حكم تاريخي نطقت به المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وقضت بتجريم الإساءة للرسول محمد، انتصرت للمقدسات الدينية ورفضت إدارج الحط من قدر المقدسات بعمومها ومنها العقيدة الإسلامية، ضمن حرية الرأي والتعبير، لتؤيد بذلك حكم المحكمة الجنائية الإقليمية في فيينا بالنمسا التي كانت صاحبة السبق في رفض السماح بالطعن في النبي محمد، واعتبرته تجاوزًا لحدود الحرية المكفولة للأشخاص، ويدخل ضمن نطاق الاستهزاء المجرم.
وبهذا الحكم غير المسبوق، دخلت أوروبا مرحلة ما بعدها ليس كما قبلها، في السابق كان أحد أهم أركان الحضارة الأوروبية الحديثة، إطلاق العنان للحريات التي تأسست على مظالم القرون الوسطى وشرورها وقيودها التي منعت الناس آنذاك من ممارسة حرياتهم بكل صورتها بوازع ديني كهنوتي، فكان الحل في إباحة حرية التعبير والاحتجاج والتظاهر ونقد الموروث الديني بل وإزاحته للخلف، للاحتفاظ بمقومات الحداثة في مواجهة التخلف والقيود.
وبمرور الوقت وعدم إظهار الخط الفاصل بوضوح تام بين الحرية بالفوضى، تجاوز غالبية أبناء الغرب الحدود المكفولة لحرية الأشخاص تجاه معتقدات الآخرين، وبشكل خاص الدين الإسلامي الذي زادت جرعات الاستهزاء منه والاستهانة بمشاعر المسلمين الذين يؤمنون بنبوة ورسالة النبي محمد، ويرفضون أي محاولة خبيثة مغموسة بفوبيا الحداثة للإساءة إليه.
النمسا.. البداية الحقيقة في الانتصار لـ”العقائد”
عام 2009، اختصم بعض المسلمين سيدة نمساوية، بسبب إقامتها ندوتين للحديث عن الإسلام ونبيه، هاجمت السيدة الدين الإسلامي بشكل فج وتعرضت لشخص الرسول بأحاديث من مصادر ثانوية ومغلوطة عن زيجاته، وتعدى عرضها حدود أي قالب متعارف عليه في مناهج البحث العلمي، ووثق الشاكين تعرضها للنبي بالإساءة والاستهزاء والسخرية.
حرية الرأي والتعبير من أهم القضايا المشوشة في العالم، ومن الصعب القبول بتعريف محدد لها
اختُصت المحكمة الجنائية الإقليمية في فيينا بالفصل في النزاع، وإن كان الطعن في نبي الإسلام، يدخل ضمن الحدود المسموح بها لحرية التعبير، بما يؤسس على الحكم للسيدة وغيرها فيما بعد، نظرت المحكمة القضية وتداولتها ثم أصدرت حكمها التاريخي في 15 من فبراير2011، واعتبرت أن التصريحات المسيئة التي أطلقتها السيدة النمساوية، لا تتعدى حرية الرأي فقط، ولكنها تهين المعتقدات الدينية، وإثر ذلك قضت المحكمة بتغريمها 480 يورو بجانب مصاريف التقاضي.
لم تصمت السيدة النمساوية وملأت الدنيا صراخًا، وطعنت على الحكم وسط حملة إعلامية صاخبة، ولكن جاء حكم محكمة الاستئناف صارمًا، وأيد حكم الجنائية الإقليمية في ديسمبر من العام نفسه، وكان الحكم حديث الأوساط القضائية والسياسية والإعلامية في هذا التوقيت، ولكن ظروف اندلاع الربيع العربي وانشغال العرب والمسلمين بمستقبل بلادهم بعد عقود من الفساد، ألهى الجميع عن متابعة سير قضية بهذا الحجم والخطورة.
طوال سبع سنوات، ظل القرار حبيس النقاشات داخل المجتمع النمساوي، وبسبب عدم وجود إعلام محلي ذائع الصيت عالميًا، كما هو الحال في أمريكا وبريطانيا، لم ينل الحكم حقه من المتابعة سواء على المستوى العالمي أم العربي والإسلامي، حتى أيدته في 25 من أكتوبر الماضي، المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، ورفضت الطعن في النبي محمد – صلى الله عليه وسلم -، واعتبرت الإساءة إليه لا تدخل ضمن حدود الحرية الشخصية.
المحكمة الأوروبية استندت إلى تجاوز تصريحات السيدة النمساوية ما أسمته الحد المسموح به في النقاش، وصنفته كهجوم مسيء على رسول الإسلام، وفي ظروف كتلك التي يمر بها العالم، يمكن لمثل هذه الأفكار أن تعرّض السلام الديني للخطر، وفي المقابل أشادت الأوروبية بأداء ومهنية المحاكم المحلية في النمسا، وأكدت أنها قامت بتوازن دقيق بين حق المرأة في حرية التعبير وحق الآخرين في حماية مشاعرهم الدينية والحفاظ على السلام الديني في النمسا.
حرية الرأي والتعبير.. ما كل هذا الجدل؟
حرية الرأي والتعبير من أهم القضايا المشوشة في العالم، ومن الصعب القبول بتعريف محدد لها يناسب كل المجتمعات المختلفة ثقافيًا واجتماعيًا، سواء على مستوى التنظير أم التطبيق، ويقع هذا الاختلاف نفسه في أعتى الديمقراطيات الأوروبية التي تتشرذم حتى الآن في تحديد مفهوم محدد للعلمانية، ويمكن النظر إلى المجتمع الأمريكي والبريطاني والفرنسي لمعرفة حجم التباين في النظرية والتطبيق، بين الدول الثلاثة الأكبر في العالم والأشد حرصًا على الرأي والتعبير وفصل الديني عن السياسي والاجتماعي، في مفاهيم الدنيوية والتطبيقات العلمانية التي يجب أن تكون.
حرصت قوانين المجتمع الدولي والمجالس والمعاهدات المهنية المعنية بضمان حق الرأي والتعبير، على ضرورة عدم التعرض بالإساءة لمعتقدات الآخرين
كانت بريطانيا أول من وضع حرية الرأي والتعبير ضمن القوانين المعمول بها بشكل رسمي في البلاد، بعد الإطاحة بالملك جيمس الثاني من حكم إنجلترا عام 1688، والصدامات التي عاشتها البلاد بسبب ديكتاتورية جيمس، وبعد تولي الملك وليام الثالث الحكم، أصدر البرلمان البريطاني قانون أسماه “حرية الكلام في البرلمان”.
تلا ذلك إعلان فرنسا حقوق الإنسان والمواطن عام 1789 عقب اشتعال الثورة الفرنسية، ونص القانون على اعتبار حرية الرأي والتعبير، جزء أساسي من حقوق المواطن، بينما تأخرت أمريكا بسنوات طويلة عن بريطانيا وفرنسا التي نص دستورها آنذاك على تجريم معارضة الحكومة الفدرالية جريمة، ولهذا لم تكن هناك مساواة في حقوق حرية التعبير بين السود والبيض.
في منتصف القرن الماضي، ورغم انتهاء العالم من الحروب العالمية المدمرة، وسيادة أجواء توقر القانون الدولي وتدعو لتجنب الصراعات، أغفلت الجمعية العامة للأمم المتحدة التي أصدرت عام 1948، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتضمن نفس الوساوس البريطانية الفرنسية عن ضرورة إعطاء كل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير.
وأكد المجتمع الدولي على هذه المبادئ من جديد عام 1966، بإصدار العهد الدولي للحقوق المدينة والسياسية الذي تضمن توسيع صلاحيات حريات الرأي والتعبير وشدد على حق كل إنسان في اعتناق الآراء دون مضايقة، والتعبير عنها ونقلها للاخرين دون اعتبار للحدود بالوسيلة التي يختارها، ودون أن يضع في الاعتبار ما يمكن أن يصدر من إساءات للأديان بسبب هذه الحدود غير الواضحة بين الحرية والإساءة للغير.
حرصت قوانين المجتمع الدولي والمجالس والمعاهدات المهنية المعنية بضمان حق الرأي والتعبير، على ضرورة عدم التعرض بالإساءة لمعتقدات الآخرين، واعترفت أن المعتقد هو المؤثر الأول في المشاعر الإنسانية، والإساءة له قد يثير ردود فعل غير محسوبة من أصحاب المعتقد، وطالبت عدم تكفير الأشخاص والافتراء عليهم، وعدم التطاول على الذات الإلهية أو الأنبياء والرسل، وأن لا يستغل حق التعبير عن الرأي في أغراض مريبة، ولا بطريقة تستفز الآخرين وتدعو إلى إشاعة الرذيلة والفساد داخل المجتمعات، ورغم ذلك لم يكن المجتمع الأوروبي حريصًا على احترام العقائد، بل كان يقف دائمًا في موقع المتفرج على الإساءات للمعتقدات الدينية وخاصة الإسلام.
طوال العقديين الماضيين اللذين انتشرت فيهما الإساءة والتنمر الثقافي على الإسلام والمسلمين بشكل غير مسبوق، لم يكن لدى العرب والمسلمين موقف رسمي يعبر عن انحيازهم لهويتهم الثقافية والدينية
بعض صحف فرنسا، وفي القلب منها شارلي إيبدو، أشاعوا مناخًا من الكراهية بذم الإسلام، ورغم ذلك تسارعت القوى السياسية والاجتماعية إلى الدفاع عنها بحجة الدفاع عن الرأي والتعبير، وكذلك في الدنمارك وبعض الدول الإسكندنافية، كانت الصحف تلبي حاجة في أوساط المثقفين الغربيين وخاصة الفرنسيين منهم بممارسة نوع من الغطرسة الثقافية، سواء تجاه الأقلية المسلمة الكبيرة هناك، أو العالم الإسلامي بشكل عام، الذي يرتبط في أذهانهم بشكل وثيق بالإرهاب والتطرف والعنف والتخلف الحضاري.
العرب.. السلبية تحكم
طوال العقديين الماضيين اللذين انتشرت فيهما الإساءة والتنمر الثقافي على الإسلام والمسلمين بشكل غير مسبوق، لم يكن لدى العرب والمسلمين موقف رسمي يعبر عن انحيازهم لهويتهم الثقافية والدينية، فلم تتحرك الحكومات العربية لإحداث نوع من التغيير والتأثير داخل المجتمعات الغربية عبر المؤسسات البحثية والإعلامية المعنية، سواء لغياب هذه المقدرات عن الوعي العربي أم لخوف الحكام العرب من تأصيل ثقافة المواجهة بالكلمة، التي يمكن أن تنتقل للداخل المأزوم المنكفئ على حاله.
باستثناء بعض الاجتهادات لمنظمة التعاون الإسلامي والمبادرات الشخصية للسفراء العرب في مخاطبة العديد من المسؤولين لوقف الحرب على الإسلام، التي باءت جميعها بالفشل، تركت الحكومات العربية المهمة كاملة للتيارات الدينية، وفتحت لها الشوارع لتنظيم مظاهرات تحرق أعلام الدول الأوروبية وتندد بالحداثة وتنعتها بالمجون والرغبة في شيوع الانحلال والكفر، بما يروق للقادة العرب ويطيل من أعمارهم في الحكم، وهي المرادفات التي لا تزال تحكم عقول الكثير من الأجيال التي عاصرت تلك الحقبة، وحاربت شباب الربيع العربي وروجت إما للأنظمة السابقة أو دعمت الأنظمة الجديدة التي أسست شرعيتها على فشل الإسلاميين في الحكم، ورفضت الحقوق الواسعة للرأي والتعبير التي جاءت بهم الثورات العربية.
انحصر الرد العربي والإسلامي في الهجوم على الحداثة والثقافة الأوروبية عبر المنابر الإلكترونية والإعلامية للمشايخ وأئمة السلف، وبدلاً من إحداث نوع من التفاعل بين الثقافات والتأسيس على هذه الأزمات لتأكيد ضرورة إباحة حرية الرأي والتعبير للمسلمين، وفتح الإعلام والمنابر الثقافية للتفاعل مع الآخر، وإظهار الجانب الحضاري للإسلام، سادت الأجواء مجموعة تعريفات تحض على الكراهية، وانحصرت في ضرورة تحذير المسلمين من التباين الواسع في الفهم الإسلامي والليبرالي لمسألة الحرية وحدودها، وتنوعت أساليب زندقة الغرب، وانشغلت التيارات المتشدة بالتكفير والعنف والهجوم، بدلاً من الاستعداد للظهور للعالم كقوة أخلاقية، قد تكون اللبنة الأولى لمجتمع متقدم أو متحضر، ورغم كل ما حدث في العالم طوال السنوات الماضية من جراء التشدد والتطرف، يعيدنا مثل هذا الحكم لواجهة المسؤولية من جديد، فهل يتعظ المسلمون مما جرى، الأيام حبلى بالرد!