مرة أخرى يضرب الإرهاب تونس، لكن هذه المرة المكان مختلف، فمسرح العملية قلب العاصمة على بعد أمتار قليلة من وزارة الداخلية التونسية والسفارة الفرنسية، وأمام أحد أكبر الفضاءات التجارية في البلاد وقبالة أحد أعرق المسارح التونسية.
عملية إرهابية جديدة تزامنت مع تصاعد الأزمة السياسية في البلاد وارتفاع حدة الاختلاف بين مكونات المشهد السياسي وخاصة مكونات الحكومة، ما جعل العديد من التونسيين يقولون إن الإرهاب في تونس يتصاعد كلما تصاعدت الأزمة السياسية في البلاد.
تفاصيل الحادثة
العملية أسفرت عن جرح 20 شخصًا بينهم 15 من عناصر الشرطة، وقد غادر 5 أمنيين المستشفى فيما بقي الـ10 الباقين تحت الرعاية الطبية، فيما غادر مواطنان المستشفى وبقي 3 مصابين فقط، حالتهم جميعًا مستقرة، وفقًا لوزارة الداخلية التونسية.
ووقعت الحادثة، عند الساعة 13:55 بالتوقيت المحلي (12:55 توقيت غرينتش)، حيث أقدمت امرأة تبلغ من العمر 30 سنة من منطقة سيدي علوان التابعة لولاية المهدية (وسط شرق)، على تفجير نفسها بالقرب من دورية أمنية قرب المسرح البلدي بالعاصمة.
وجاءت عملية التفجير مباشرة عقب انتهاء تظاهرة احتجاجية نظمتها في قلب شارع الحبيب بورقيبة أعداد من نساء أحد الأحياء القريبة من العاصمة تونس كن يحتججن على مقتل أحد الشبان – يشتبه أنه مهرب – على يد عناصر من الجمارك التونسية.
السبسي: “المناخ السياسي في تونس اليوم سيء”
ذكر أهالي منطقة زردة سيدي علوان أن منفذة العملية متخرجة منذ 4 سنوات وحاصلة على الإجازة في ”إنجليزية الأعمال”، وهي عاطلة عن العمل وتتولى أحيانًا رعي الأغنام، أما والدها فهو مقعد في حين أن والدتها لا تعمل، وبحسب الأهالي، فإن الانتحارية لم تغادر منطقة زردة منذ عام ونصف، قبل أن تغادر منزلها في اتجاه المهدية ثم إلى العاصمة منذ نحو أسبوع، في حين أكدت العائلة أنها تجهل وجهتها.
وأوضحت مصادر أمنية أن العملية تمت باستخدام عبوة ناسفة تقليدية الصنع كانت داخل حقيبة المرأة منفذة الانفجار، ولم تعلن إلى حد صباح اليوم الثلاثاء أي جهة تبنيها للعملية، فيما أكدت وزارة الداخلية أن المهاجمة غير معروفة لدى المصالح الأمنية بالتطرف، ونشرت صورًا لجثة منفذة التفجير وهي ملقاة على جادة الشارع الذي تطوقه الشرطة.
عملية استعراضية
اعتبر المفكر والأكاديمي التونسي صلاح الدين الجورشي أن هذه العملية استعراضية، حيث قال في تصريح لنون بوست: “هذه العملية مفاجئة، وأراد الذين خططوا لها أن تعتمد على نوع من العمل الاستعراضي، لذلك اختاروا الشارع الرئيسي في تونس (شارع الحبيب بورقيبة) وبجانب وزارة الداخلية وفي وضح النهار نظرًا لوجود المواطنين، كما اختاروا أن تنفذ هذه العملية امرأة، وفي ذلك بعد رمزي لا يخفى على أحد”.
رغم كونها مفاجئة، فقد أكد الجورشي أن مثل هذه العمليات كانت منتظرة من هذه الجماعات التي تعيش منذ 3 سنوات في حالة حصار، وتعتمد أساسًا على الاختفاء في العديد من الجبال والمغاور وتحاول أن تقوم بضربات جزئية وسريعة، لكنها تجنبت النزول إلى الشارع وإلى داخل المدن.
أضاف الأكاديمي التونسي في حديثه لنون بوست “هذه العملية كانت ارتجالية واعتمدت على إمكانات محدودة التأثير، وهو ما يدل على عدم احتراف الذين خططوا لها أو هذه المرأة التي نفذت العملية، لذلك جاء أثرها محدودًا واستطاعت السلطات في تونس أن تحتويها بسرعة”.
وأشار محدثنا إلى ضرورة أن تستعد الجهات الأمنية مستقبلًا لأي عملية مفاجئة، وقال في هذا الشأن: “يجب على السلطات في البلاد أن تتخذ إجراءات استثنائية لقطع الطريق أمام أي محاولات أخرى من هذه الجماعات الإرهابية في نفس الاتجاه”.
الأزمة السياسية لا تصنع الإرهاب لكنها توفر الظروف الملائمة
يقول العديد من التونسيين إن الإرهاب في تونس يتصاعد كلما تصاعدت الأزمة السياسية في البلاد، فاستمرار حالة الاحتقان السياسي والتقاذف بالاتهامات من شأنه توفير فرص إضافية للإرهابيين للمزيد من تعكير المناخ العام في البلاد، وهو ما أكده صلاح الدين الجورشي، الذي قال لنون بوست في هذا الإطار: “التلازم بين الأزمة السياسية والعمليات الإرهابية أصبح واضحًا ومؤكدًا”.
وأوضح الجورشي “الأزمة السياسية لا تصنع الإرهاب لكنها توفر الظروف والمناخ الملائم لتنفيذ العمليات الإرهابية، ففي اعتقادي أن هذه الجماعات تتابع بدقة الوضع في تونس وتحاول أن تستفيد وتستثمر أي ثغرة على مستوى النظام العام”.
تشهد تونس منذ أشهر أزمة سياسية ازدادت حدتها في الفترة الأخيرة
تابع “تفشي الصراع بين الأحزاب وتعمق الأزمة بين رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة وتراجع الحزب الحاكم الذي نجح في الانتخابات أي “نداء تونس”، وقراره الالتحاق بالمعارضة في أجواء مختنقة وأزمة اقتصادية خانقة، كلها أسباب توفر الفرصة لهذه الجماعات كي تضرب ضربات أحيانًا تكون في العمق وقد تُحدث تغيرًا في المشهد السياسي في البلاد”.
وفي أول تعليق له على هذه العملية قال رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي: “المناخ السياسي في تونس اليوم سيء، والبعض منشغلون بالكراسي وبمن هو الحزب الذي سيفوز، لتذكرنا أحداث اليوم بمشاكل تونس الحقيقية، وهي أن يكون الشعب التونسي بخير، وأن تتم الاستجابة لجميع مطالبه المشروعة”، وأضاف قائلًا: “من يملك مفهوم الدولة مطالب اليوم بمباشرة تحقيق هذه المطالب قبل غيرها”.
وشدد السبسي على أن العملية الانتحارية كانت بمثابة رسالة موجهة للدولة وللسلطة وهيبتها، لكن من يدفع الضريبة دائمًا هم الأمنيون، ولا بد للدولة أن تأخذ ذلك بعين الاعتبار والتوصل إلى فهم الأسباب، ودعا رئيس الجمهورية المسؤولين في الدولة والسياسيين إلى تحمل مسؤوليتهم تجاه وطنهم واستخلاص العبرة.
تشهد تونس منذ أشهر أزمة سياسية ازدادت حدتها في الفترة الأخيرة، بين مختلف الأطراف السياسية، وخاصة بين رئاستي الحكومة والجمهورية، وهو ما ساهم في المزيد من إرباك الوضع العام في البلاد وأضعف عمل الحكومة والبرلمان على حد السواء، فضلًا عن تراجع أداء مؤسسات الدولة المختلفة.
ومثلت أزمة حزب نداء تونس أحد أبرز الأزمات السياسية في البلاد، فقد عجز الحزب عن حل خلافاته الداخلية، ما جعلها تتجاوز المسائل السياسية والتنظيمية الداخلية إلى صراع بالوكالة بين مصالح لوبيات متنفذة في مجال المال والأعمال والأمن، ومراكز قوى قديمة كان لها تأثير كبير على تجربة الانتقال الديمقراطي، وهو ما ساهم في المزيد من إرباك البلاد.
أعداء الديمقراطية أبرز المستفيدين
لكل حدث هدف ومستفيد، والمستفيدون من مثل هذه العمليات الإرهابية كثر، وفق صلاح الدين الجورشي الذي يقول: “هناك أطراف عديدة تستفيد من هذه الأوضاع، وعلى الشعب التونسي أن يكون في مستوى من النضج حتى يفوت على هذه الأطراف فرصة تمزيق البلاد وإضعافها والعودة بها إلى الخلف”.
يشدد العديد من التونسيين على ضرورة النأي ببلادهم عن التجاذبات السياسية الحاليّة
يؤكد الجورشي أن المستفيد الأول أعداء الديمقراطية الذين لا يريدون أن تتحول تونس إلى تجربة نموذجية في بناء نظام قائم على القانون والدولة واحترام اختيارات الشعب، مشيرًا إلى وجود أطراف من النظام القديم التي يهمها أن تثبت أن الديمقراطية والخيار الشعبي لا ينفع لتونس وللتونسيين، لذلك يستغل هؤلاء هذه الأوضاع كي يروجوا بأن النظام السابق كان الأفضل وأن البلاد في حاجة لرجل قوي لا يحترم الحقوق ولا يعتمد على الانتخابات، وإنما يضرب بقوة ويفرض نفسه بوسائل مختلفة.
أما في خصوص المستفيد الثاني من هذه العمليات، فيقول الجورشي “المستفيد الثاني هم أصحاب المصالح الذين لا يهمهم ما يجري على السطح السياسي بقدر ما يهمهم استثمار الفرص للحصول على الكسب غير المشروع، فهذه الجماعات تستفيد من هذا السياق بشكل كبير”.
ثالث المستفيدين يتمثل في جماعات الجريمة المنظمة التي تنشط بكثافة في تونس وتتوسع بشكل متزايد، وفقًا للأكاديمي التونسي صلاح الدين الجورشي الذي يقول: “كلما حصلت نوع من الفوضى والارتباك والخوف إلا وهذه الجماعات الإجرامية تتوسع وتقوم بأعمال غير مشروعة”.
يشدد العديد من التونسيين على ضرورة النأي ببلادهم عن التجاذبات السياسية الحاليّة خاصة في هذه المرحلة الحساسة التي تمر بها البلاد، وأن يضع مسؤولو الدولة والقائمون على مختلف الأحزاب السياسية مصلحة البلاد فوق كل اعتبار، حتى يفوتوا الفرصة على أعداء تونس الذين لا يريدون خيرًا لها.