أن محاربة تنظيم أيديولوجي يعني محاربة الفكرة، وهو ما لا يمكن بالقوة العسكرية.
تعي حماس أن الطريق لا يزال طويلًا، وأن التغيير الاستراتيجي المنشود لن يكون مفروشًا بالورود، وبالتالي فإنه بقدر ما تبحث حماس عن جني ثمار كبرى من “طوفان الأقصى”، يبحث العدو الإسرائيلي أيضًا عن عكس النتائج، وتحويل تجليات “الطوفان” إلى واقع جديد تفرض فيه “إسرائيل” بالقوة ركائز حسمها العديد من المعادلات في المنطقة.
الخيارات أمام حماس محصورة في خيارين: أما الأول فالاستسلام والركون إلى واقعية موازين القوى، وهو ما لم يحصل في أشد وأقسى أيام الهجوم الإسرائيلي والتفويض الدولي، وبالتالي لن يحصل مع تغير الموازين والمعادلات والحسابات الإقليمية والدولية، خصوصًا مع دنو الانتخابات الأمريكية والتغير في المزاج العام الشعبي والرسمي في أوروبا.
أما الخيار الثاني فاستمرار الصمود والمواجهة، والمراهنة على أن الصمود سيفضي إلى نتيجة حتمية، يقتنع فيها الإسرائيلي بانعدام جدوى الخيار العسكري في الوصول إلى نتائج على الأرض، وأنه لن تفلح الرهانات على الاستنزاف والتفكك وحتى الضغط المجتمعي في خلق واقع جديد في قطاع غزة ينجح من خلاله رئيس وزراء الاحتلال في تحقيق أهدافه الحرب، فيما لا تزال تتمسك المقاومة بورقة الأسرى التي وإن همّشها نتنياهو كثيرًا، ستبقى عامل ضغط وتوتر داخلي يخلق انقسامًا إسرائيليًا على الخيارات.
التصعيد في الإقليم وتبادل الضربات المباشرة بين “إسرائيل” وإيران، وتوسع المواجهة في لبنان، كلها تحمل نذر حرب إقليمية تهدد فيما تهدد المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، والدول العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة، والتي تخشى أن تتحول أراضيها وأجواؤها ومصالحها إلى ساحة قتال لا يمكن التنبؤ بنتائجها.
وهي حرب يخشى الجميع -بالمناسبة- من نشوبها باستثناء حركة حماس، إذ سيشكّل توسع المواجهة بوابة لتقصير عمر الحرب على قطاع غزة، ومدخلًا لتحول المفاوضات على وقفها إلى مفاوضات إقليمية بمشاركة دولية تجبر “إسرائيل” على العودة عن طموحها الاستراتيجي بحسم الصراع.
بناءً عليه، المطلوب من حركة حماس الاستمرار في الصمود، والتمسك بالامتناع عن تقديم تنازلات تحمل في طياتها قبولًا ولو جزئيًا بإعادة احتلال قطاع غزة أو السماح ببقاء الجيش الإسرائيلي على أرضه، وهو ما سيعني ضربًا استراتيجيًا لأية مكاسب سياسية من المفترض أن يحققها “الطوفان”.
سيؤمن خروج حركة حماس صامدةً من حرب الإبادة الحالية على الشعب الفلسطيني، ونجاحها في الوصول إلى صفقة لتبادل الأسرى وضمان انسحاب جيش الاحتلال من قطاع غزة، انتقالةً نوعيةً لحضور الحركة وطنيًا وإقليميًا، وإقرارًا دوليًا بكونها لاعبًا قويًا لا يمكن اقتلاعه حتى بأقسى الأدوات العسكرية والحروب العدوانية.
كما ستضمن صفقة واسعة للأسرى تجريها المقاومة الفلسطينية خروج قيادة الحركة الأسيرة إلى الحرية، وهو ما سينعكس على شكل التركيبة القيادية الفلسطينية وحظوة حماس لدى المشهد القيادي الجديد، الذي يمكن المضيّ معه في إعادة تشكيل النظام السياسي الفلسطيني ومشاركة حماس والجهاد الإسلامي في منظمة التحرير الفلسطينية.