العمل الإنساني بعد عام من الحرب.. مساعدات بمعايير الإبادة الإسرائيلية

عام مضى على اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، أخرج فيها الاحتلال كل ما في جعبته من ويلات على رأس الشعب الفلسطيني، ساعيًا إلى محو ذاكرة انتصارهم وتفوقهم في السابع من أكتوبر، وإنهاء مخططات استعادة الأراضي المحتلة تحت مبررات “رد الفعل” و”الدفاع عن النفس” و”الإرهاب”.

عام كامل برزت فيه المنظمات الإنسانية ومنظمات المجتمع الفلسطيني كفاعل أساسي لا يقلّ أهمية عن الحكومات وقرارات الأمم المتحدة، فخلف كل عملية عسكرية تبلورت خدمات المنظمات الإنسانية، وتبدلت وتغيرت وفقًا للأوضاع الإنسانية التي ظلت تتغير ظروفها وحجم ونوع حاجاتها، تبعًا للتطورات الميدانية وطول مدة القتال والمواجهات.

تغيرت كذلك وفقًا للسياسة الإسرائيلية العامة، التي ضربت عرض الحائط بمفاهيم الإنسانية والقوانين الدولية والمحرمات وحقوق الإنسان منذ اللحظة الأولى من الحرب، معبّرة عن ذلك بلسان قادتها مثل وزير دفاعها الذي وصف الفلسطينيين بـ”الحيوانات البشرية”، ثم أعلن الحصار عليهم قائلًا: “لا طعام لا وقود لا كهرباء”.

يضاف إليه رئيس وزرائها الذي دعا لحرب لا هوادة فيها، ورئيس المالية الذي أقرَّ التجويع تكتيكًا عسكريًا، ووزير التراث الذي دعا لإسقاط قنبلة نووية على الفلسطينيين، والكثير من التصريحات التي لا تعدّ إلا جزءًا من سياق عام يحيط بالفلسطينيين، ويحاصر المنظمات الإنسانية في عملها حتى أضيق الزاوية.

من الزاوية الأكثر اختناقًا في العالم، نحاول تسليط الضوء على أداء المنظمات الإنسانية في قطاع غزة بعد عام من الحرب، على أدائها وإنجازاتها، وتحديات العمل على الأرض وفي الميادين الدولية، ونحاول الإجابة عن تساؤل عام “لماذا فشلت المنظمات الإنسانية في إقناع الحكومات بالتحرك لكسر الحصار عن غزة؟”.

العمل الإنساني تحت سقف الاحتلال

تزامنًا مع صوت الحرب الأول والحراك الشعبي حول العالم ودعوات المقاطعة المتصاعدة، كان العمل الإنساني يبدأ مشواره في وقت مبكر، لا سيما أن قطاع غزة منطقة دائمة الاحتياج على المستوى الإنساني والإغاثي، خاصة على مدى 17 عامًا من الحصار الإسرائيلي المطبق على مواطنيها.

منذ الأسبوع الأول، بدا أن المنظمات الإنسانية ونتيجة تجربتها المتراكمة خلال الحروب الإسرائيلية المتكررة على القطاع، تعرف ما عليها فعله، ولذا تداعت لإطلاق نداءاتها الدولية وحشد طواقمها وهيئاتها للتقليل من الآثار المحتملة لحرب كهذه، والعمل على الحفاظ على مستوى من الكرامة الإنسانية في العمل الإغاثي الميداني.

شاحنات مساعدات إنسانية متجهة إلى قطاع غزة تصطفّ أمام معبر رفح على الجانب المصري، 23 مارس/آذار 2024.

لكن سقف الحرب والإبادة أثبت أن قدرة المنظمات الإنسانية متواضعة، لا سيما مع إعلان جيش الاحتلال القطاع بأكمله منطقة عسكرية مغلقة، وإمهاله الطواقم والموظفين الدوليين والمنظمات الإنسانية والإغاثية بضع سويعات لإخلاء شمال غزة والمناطق الحدودية، فيما تلقّت مكاتب المنظمات الدولية أوامر بمغادرة القطاع تحت طائلة المسؤولية عن حياتهم.

وأمام حالة الاحتقان الشديد والقصف الجوي المكثف خلال الأسابيع الأولى تناقص عدد الموظفين الدوليين والأجانب العاملين في المنظمات الإنسانية في قطاع غزة، وهو ما أثّر على عملية الإغاثة والمساعدة، وترك معظم العبء ملقى على عاتق الموظفين المحليين.

تزامن ذلك مع قصف محطات المياه والكهرباء وتصريف المياه العادمة، ومخازن الغذاء والدواء، والنقص الكبير في مختلف المستلزمات الطبية، لتصبح تغذية ما تبقى من العمل الإنساني ضرورة ملحّة، فسارعت جهود الإغاثة حول العالم لتدخل أولى قوافل المساعدات الإنسانية معبر رفح بعد أسبوعَين من الحرب.

انتقلت إشكالية العمل الإنساني وأدائه إلى مستويات أعمق، فالاحتلال ضرب حصارًا عبر معبر رفح مشترطًا تفتيش المساعدات، أولًا بمرورها عبر معبر العوجا التجاري، ومن ثم عودتها للدخول عبر معبر رفح، ما تسبّب في تأخير دخول المساعدات وتلف مواد وأغذية وأدوية نتيجة طول الانتظار في ظروف غير ملائمة للتخزين، وغياب كميات هائلة من الاحتياجات الأساسية، وانخفاض عدد شاحنات المساعدات من 500 وفق الحاجة المعتادة إلى 20 فقط.

كما منع الاحتلال إدخال الوقود بشكل كامل، ناهيك عن عدد كبير من الأدوية والمستلزمات الطبية والأجهزة الحيوية اللازمة للإنقاذ، وردًّا على ذلك توجّهت المنظمات الإنسانية بدعوات إلى الحكومات للضغط على الاحتلال للسماح بدخول المساعدات الإنسانية بشكل أكبر سلاسة، دون فائدة تذكر.

خدج فلسطينيون عانوا ظروفًا قاسية في مستشفى الشفاء بمدينة غزة في ظل شحّ الأدوية والوقود. يوم الأحد 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023.

رغم ذلك كانت المنظمات الإنسانية حول العالم قد تمكّنت خلال أول شهر من الحرب من تأمين 3 آلاف طن من المساعدات، من الأطعمة الجاهزة للأكل إلى القفازات المطاطية، وفيما امتدت الشاحنات المحملة بالمساعدات على طول 45 كيلومترًا إلى معبر رفح، كانت وفود الإغاثة تقوم بتفتيش المساعدات مسبقًا بالتعاون مع الأمم المتحدة والهلال الأحمر المصري، وفقًا للائحة القيود الإسرائيلية.

لكن ذلك لم يسهّل من حلحلة جهود الإغاثة، بل بقيت عالقة بالتزامن مع تطور مجريات الحرب من مجاعة وتهجير واستهداف للمنشآت الحيوية، فيما كان الموظفون الإغاثيون في الداخل ينشطون في توزيع ما يتم إدخاله من مساعدات لا تكاد تكفي حاجة السكان، وأمام الحصار وواقع العمل الإنساني الصعب في قطاع غزة ظهرت عدة متغيرات، أولها شكل وطبيعة العمل الإنساني، وثانيها التحديات المستجدة التي واجهت القائمين عليه والعاملين في الميدان.

على مستوى طبيعة العمل الإنساني، ترى نورما هاشم المسؤولة، الإنسانية في مؤسسة Viva Palestina، أن أشكاله اتّسعت ما بين الإيواء، والإغاثة الطبية، وتوفير الأساسيات من طعام ودواء وماء وكهرباء باستخدام مولدات الطاقة المحمولة والمتنقلة، ثم لتتسع إلى المساعدة في إخلاء الجرحى والمرضى وإخراج الضحايا من تحت الأنقاض، وتأمين نزوح السكان إلى ما أطلق عليه الاحتلال “المناطق الآمنة”.

ومع ازدياد عمق التهجير أضيف إلى مهام العمل الإنساني كل من إنشاء مخيمات الإيواء، وترميم المشافي والعيادات، وإقامة مرافق طبية متنقلة، وإسناد الكوادر الصحية، وتقديم مساعدات منقذة للحياة، ودعم البلديات، وتوزيع الطرود الغذائية، وتنظيم خيم تعليمية، وإطلاق ورشات تفريغ نفسي للأطفال.

خيام نُصبت في خان يونس جنوبي قطاع غزة لإيواء النازحين.

كما تشير هاشم إلى أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة حوّلت دور المنظمات الإنسانية من مساند ورديف للأدوار المجتمعية والبلدية والحكومية، إلى دور رئيسي وكأنه الوحيد في الميدان، وذلك نتيجة تحول الإغاثة والخدمات من مهام طارئة مؤقتة خاصة بفئة محددة (الفقراء، النساء ذوات الاحتياجات الخاصة، طلبة المدارس.. إلخ) إلى مسؤولية شاملة ودائمة تشمل جميع سكان قطاع غزة دون استثناء.

نتيجة لذلك، برزت التحديات الاستثنائية المستجدة أمام العاملين في العمل الإنساني في القطاع، ومن بينها ضعف التمويل للمشاريع الإغاثية والطبية والغذائية والمعيشية، نتيجة الحصار المالي الذي ضربه الاحتلال على المنظمات الإنسانية بيد أمريكية، وبسلسلة عقوبات شنّتها الخزانة الأمريكية على جمعيات خيرية عاملة في القطاع.

كما يضاف إلى ذلك صعوبة المفاضلة والموازنة بين المواثيق والأنظمة الداخلية للمنظمات وطبيعة العمل على الأرض، فالأولى تتطلب توثيقًا إجباريًا للعمل الإنساني، ومساءلة متواصلة حول المشاريع، فيما فرضت طبيعة العمل على الأرض والتنقل والتهجير الدائم وحجم الفئة المستهدفة الكبير صعوبة في تحقيق متطلبات النظام الداخلي.

ظهرت أيضًا مدخلات أخرى لعبت دورًا في طبيعة العمل الإنساني، حيث يذكر الباحث المختص بالعمل الإنساني محمد يوسف حسنة منها المؤثرين الإعلاميين الذين استخدموا شهرتهم لتنشيط العمل الخيري، ما تسبّب في تشتُّت الجهود مقابل عمل المنظمات وصعوبة تتبُّع التنفيذ من قبل المتبرعين، والاستغلال التجاري الكبير الذي ارتبط بنقص السيولة النقدية في القطاع مقابل ارتفاع عمولة تحويل أي مدخرات مالية لدعم العائلات وإعالتها، وهو ما أدّى إلى تآكل كثير من التبرعات.

يضاف إلى ذلك الخصومة السياسية بفعل الانقسام السياسي، التي لعبت دورًا في إحباط عمليات دعم وتبرعات، وما شابهها من اتهامات بالاحتيال أو السرقة التي قد تصيب أحيانًا وتخطئ أحيانًا أخرى، فيما تغيب إمكانية التثبُّت منها نتيجة استمرار الحرب، كما يدخل التهجير المتواصل والمتكرر للمواطنين ضمن التحديات بتسبُّبه في ضغط هائل ومتزايد على النشاط الإنساني الإغاثي.

يلفت حسنة النظر إلى أن أبرز تحدٍّ واجه موظفي العمل الإنساني هو الاستهداف الإسرائيلي بالقتل والاعتقال والتهديد والشيطنة، حيث شنَّ حربًا داخلية على الموظفين والمتطوعين تبدأ بالملاحقة والاعتقال وعمليات القتل والتعذيب ومكالمات التهديد لإيقاف تسليم المساعدات، إضافة إلى حرب خارجية تمثّلت في طرد عدد من المؤسسات الخيرية الدولية والمنظمات الإنسانية الأممية وموظفيها من الأراضي المحتلة، وإغلاق حساباتها البنكية.

يبرر حسنة هذا السلوك الإسرائيلي بأدوار المنظمات الإنسانية، وتعدُّد مسؤولياتها وزيادة العبء عليها، ما جعلها في دائرة الاستهداف الإسرائيلي، ودفع الاحتلال لإلصاق تهم لها بالإرهاب بالحد الأدنى، واستهداف العاملين بالقتل والقصف من قبل الاحتلال وطائراته، حيث رصدت منظمات الأمم المتحدة مقتل أكثر من 280 عاملًا منهم في القطاع حتى تاريخ 19 أغسطس/ آب الماضي.

موظفو الأمم المتحدة يتفقدون بقايا سيارة تابعة لمنظمة المطبخ المركزي العالمي تعرضت لغارة إسرائيلية في دير البلح في وسط قطاع غزة في 2 أبريل/ نيسان 2024.

المنظمات نفسها أكدت أن العمل الإنساني لم يعد محصنًا، حيث يستهدف الاحتلال بشكل مقصود الطواقم الأممية والإغاثية، ويتم قصف مقراتهم وسياراتهم وشاحنات توزيع المساعدات بشكل متعمّد، حتى أن موظفي الإغاثة أصبحوا يخشون ارتداء “درع الحماية الخاص بالطواقم الإنسانية”، لأنه يحولهم إلى أهداف واضحة أمام القناص الإسرائيلي.

بل إن الاستهداف تجاوز الدرع الواقي إلى قصف أماكن تواجد الطواقم الدوليين، ففي ردّها على ادّعاء جيش الاحتلال وجود خطأ في التشخيص إبّان هجومه على قافلة المطبخ المركزي العالمي في الأول من أبريل/ نيسان وقتله 7 موظفين، أكدت منظمة هيومن رايتس ووتش الجريمة باعتبارها الهجوم الثامن، مضيفة أن الجيش يستخدم الإحداثيات التي تزوده بها منظمات الإغاثة ووكالات الأمم المتحدة لمهاجمة القوافل والمباني دون تحذير مسبق، بينما أكد تحقيق لـ”نيويورك تايمز أن الجيش تجاهل أدلة مرئية واتصالات داخلية مع منظمات الإغاثة تثبت عدم وجود مسلحين.

ليعزز هذا الاستنتاج إسقاط البروتوكول الدولي الخاص بـ”نظام منع الاشتباك” الهادف لحماية العمليات الإنسانية في المناطق الحربية بالتنسيق المسبق مع الجهات العسكرية، في مقابل حماية عمال الإغاثة والسماح لهم بتقديم المساعدات الإنسانية المنقذة للحياة بشكل آمن.

الجغرافيا تقف ضد المساعدات الإنسانية

يمكن حصر التحديات التي تواجه العاملين الإنسانيين في عمق القطاع باستهداف الاحتلال وندرة الإمكانيات مقابل اتساع رقعة الاحتياج، إلا أن تحديات أخرى تواجه العاملين في الإغاثة في الجغرافيا المحيطة (معبر رفح، الحدود الأردنية والمصرية).

حيث يرى رئيس هيئة المساعدات الإنسانية والإغاثة الماليزية (مهار)، جسمي جوهري، أن غياب الوحدة الدولية والأممية تسبّبت في تشتيت الجهد وزيادة تكاليفه على الدول البعيدة، لافتًا إلى أنه رغم تكدُّس الوفود والمساعدات بشكل مهول في معبر رفح، لكنها لم تبادر لإنشاء جسم موحّد يعمل على تقديم المساعدات بشكل منظم ومنهجي وفقًا لما يفرضه الميدان من احتياجات، وليس ما يفترضه المتبرعون والهيئات الإغاثية.

صورة لصندوق دقيق ملطخ بالدماء في 29 فبراير/ شباط 2024.

لفت جوهري النظر أيضًا إلى تجربة دولة ماليزيا في هذا المجال، والتي تداعت منذ اللحظة الأولى من الحرب لإنشاء جسم موحّد من المنظمات الخيرية المهتمة بقضية فلسطين يفوق تعدادها الـ 50 منظمة، تتابع مع الجهات الحكومية مهمة إرسال المساعدات وإيصالها، معتبرًا أن هذا الجسم لم يهمل خصوصية أي منظمة بل دعم توجهاتها المختلفة، وساهم في خفض تكاليف النقل والشحن عليها، وطرح خيارات بديلة لإغاثة أكثر فعالية، بل عزز من الدور الإغاثي وحجمه.

رغم ذلك بقيَ العمل الإغاثي دون الحاجة والمتوقع والمستوى، حيث رصدت وكالات الأمم المتحدة في قطاع عزة دخول ما معدّله 112 شاحنة يوميًا منذ نهاية أكتوبر/ تشرين الأول، مقابل 500 شاحنة يوميًا يحتاجها القطاع بالحدّ الأدنى لتلبية احتياج سكانه في الوضع الطبيعي.

على الجانب الآخر، إن هذا المعدل لا يعكس حقيقة المستوى الإغاثي أو وصوله، فخلال الفترة الواقعة ما بين يناير/ كانون الثاني 2024 ومايو/ أيار 2024 ارتكبت قوات الاحتلال أكثر من 26 مجزرة مساعدات عُرفت بـ”مجازر الطحين”، حيث قامت طائرات ودبابات الاحتلال باستهداف القوافل الإغاثية بعد دخولها للقطاع وتجمهر السكان حولها، ما تسبّب في استشهاد المئات من المواطنين.

وضعت هذه التهديدات المنظمات الإنسانية أمام سلسلة من العقد، تبدأ في التجهيز للمساعدات وملاءمتها للميدان، ومن ثم شحنها وترتيب تخزينها في الشاحنات والحاويات، يليه تفتيشها قبل معبر رفح وبعده في ضوء البطء الإسرائيلي المتعمّد في تسييرها والإتلاف والمصادرة للكثير من الضروريات منها، فيما وثقت عدة مشاهد لطرود غذائية تصل إلى الفلسطينيين تالفة أو منتهية الصلاحية، دون أن تملك العائلات رفاهية التخلص منها في ظل المجاعة والشحّ الشديد.

الإنزال الجوي بديلًا لشاحنات المعبر

لجأت الدول إلى آليات أخرى مع صعوبة الإدخال البري، وارتفاع معدلات المجاعة في الشمال نتيجة حصاره من قوات الاحتلال يزيد من فعالية العمل الإنساني بداية من فبراير/ شباط، تمثلت في الإنزال الجوي الذي بدأته المملكة الأردنية الهاشمية ثم تبعتها دول عديدة لتنفيذه، من بينها قطر ومصر والإمارات والسعودية وفرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة وألمانيا وغيرها.

لكن الإنزال الجوي للمساعدات جاء مصحوبًا بمخاطر أخرى، ميدانيًا وتقنيًا، فعلى الأرض ارتقى أكثر من 13 فلسطينيًا نتيجة سقوط المساعدات عليهم أو غرقهم خلال محاولتهم الحصول عليها، لا سيما أن إحداثيات الإنزال لم تكن دائمًا دقيقة، بل في بعض الحالات سقطت المساعدات على مستوطنات غلاف غزة.

كما أن نوعية المساعدات المقدمة كانت فقيرة غذائيًا وكمّيًا مقارنة بالمواد الغذائية والطرود التي تحصل عليها العائلات عبر الشاحنات، حيث كانت الأولى لا تكاد تكفي لشخص واحد وتمّ الترويج لها باعتبارها منقذة، فيما كانت الثانية تكفي لعائلة مكونة من 5 أشخاص على الأقل وتصنّف باعتبارها مشبعة.

مساعدات إنسانية يتم إسقاطها جوًّا على الفلسطينيين فوق مدينة غزة، قطاع غزة، 25 مارس/ آذار 2024.

أما تقنيًا، فما تمّ تأمينه عبر الإنزال الجوي من حجم وعدد المساعدات ونوعيتها كان أقل بمراحل عن تلك التي يؤمنها النقل البري، وللتغطية على ذلك استخدمت الدول معيارًا آخر للترويج لعملها الإغاثي باحتساب الإنزال الجوي وفقًا لعدد الوجبات وليس للطن المتري، ففي الثاني من مارس/ آذار أعلنت الولايات المتحدة تنفيذها 7 عمليات إنزال جوي قدمت خلالها أكثر من 200 ألف وجبة و50 ألف زجاجة مياه.

لكن الواقع كشف أن حزم المساعدات التي أُلقيت كانت معدّة للاستخدام العسكري لحالات الطوارئ، وأن الوجبات معدّة وفقًا لمنهج السعرات الحرارية ودون اعتبار لعوامل النكهة والشكل والرائحة، فيما لم يزد حجم الوجبة الواحدة عن 200 غرام فقط.

على الجانب التقني أيضًا، لعبت تكلفة الإنزال الجوي دورًا في سقوطه من خيارات الدول والمنظمات الخيرية، حيث تحتاج طائرة “سي 30” للوصول إلى شمال قطاع غزة من مطارات الأردن لتحليق مدته ساعتين، بكلفة تشغيلية تتجاوز الـ 30 ألف دولار، وبوجود طاقم مكوّن من 9 أفراد مؤهلين وخبراء في عمليات الإنزال.

بينما تتراوح حمولتها ما بين 3.2 طنات وحتى 10 طنات من المواد الغذائية والتي لا تكاد تكفي لإطعام 4 آلاف شخص، فيما يبلغ متوسط حمولة كل شاحنة بالحد الأدنى 22 طنًّا، مقابل تكلفة إدخال أقل من عُشر تكلفة الطائرة، وأمام حاجة سكان القطاع البالغ عددهم 2.4 مليون نسمة للمساعدة، يصبح الإنزال الجوي عبثيًا ودعائيًا ليس إلا.

الميناء البحري بديلًا للإنزال الجوي 

بعد جولة إنزالات جوية تسبّبت في خسائر بشرية في صفوف الفلسطينيين وانتقادات دولية لنوعية المساعدات وحجمها، وأمام استمرار إغلاق الاحتلال معبر رفح واستهدافه شاحنات المساعدات، أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال خطابه في 7 مارس/ آذار 2024 عن إنشاء ميناء بحري في غزة، سيقوم لواء النقل السابع في الجيش الأمريكي ببنائه خلال 60 يومًا.

فيما بدا أن الميناء مزاوجة للأدوار الحكومية والأدوار المنظماتية الإنسانية، كان الميناء في واقعه اختبارًا لاقتراح طرحه نتنياهو مسبقًا مع الرئيس القبرصي لاعتماد ميناء لارنكا كمنصة انطلاق ومحطة تفتيش إسرائيلية للمساعدات، ليكون بديلًا لمعبر رفح ولتكدُّس الشاحنات فيه.

شاحنات تحمل مساعدات تصل إلى شاطئ قطاع غزة عبر الرصيف البحري.

خلال 60 يومًا وبمشاركة أكثر من ألف جندي أمريكي من قوات “نحل البحار العسكرية”، وبمساندة لوجستية من القاعدة الأمريكية في سردينيا، وبدعم عربي ودولي (الإمارات وقطر)، وبصفائح فولاذية تمتد على طول 550 مترًا، استعد الميناء البحري الأمريكي لاستقبال أول سفينة مساعدات إنسانية، وبحمولة قدرها 200 طن رست السفينة على ساحل قطاع غزة، قادمة من ميناء لارنكا، ومحمّلة بـ 300 ألف وجبة، مقدمة من منظمة المطبخ المركزي العالمي التي تدار من قبل الطبّاخ الإسباني الأمريكي خوسيه أندريس بالتعاون مع الهلال الأحمر الإماراتي.

تنوعت حمولة السفينة بين 130 طردًا من المواد الإنسانية، و115 من المواد الغذائية والمياه، لكن الإشكاليات بقيت موجودة، فالتفتيش الأمني الإسرائيلي تكرر بعد تفريغ الحمولة، كما أن قصف قوافل التوزيع ووقوع ضحايا تكرر أيضًا، مبررًا ذلك بأن المقاومة الفلسطينية تتحكم في استلام المساعدات وتوزيعها.

أطقال يتفقدون الموقع الذي قتل فيه عمّال “مطبخ وورلد سنترال” في دير البلح، قطاع غزة، الثلاثاء 2 أبريل/ نيسان 2024.

وبينما حاولت المنظمات الإنسانية تقديم المزيد من الأدوار في استلام وتوزيع الطرود والوجبات الغذائية، بل طبخ الطعام وتوزيعه على الفلسطينيين مباشرة في مناطق مختلفة في القطاع، لسحب المبررات من جيش الاحتلال، أقدمت قواته على قصف مركبة تحمل موظفين للمطبخ العالمي المركزي.

حيث استهدفت طائرات الاحتلال في الأول من أبريل/ نيسان مركبة تضم 7 من موظفي المنظمة الأجانب، ما تسبّب في مقتلهم جميعًا وتوقف عمل المنظمة بشكل كامل في القطاع لأكثر من 3 أسابيع، لكن ذلك لم يحل دون تكرر عملية الاستهداف في 8 أغسطس/ آب في غارة جوية أخرى، ليستشهد موظف ثامن.

أما على الصعيد التقني، فقد بدا من الصعب استمرار عملية الإنزال البحري في ظل عمليات التفتيش الإسرائيلية المطولة، والانهيار المتكرر للميناء البحري، بعد إزالته لمرتين مؤقتًا بهدف إصلاحه، قبل إعلان إنهاء عمله في 17 يوليو/ تموز المنصرم، بعدما نقلت منظمات الأمم المتحدة عبره 137 شاحنة مساعدات، أي ما يعادل 900 طن متري.

لكن جانبًا آخر عمل على إنهاء عمله هو تداخل الجانب الإنساني والعسكري فيه، واستخدامه كآلية دعم أمريكية لجيش الاحتلال الاسرائيلي، تمثلت في نشر منصة صواريخ بجانبه، وتأكيد مشاركته الأمنية والعسكرية في مجزرة النصيرات، باستخدام شاحناته كغطاء للقوات الخاصة، ومحيطه كنقطة إخلاء لها.

سبق إيقاف عمل الميناء البحري إغلاق معبر كرم سالم أمام شاحنات المساعدات، ما عنى وقف دخول الشاحنات عبر معبر رفح، تحديدًا قبل يومين من احتلاله من قبل الاحتلال وهدمه في 7 مايو/ أيار، وهو ما وضع المنظمات الإنسانية أمام وضع صعب تغيب فيه خيارات الإنقاذ والإغاثة كليًا.

فلسطينيون يصطفّون للحصول على طعام في مخيم جباليا للاجئين في قطاع غزة في 18 مارس/ آذار 2024.

إثر ذلك توجّه برنامج الغذاء العالمي لتفعيل خط برّي يصل بين الأردن والمعابر الحدودية شمال قطاع غزة، اُستخدم سابقًا نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2023، حيث يمكن من خلاله للمنظمات الإنسانية نقل مساعداتها إلى شمال القطاع، بالتزامن مع إعلان الاحتلال فتح معبرَين آخرين يصلان الأراضي المحتلة بقطاع غزة، هما معبر بيت حانون إيريز ومعبر كرم أبو سالم.

لكن هيئة المعابر بقطاع غزة نفت دخول شاحنات مساعدات عبرهما، وفنّدت ادّعاءات الاحتلال، فيما أشارت مصادر أردنية إلى أن القوات المسلحة الأردنية والهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية بالشراكة مع برنامج الغذاء العالمي (WFP)، تمكنت من تسيير قافلة مساعدات وصلت إلى 115 شاحنة.

وما زال هذا هو خط المساعدات الوحيد المتاح حاليًا للمنظمات الإغاثية غير الحكومية، والذي يتعرض لهجوم مكثف بين الحين والآخر من جماعات المستوطنين ومن جيش الاحتلال، ويتم تقييده بين الحين والآخر، فيما يتولى المستوطنون مهمة إغلاق المعابر مع الاحتلال وإتلاف المساعدات قبل وصولها.

الأجهزة الحكومية بديلًا للمنظمات الإنسانية

بالنظر المعمّق إلى آليات الإغاثة والمساعدة الإنسانية على مدى أشهر الحرب، يتضح أن حجم الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان وضربها الحائط بالقرارات الدولية ونداءات المنظمات الإنسانية، وحالة القطيعة التي تفاعلت وارتفعت بينها وبين العديد من دول العالم الرافضة لحربها، تركت آثارًا عميقة على واقع العمل الإنساني في قطاع غزة.

وصل إلى درجة كبيرة أصبح فيها وجود المتطوعين والموظفين الدوليين في القطاع انتحارًا، لا سيما بعد استهداف طواقم المطبخ المركزي العالمي عدة مرات، رغم علاقة مؤسسه الوطيدة بالرئيس الأمريكي جو بايدن، ورغم تزويده سلطات الاحتلال بإحداثيات دقيقة ومحدثة لمواقعها وأنشطتها.

كما أن الاستهداف المتعمد للموظفين الأمميين من مواطني القطاع أو الأجانب جعل أي جهد إغاثي حتى على صعيد فردي يغدو مخاطرة محفوفة المخاطر، فالهدف الإسرائيلي من حرب غزة هو الإبادة، ولا تكتمل الإبادة إلا بقطع كل شرايين الحياة مهما كانت مصادرها وأشكالها.

ومن الملاحظ أن آليات الإغاثة والمساعدة الإنسانية تحورت خلال أشهر الحرب من جهد أممي غير حكومي، إلى جهد حكومي خالص بتمويل متداخل مع جهات غير حكومية، تأتّى ذلك بحملات التبرع والإغاثة في الدول العربية التي حرصت الأنظمة على حصرها بأذرع حكومية أو مدعومة حكوميًا.

يمكن أن يفسَّر ذلك بطبيعة العلاقة السياسية والأمنية التي ربطتها بالاحتلال، ما دفعها إلى جعل المساعدات خاضعة لسقفه ومتطلباته لا لسقف احتياجات السكان الفلسطينيين، كما حرصت على أن تكون آلية تقديم المساعدات غير مثيرة لاستفزازه ولا تصبّ في صالح المقاومة الفلسطينية وتعزيزها، بقدر ما تسهم في الإبقاء على رمق الحياة للفلسطينيين.

إبحار سفينة المساعدات من ميناء الفجيرة في الإمارات إلى مدينة العريش تمهيدًا لإدخالها إلى قطاع غزة.

على سبيل المثال، أطلقت الإمارات عمليتَي “الفارس الشهم 3” و”طيور الخير” تحت مظلة حكومية، تتضمن كلًّا من قيادة العمليات المشتركة بوزارة الدفاع والقوات المسلحة، ووزارة الخارجية والتعاون الدولي، ووزارة الداخلية، والهلال الأحمر، ومؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية، ومؤسسة خليفة بن زايد آل نهيان للأعمال الإنسانية، وشركة طموح والمكتب الوطني للإعلام.

وفي مصر اضطلعت وزارة التموين والتجارة الداخلية واللجنة العامة للمساعدات الأجنبية بهذه المهام، بينما في الأردن تولت الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية بالتعاون مع القوات المسلحة الجوية والبرية مهمات الإنزال الجوي للمساعدات، وتسيير المساعدات في المعبر البري بين الأردن وغزة، وفي السعودية كان مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية مسؤولًا عن جمع المساعدات وتسييرها.

أما في قطر كان لصندوق قطر للتنمية، واللجنة القطرية لإعادة الإعمار في غزة، وقطر الخيرية الدور الأعظم في العمل الإنساني والإغاثي، بينما واصلت المؤسسة الملكية للأعمال الإنسانية واللجنة البحرينية الوطنية لإغاثة الشعب الفلسطيني في غزة مسؤولية تنظيم المساعدات وإيصالها من البحرين إلى قطاع غزة.

من غير المستبعد أن تنفصم المساعدات الإنسانية “المحوكمة” عن أي جهد أو تعاون سياسي أو أمني مع الاحتلال، وهو ما ظهر في طبيعة مساعدات بعض الدول في حروب سابقة، والتي أقدمت على إدخال قوات أمنية واستخباراتية تحت غطاء طبّي وإنساني.

كما لن تنفصم بأي حال من الأحوال عن رغبتها في تقنين تفاعل جمهورها مع القضية الفلسطينية والحرب الإسرائيلية على القطاع، وحصرها في قنوات حكومية لا تختلف عن موقف النظام الرسمي من مجريات الحرب، ولا تتيح لجهات “تحت حكومية” مثل الأحزاب المناوئة والجماعات الإسلامية الاستفادة من الجهد الإغاثي لرفد رصيدها الشعبي والمجتمعي.

على العكس من ذلك، كانت دول العالم الأخرى، التي أطلقت العنان للمنظمات الإنسانية وغير الحكومية بغض النظر عن خلفيتها الدينية أو الاجتماعية، للمشاركة في إسناد الفلسطينيين في قطاع غزة، حيث تصدرت المنظمات الإغاثية في الاتحاد الأوروبي وتركيا وجنوب شرق آسيا مهمة المساعدات، ما انعكس على طبيعة المساعدات وتأثيرها.

تشير المسؤولة الإنسانية نورما هاشم، إلى أن العمل الإغاثي الإنساني في جنوب شرق آسيا اعتمد احتياجات الفلسطينيين بوصلة له وليس البرامج الإغاثية الإنسانية العامة، كما تقاطع في الوقت نفسه مع استمرار المقاطعة الاقتصادية وتفعليها بالتعاون مع BDS، ورفع الوعي الشعبي والجماهيري بالقضية الفلسطينية من خلال المؤتمرات واللقاءات والمهرجانات الجماهيرية.

لذا كانت مساعدات المنظمات الإغاثية أكثر تنوعًا وتلبيةً لحاجة الميدان، وأكثر سرعة في وصولها وتجهيزها من المساعدات الحكومية، إلا أن إغلاق المعبر البري والحاجة للتنسيق عبر الإنزال الجوي أو الميناء البحري قلّصا من فعاليتها، وأحالاها إلى سلطة الدولة والحكومة، ما أخضعها بالتالي للتراتبيات السياسية التي تحكم العلاقة بين المنظومة الحكومية الخاصة بها ودولة الاحتلال.

ويلفت رئيس منظمة My CARE في جنوب شرق آسيا، البروفيسور كمال نصر الدين بن مصطفى، النظر إلى أن كثيرًا من الجهد الإغاثي والإنساني كان مقيدًا بهذه العلاقة، فالوفود الماليزية الطبية استطاعت في حروب سابقة دعم القطاع الصحي في قطاع غزة، لكنها اليوم لم تستطع ذلك بشكل واسع، معتبرًا أن الموقف الرسمي الرافض والمندد بالحرب جعل من غير المستبعد على الاحتلال استهداف الوفود الماليزية للثأر من الحراك الحكومي القوي ضد الإبادة والاحتلال والرافض للتطبيع، مشيرًا في الوقت ذاته إلى أن تاريخ الاحتلال لاستهداف النشطاء الأجانب لا يترك مجالًا للمجازفة.

سفينة “مافي مرمرة” التركية التي أبحرت إلى غزة لكسر الحصار عنها في العام 2010.

وجهة النظر هذه قد تبرر المحاولات اليائسة لتسيير سفينة “مافي مرمرة 2” من الشواطئ التركية بمشاركة فعلية من 12 دولة، وأكثر من 50 ناشطًا حول العالم لكسر الحصار الإسرائيلي عن قطاع غزة، وفيما لم تستطع السفينة الوفاء بمسيرها الأول في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، فإنها أيضًا لم تحظَ بدعم لتأمين مسيرها الثاني الذي أعلنت عنه في 15 أبريل/ نيسان المنصرم.

وإن كانت تركيا قد حافظت على نوع من العلاقة الدبلوماسية نهاية العام المنصرم، يتيح لنشطائها تخيُّل دور بطولي في كسر الحصار عن غزة، إلا أنها وبُعيد الخسارة المدوية لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية، وإعادة النظر في موقفه المتراخي من حرب غزة، وتشديد الخطاب في مواجهة الاحتلال، أصبح من المستبعد والخيالي انطلاق السفينة.

لا سيما أن هيئة الإغاثة الإنسانية التركية المسؤولة عن تنسيق قافلة المساعدات اعتمدت على التنسيق الكامل مع السلطات التركية والرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس المخابرات التركية، في تأمين ترتيبات إبحار أسطول المساعدات، وضمان عدم تكرار مجزرة أسطول الحرية قبل 12 عامًا.

كما أن الأسطول يضمّ سفينة ليبية ستغادر ميناء مصراتة، وسفينة لبنانية ستغادر صيدا، وسفينة تركية أخرى من أحد الموانئ التركية، وبعيدًا عن طبيعة العلاقات التركية الإسرائيلية “غير المشجّعة”، فإن غياب العلاقة بل عدائيتها بين الاحتلال وليبيا ولبنان يزيد من صعوبة الحراك وأمن ناشطيه، وهو ما لا يمكن ضمانه وتأكيده رغم وجود مشاركة أوروبية (السويد وإسبانيا وألمانيا والنرويج) وأمريكية (الولايات المتحدة وكندا) نشطة، في ظل الاستهتار والغطرسة الإسرائيلية، ومنعها الحكومة التركية من تنفيذ إنزال جوي للمساعدات على شمال قطاع غزة، رغم الترحيب الأردني له.

وفيما كانت “القناة الإسرائيلية 12” قد كشفت أن الاحتلال اتخذ قراره بإيقاف الأسطول بقوة السلاح، مطلقًا لذلك استعداداته السياسية والأمنية والعسكرية، إلا أنها رجّحت أن استخدام سفن غير مؤهّلة للرسو أو الإنزال البحري على شواطئ غزة، تؤكد أن هدف القافلة استفزاز “إسرائيل” وإحراجها دوليًا وسياسيًا.

“القناة الإسرائيلية 13” أغلقت الجدال بكشفها أن المسؤولين الأمنيين في دولة الاحتلال أبلغوا نظرائهم الأتراك رفضهم الصريح، وتوجّههم لمنع وصول القافلة التي يشارك فيها أكثر من 1200 ناشط وصحفي وبرلماني، بل إن المستوى الحكومي طلب من كل من الولايات المتحدة وبريطانيا التدخل الصريح لمنع تحرك القافلة البحرية من الشواطئ التركية.

لماذا فشلت المنظمات الإنسانية في كسر الحصار؟

أدوار وفعالية المنظمات الإنسانية مهما كانت كفاءتها وخبرتها في العمل الإغاثي والإنساني، بقيت محدودة ومأزومة مقابل الحصار الإسرائيلي الكامل على قطاع غزة، والتهجير المتكرر للسكان، وقصف جميع أشكال أنشطة التكافل والعمل المجتمعي حتى لو كانت مجرد مبادرة في باحة مدرسة تأوي نازحين.

كما لا يمكن بأي حال من الأحوال فصل الديناميكية الإنسانية عن ديناميكية الحكومات نفسها في تعاملها مع الاحتلال الإسرائيلي، ففيما حظيت الدول الداعمة للعدوان أو المتماهية معه بإمكانية تسيير المساعدات والإنزال الجوي والبحري، تعرضت الدول الرافضة له للنبذ الشديد وتقليص لأدوارها الإنسانية، وينطبق ذلك حتمًا على منظماتها الإنسانية حتى لو كانت مدعومة من أذرع معارضة للحكومة القائمة، أو منفصلة عنها، فالنظرة الإسرائيلية للحكومات والدول كانت كلية وشاملة للرفض والقبول.

يحيلنا ذلك، بالتزامن مع حصر العمل الإنساني العربي بالشكل الحكومي الرسمي فقط، ومحاربة جميع أشكال التبرع وجمع المساعدات للشعب الفلسطيني خارج نطاق الحكومة ومؤسساتها، واعتقال عدد من النشطاء الفاعلين في هذا المجال، إلى أن العمل الإغاثي والإنساني اُستخدم كأداة تبييض لأدوار “سوداء” أخرى لها في خضمّ الإبادة.

ينطبق ذلك ولا شك على الدول العربية في استخدامها للعمل الإنساني وعملياته “فاقعة التسمية” للتعمية على أدوار أمنية ولوجستية أخرى تدعم قوة الاحتلال وبقاءه، على حساب الحفاظ على النفس الأخير للفلسطيني فقط لا غير، فكما كانت حدود موقفها من الإبادة لا تتجاوز الموقف الرسمي والتصريحات، حافظت أيضًا المنظمات الإنسانية التي تعمل باسمها أو تحت جناحها على حدود الموقف الرسمي ولم تتخطاه.

هناك عوامل أخرى أيضًا مثل دور الجاليات الفلسطينية في الدول، والعلاقة بين الحراك الشعبي والحراك الإغاثي، فلم يحدث أن تجاوز عمل المنظمات الإنسانية لأي دولة من الدول مستوى الفعل الشعبي والجماهيري، بل كان الثاني دافعًا ومحركًا للأول.

بالمحصلة..

إن توقع إحداث المنظمات الإنسانية تأثير أو تحريك للمواقف الرسمية لكسر “عظيم” كالحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، ليس منطقيًا ولا عقلانيًا حتى في أكثر المجتمعات والأنظمة ديمقراطية، فالحراك الشعبي يملك تأثيرًا أكبر منها، والقبضة الحكومية أقوى من الفكرة ذاتها، بينما فكّ الحصار الإسرائيلي على غزة يمثل خطوة طموحة لا تخطر حتى ببال الرئيس الأمريكي ولا الأمين العام للأمم المتحدة، حتى لو ترددت على شكل تصريحات على لسان مسؤول هنا ورئيس هناك.

ربما تكون المساعدات الإنسانية “إنسانية” حقًّا، في مرحلة ما، ومن المحتمل أن تكون أداة سياسية أو مسرحية دعائية في مراحل أخرى، لكن أبرز ما قد تمثله الآن هو اعتبارها مدخلًا إسرائيليًا بعتبة “عربية أو دولية” لمزيد من السيطرة على القطاع وإخضاع أهله، ليس إلا.