الجريمة الحمقاء التي اقترفها النظام السعودي مؤخرًا باغتيال خاشقجي كلفت المملكة – حتى الآن – الكثير، ومن الواضح أن لغة جسد ولي العهد، ونغمة صوته، وإيماءات وجهه، وجلوسه بجوار ضحية سابقة لحماقاته، في المؤتمر الاقتصادي الأخير بالرياض، تُكذب رسائل التطمين التي حاول بثها لنفسه وللعالم من خلال كلمته، فحرفيًا، وبلا أي مبالغة، نستطيع القول إن المملكة بعد الحادثة لن تكون أبدًا كما كانت قبل الحادثة.
اعتراف تاريخي
ورط الأداء السياسي والقانوني التركي المملكةَ في اعتراف تاريخي، سيظل – للأسف – نقطة سوداء لا تُمحى من على جبين المملكة والعائلة الحاكمة، وقد زاد الطين بلة طريقة معالجة الأزمة من الجانب السعودي، فإذا كان لا بد من الاعتراف، فالأفضل الثبات على رواية واحدة متماسكة ومعقولة منذ بداية الأزمة، “حسنًا: قُتل معارضٌ داخل قنصليتنا التركية، وهذا فعل لا نرتضيه كدولة تحترم مواطنيها، وسنقدم الجناة للعدالة”، لو فعل السعوديون ذلك منذ وقوع الأزمة، لرفع العالم لهم القبعة على شجاعتهم ونزاهتهم، بغض النظر عن باقي الملابسات في القضية، ولكن العكس تمامًا هو ما حدث.
المملكة، بعد هذه الحادثة، تقف وحيدة أمام العالم، في انتظار الضربات الخارجية، دفاعًا عن قضية خاسرة
لقد قدمت الإدارة السعودية واحدًا من أتعس دروس إدارة الأزمات في التاريخ البشري، بدءًا من تعدد الروايات، ومرورًا بغياب المسؤولين الرسميين عن المشهد طوال الأزمة، ووصولاً للقطة وضع حارس ولي العهد يدَه على زناد مسدسه في وجه ابن المغدور.
هزيمة أخلاقية
أذكر أنني سألت أحد الأصدقاء المهتمين بالسياسة عن السبب الذي يمنع “إسرائيل” من إبادة قطاع غزة أيام حرب 2008 مع أنها تمتلك القوة الكافية لفعل ذلك، فأجابني إجابة لن أنساها: “إن “إسرائيل” عصابة، تحاول التعامل بمنطق الدول”، إذ تعتبر حماس التي تحكم قطاع غزة منظمة إرهابية لا تمثل الشعب الفلسطيني، وتعتبر أن ما تفعله ضد غزة دفاع عن النفس أو إجراءات أمنية احترازية تحمي بها مستوطني غلاف غزة من هذه البؤرة الإرهابية، وتتهم حماس بالتسبب في سقوط المدنيين عبر استخدامهم دروعًا بشرية.
هذه هي الرواية التي تقدمها “إسرائيل” للعالم، لتحفظ بها ماء وجهها ولتتهرب من العقاب العادل على جرائمها، أما المملكة فقد قدمت نفسها للعالم على النقيض من ذلك تمامًا، لقد أحرج ولي العهد القادة الغربيين الذين طالما دعموا المملكة عندما قدم السعوديةَ “كعصابة” تستخدم مقراتها الدبلوماسية في الخارج “كمجازر” لتأديب معارضيها بأبشع الطرق.
حصار المملكة
من تابع تطور الأداء الرسمي المصري، في الأعوام الأخيرة تحديدًا، سيعلم جيدًا قيمة وأهمية تحييد المجتمع الدولي في إدارة معاركك الداخلية وضرورةَ عدم استعدائه وتأليبه، فالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حريص دومًا على توجيه رسالة للعالم مفادها: “إننا نقاتل الإرهاب في بلادنا نيابة عنكم، وأي تهديد يمس كيان الدولة المصرية سينعكس سلبًا على أمن العالم الإستراتيجي”، هذه الرسالة تُنقل للعالم من داخل مصر وخارجها، عبر الهيئات الرسمية وغير الرسمية، وبكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، حتى لو كانت شراء الصمت الدولي بصفقات السلاح الباهظة ومساحات الدعاية والإعلام.
في حين أن المملكة، بعد هذه الحادثة، تقف وحيدة أمام العالم، في انتظار الضربات الخارجية، دفاعًا عن قضية خاسرة، فالمجتمع المدني والبرلمانات والمنظمات الحقوقية هي التي تُوجه المؤسسات التنفيذية لمعاقبة المملكة، كما صرح چاستن ترودو رئيس الوزراء الكندي.
“حصار قطر” لم يعد له معنى بعد الآن، خاصة مع تغير لهجة ولي العهد تجاهها مؤخرًا، وعدم التعرض لها بالسوء تصريحًا أو تلميحًا كما اعتدنا
وفي نفس السياق، فإن الحادثة تسببت في فتح ملف، طالما حرص العالم على التعامي عنه، وهو “الحرب على اليمن”، فقد أصبح وضع حد نهائي للحرب مطلبًا عالميًا، خاصة مع تزايد وتيرة استهداف المدنيين، وتفاقم الأوضاع الإنسانية هناك، فتقول التقارير الأممية إن ملايين الأطفال اليمنيين يعانون من الجوع وسوء التغذية، بفضل ضربات التحالف العربي التي تطال المدنيين.
ويبدو أيضًا أن “حصار قطر” لم يعد له معنى بعد الآن، خاصة مع تغير لهجة ولي العهد تجاهها مؤخرًا، وعدم التعرض لها بالسوء تصريحًا أو تلميحًا كما اعتدنا، بل وصل الأمر إلى مباركة نموها الاقتصادي! لقد تعرضت المبادئ والقيم التي اكتسب ابن سلمان منها شرعية وجوده إلى الانهيار.
ثمن البقاء في السلطة
قبل الأزمة، كان الرئيس الأمريكي ترامب يُصرح دومًا بما معناه: أن بقاء الأنظمة الخليجية الحاليّة في سدة الحكم – وخاصة السعودية – مرهون باستمرار الدعم الأمريكي، وأن ما تدفعه الرياض لواشنطن من أموال هو ثمن مناسب لهذه المزية، ودون هذا الدعم، لن يستمر النظام السعودي في مكانه أكثر من أسبوعين!
وبعد الأزمة، أخذ الابتزاز الأمريكي شكلاً آخر، شكلاً أكثر عداءً: فإذا كانتِ الحادثة مُدبرةً؛ فإن المسؤول المباشر هو ابن سلمان، على حد تعبير ترامب، فالرسالة واضحة جدًا: إنك – يا ابن سلمان – في مرمى نيراني، وإذا قُدر لك البقاء، فإنك ستدفع المزيد، خاصة مع ما يلاقيه ترامب من ضغط شديد من الكونغرس لتحمل مسؤولياته في معاقبة السعودية، باعتباره رئيس أمريكا التي تدبر شؤون العالم، ومع ظهوره بمظهر من يختلق الروايات نيابة عن السعودية في أول الأزمة، فإلى أي حد قد ينخفض سعر برميل النفط؟ وإلى أي حد قد تزيد مبيعات السلاح الأمريكية إلى الخليج؟ وماذا عن تركيا وأردوغان؟ وعلى قدر التسوية التي ستتم، وعلى قدر الجريمة وطبيعتها، ستكون التكلفة التي ستدفعها المملكة للعالم.
السعودية في مأزق حقيقي، ومفاتيح اللعبة في يد الحاكم العثماني، وهذه أكبر ضربة يتلقاها تحالف ما بعد 3 يوليو عربيًا، والغريب أنها ضربة ذاتية! سبحان الله!