ألقى تعثر الحوارات بين النظام السوري ومجلس سوريا الديمقراطية بظلاله الثقيلة على حياة المواطنين القاطنين في مناطق السيطرة المشتركة للطرفين، فما إن طفت ملامح فشل الحوارات في جولتها الأولى بين القطبين الحاكمين للمنطقة، حتى صدرت القرارات التي نستطيع تسميتها بردات فعل متبادلة بين الطرفين.
وكانت البوابة التي دخلت فيها ردات الفعل هذه إلى ساحة النزاع، هي القضايا الخدمية، وعلى رأسها قضية التعليم، فقد أصدرت الإدارة الذاتية قرارات عدّة، منعت فيها المدارس التي تدرس مناهج النظام السوري من مباشرة العملية التعليمية مع بداية السنة الدراسية، خاصة في المناطق التي لا وجود للنظام فيها، في المقابل أصدر النظام السوري قرارًا بإغلاق كليات ومعاهد تابعة لجامعة الفرات.
واستمرت المناكفات بين الطرفين حتى انفجر الوضع باشتباك دورية تابعة لقوات الآسايش أو ما سمي لاحقًا بقوات الأمن الداخلي التابعة للإدارة الذاتية، مع دورية تابعة للنظام السوري.
لكن مع بداية الشهر الحاليّ أصدرت إدارة المرور التابعة للإدارة الذاتية، قرارًا زاد من تأزم الوضع، خاصة بالنسبة للعائلات التي يدرس أبناؤها في مدارس النظام السوري، فجاء القرار كالآتي: “تحجز كل مركبة مهما كانت نوعها التي تنقل الطلبة من جميع مدن روجآفا شمال سوريا إلى مدارس النظام وفقًا للمرسوم الصادر من رئاسة المجلس التنفيذي المتضمن الالتزام والتقيد التام بالسياسة التربوية والتعليمية ومناهج الإدارة الذاتية”.
وطبق القرار بالفعل، ذلك حسب ما نشرته إدارة المرور التابعة للإدارة الذاتية عبر معرفاتها، وتم حجز مجموعة من الحافلات التي كانت تقل مجموعات من التلاميذ إلى مدارس تابعة للنظام السوري.
ازدواجية السلطة شكلت في السنوات السابقة عائقًا للمواطنين فيما يخص الأمور القضائية، وبالأخص قضايا الزواج والورثة
على صعيد آخر قام النظام السوري بإيقاف صرف رواتب المئات من الموظفين في سلك التربية وذلك بحجة أنهم لم ينضموا للجيش السوري لأداء “واجب الاحتياط” كما يسميه النظام السوري.
وقبل أسابيع قام النظام السوري أيضًا، بفصل خمسة موظفين يعملون في المشفى الوطني بقامشلي، وذلك بسبب عملهم في مؤسسات تابعة للإدارة الذاتية. من جهتها قامت الإدارة الذاتية بتوقيف خمسة لاعبين يلعبون في أحد أندية كرة القدم ضمن الدوري الذي تنظمه هيئات تابعة للإدارة الذاتية، بحجة أنهم يلعبون في نادي الجزيرة الرياضي المشارك في الدوري السوري لكرة القدم الذي ينظمه اتحاد كرة القدم التابع للنظام السوري.
تأتي هذه القرارت كرسائل متبادلة بين النظام السوري والإدارة الذاتية، للإشارة إلى نفوذ كل طرف في المنطقة، وإظهار أنه هو الطرف المتحكم بمقاليد الأمور فيها. لا يخفَ على المتابعين للأوضاع في منطقة الجزيرة وخاصة في محافظة الحسكة، وجود ازدواجية للسلطة فيها، بحكم وجود النظام السوري في المربعين الأمنيين في كل من الحسكة وقامشلي المدينة، إضافة لاستمرار العديد من المؤسسات الخدمية التابعة للنظام السوري بمزاولة عملها، خاصة دوائر الشؤون المدنية “النفوس” والمحاكم إضافة لمؤسسات السلك الصحي.
بعد أن تم فرز مناطق النفوذ للقوى الإقليمية والدولية في سوريا، بات الطرفان أمام لحظة الحقيقة المؤجلة، وبات كلاهما أمام خيارين إما الحوار أو الصدام، وفي كلتا الحالتين ليس بيد أي منهما القرار الفصل
ازدواجية السلطة شكلت في السنوات السابقة عائقًا للمواطنين فيما يخص الأمور القضائية، وبالأخص قضايا الزواج والورثة، لكن عدم وصول الصراع بين الطرفين إلى المستوى الذي نشهده اليوم لم يكن يؤثر على الأوضاع العامة بقدر ما يؤثر اليوم.
والأسباب كانت عديدة، وأبرزها أن النظام السوري كان يريد كسب ود الإدارة الذاتية ويتجنب فتح جبهة ليست بالسهلة في الوقت الذي كان يخوض معارك عدة مع المعارضة السورية في أغلب المحافظات، أيضًا لم تكن الإدارة الذاتية قد تعاظمت قوتها للحد الذي هي عليه اليوم، عدا عن كونها كانت على علاقة جيدة مع روسيا الداعم الرئيس للنظام السوري، وهذا ما كان يترك باب التفاهم مواربًا حال حصلت خلافات بين الطرفين.
لكن اليوم بعد أن استعاد النظام سيطرته على معظم المناطق التي كانت بيد المعارضة، واستفاد من مخرجات اجتماعات أستانة واتفاقيات خفض التصعيد، ليكون اليوم دون جبهات تشغله، وأيضًا بعد أن تم فرز مناطق النفوذ للقوى الإقليمية والدولية في سوريا، بات الطرفان أمام لحظة الحقيقة المؤجلة، وبات كلاهما أمام خيارين إما الحوار أو الصدام، وفي كلتا الحالتين ليس بيد أي منهما القرار الفصل، فقوات سوريا الديمقراطية رهينة المزاج الأمريكي وتتغير تحركاتها وفقًا للمؤشر الأمريكي، في الوقت الذي يسير فيه النظام السوري وفق مؤشر بوصلة روسيا.
وهذا بدا جليًا في الحوارات الأخيرة بين النظام ومجلس سوريا الديمقراطية، التي جاءت عقب التقارب بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأمريكي دونالد ترامب عقب قمة هلسنكي، وتعثر فيما بعد إثر التغييرات الأخيرة في طاقم الرئيس الأمريكي ترامب، وتغير اللهجة الأمريكية تجاه روسيا والقضية السورية.
قد تكون الأمور الخدمية مثل التعليم والوضع الأمني في مناطق قسد التي يوجد فيها النظام، تفاصيل صغيرة بالنسبة للدول المتحكمة بالشأن السوري وأدواتها في المنطقة سواء تلك التي تعتبر نفسها قوى ثورية وتنظر إلى هذه القضايا على أنها ضريبة بسيطة يجب دفعها، أو تلك التي تجد في نفسها القوة الشرعية في سوريا وتجد هذه القضايا مجرد هوامش مقارنة بحرب التطهير المقدسة التي تخوضها، لكنها مصيرية بالنسبة للمواطنين في المنطقة، فهم عانوا وما زالوا من آثار التخبط والصراع في منطقتهم، ولعلنا نكون أمام جيل كامل تائه أقله على المستوى التعليمي، نتيجة لما يدور من صراعات، خاصة إذا أخذنا بالحسبان التقارير الصادرة من منظمات ذات شأن حيال الوضع التعليمي في عموم سوريا، حيث تشير إلى أن مئات الآلاف من الأطفال السوريين لا يتلقون التعليم اللازم، عدا عن تدمير آلاف المدراس، وتحويل الأطراف المتصارعة لآلاف المدارس إلى مراكز اعتقال وتجنيد.