التمارين والصحة العقلية.. لماذا لا يقتنع المكتئبون بالرياضة؟

كثيرًا ما نسمع أنّ التمارين الرياضية تعمل بشكلٍ فعّال وناجح في التحسين من الحالة النفسية والمزاجية للفرد، تمامًا كما تعمل على الحفاظ على صحته العقلية على المديْين البعيد والقصير. ولهذا، فعادةً ما يتلقّى الأشخاص الذين يعانون نوعًا من الاكتئاب أو غيره من الاضطرابات النفسية بممارسة الرياضة والالتزام بها.
لكن نصيحة كهذه، لو كنتَ أنتَ المكتئب، ستكون بلا شكٍ ثقيلةً جدًا وخارجة عن دائرة المقدور عليه. ففي لحظات اكتئابك قد يكون آخر ما يخطر على بالك أو ترغب بفعله هو ترك سريرك أو أريكتك للخروج لممارسة الرياضة، أو حتى لممارستها في بيتك. عوضًا عن أنّ الاكتئاب غالبًا ما يرتبط بالعديد من العادات غير الصحية مثل الإفراط بتناول الطعام غير الصحي أو مشاكل في النوم، أو اللجوء للشرب والتدخين. فهل تحسّن الرياضة من حالتك أثناء مرورك بفترة اكتئاب؟
لماذا لا يقتنع المكتئبون بالرياضة والتمارين؟
بدايةً، علينا أنْ نفهم أنّ مَن يُعاني من الاكتئاب سيعاني صعوبةً في تصديق أو الإيمان بأنّ للرياضة قدرةً جيدة على تحسين مزاجهم ومساعدتهم في تجاوز مشاعرهم السوداوية، فهذا الشخص بالنهاية يواجه صعوباتٍ حقيقية في الإقبال على أيّ عملٍ مهما كان، بدءًا من النهوض من السرير أو الاستحمام وارتداء الملابس أو الخروج من المنزل، أو إعداد وجبات الطعام وتنظيف الأطباق والقيام بالأعمال المنزلية وقد يصل الأمر حتى إلى صعوبة في الردّ على مكالمات الهاتف والإجابة على الرسائل الواردة.
يصعب على المكتئب القيام بالتمارين الرياضية نظرًا لإصابته بالاعتلال الحركي النفْسي أي تباطؤٍ في التفكير والحركات البدنية لدى الفرد
ويرجع الأمر لسببين أساسيّين ربّما؛ أولهما هو أنّ أولئك الأفراد المكتئبين يعانون من ما يمكن تعريفه باللغة العربية بمصطلح “الاعتلال الحركي النفْسي” أو “Psychomotor retardation“، وهو أحد أعراض الاكتئاب الذي ينطوي على تباطؤٍ في التفكير والحركات البدنية لدى الفرد، كما يظهر جليًّا في التفاعلات الجسدية والعاطفية بما في ذلك الكلام والأحاسيس أو المشاعر. ما يعني أنّهم فعليًا يتحرّكون أو يتحدثون أو حتى يفكرون ببطءٍ أكثر من غيرهم.
أمّا السبب الآخر فيرجع إلى فقدان المكتئب للقدرة على الحصول على المتعة واللذة في الأنشطة والفعاليات التي عادةً ما تكون ممتعة في الظروف العادية والصحية مثل التواصل الاجتماعي والتعبير عن النفس والقيام بالتمارين الرياضية والنشاط الجنسي أو ممارسة الهوايات المحبّبة. يُعرف هذا العرَض في علم النفس بمصطلح “anhedonia” أو “انعدام التلذّذ”، وهو أحد الأعراض الأساسية للاضطراب الاكتئابي وغيره من الاضطرابات العقلية. وبالتالي، تفقد الأشياء والنشاطات بريقها وقيمتها عند المكتئب، سواء عند توقّع لذتها أو حتى عند القيام بها وإنجازها.
يعاني المكتئب من “انعدام التلذّذ” أي فقدانه للقدرة على الحصول على المتعة واللذة في الأنشطة والفعاليات التي عادةً ما تكون ممتعة في الظروف العادية والصحية
ولهذا السبب فمجرّد معرفتهم من أنّ الرياضة والتمارين يعملان على تحسين مزاجهم والحدّ من شعورهم السلبيّ لن يفيدهم بشيء، فاللذة الناتجة عن أيّ شيءٍ مفقودة كليًّا أو جزئيًا. وفهم المكتئب أو المحيطين به لهذين السببين قد يكون الخطوة الأولى في طريق حلّ المشكلة والبداية بالعلاج، سواء عن طريق المساعدة الذاتية أو من خلال اللجوء إلى الطبيب أو المعالِج النفسي، ويمكن أنْ يتضمن الحلّ بعض الأدوية أو العلاجات النفسية أو بعض الفعاليات مثل التأمّل أو ممارسة الرياضة والتواصل الاجتماعيّ مع الآخرين وغيرها.
هل تفيد الرياضة في الاكتئاب حقًا؟
بيولوجيًّا، يؤدي التمرين إلى العديد من الفوائد الصحية مثل الحماية ضد أمراض القلب والسكّري وخفض ضغط الدم وعلاج الالتهابات وتحسين النوم. كما يعمل من جهةٍ أخرى على تحفيز عملية إطلاق نوعٍ خاص من البروتينات تسمّى “عوامل التغذية العصبية Neurotrophic factors“، وهي مجموعة من الجزيئات الحيوية التي تدعم نمو وبقاء وتمايز كل من الخلايا العصبية النامية والناضجة، ولهذا يُطلق عليها أيضًا اسم “عوامل النموّ”. تساعد هذه البروتينات في نموّ الخلايا العصبية وتكوين روابط جديدة بينها، الأمر الذي يحفّز من وظائف الذاكرة والتعلّم والعديد من وظائف الدماغ لا سيّما منطقة “الحُصين Hippocampus”، التي تساعد في تنظيم المزاج وتحسينه، وفقًا لنتائج العديد من الدراسات.
كما تعمل التمارين الرياضية على زيادة مستويات هرمون الإندورفين الذي يتفاعل مع المستقبلات في دماغك من أجل التقليل من إدراكك للألم، وهو بالتالي بمثابة المسكّنات أو مهدّئات الألم مثل المورفين وغيره من الأدوية التي يمكن أنْ تسبّب الإدمان. يُنتج الإندروفين في منطقة ما تحت المهاد والغدة النخامية في الدماغ، ويعمل على تنشيط مستقبلات الأفيون في الدماغ التي تقوم بدورها بتقليل الشعور بعدم الراحة وإدراك الألم. كما يعمل أيضًا على إثارة مشاعر النشوة والبهجة.
قدمت بعض الدراسات أدلة واضحة على أنّ الأشخاص النشيطين بدنيًا لديهم احتمالات أقل للإصابة بالقلق والاكتئاب مقارنةً بمن لا يمارس الرياضة
من جانبٍ آخر، فثمة عدد من الدراسات لم تجد أيّ علاقة بين التمارين الرياضية وإفراز الإندورفين، لكنها في الوقت ذاته لا تنفي أبدًا أيّ قدرة للتمارين في تحسين المزاج والنفسية. فإنْ لم يكن الإندورفين هو المحفّز للشعور بالتحسّن والبهجة، فتخبرنا تلك الدراسات أنّ السيروتونين والأدرينالين قد يكونان هما السبب.
كما قدمت بعض الدراسات أدلة واضحة على أنّ الأشخاص النشيطين بدنيًا لديهم احتمالات أقل للإصابة بالقلق والاكتئاب مقارنةً بمن لا يمارس الرياضة، ويرجع السبب ربّما إلى أنّ التمارين الرياضية تعمل على مساعدة الدماغ في التأقلم بشكلٍ أفضّل مع الإجهاد والضغوطات الحياتية. في إحدى الدراسات، وجد الباحثون أن أولئك الذين يلتزمون بتمارين منتظمة كانوا أقل عرضة للإصابة بالاكتئاب أو اضطراب القلق بنسبة 25٪ خلال السنوات الخمس التالية للدراسة.
علاوةً على ذلك، تبين أن التمارين المنتظمة تحسّن من تقدير الشخص واحترامه لذاته، وهو أمر مهمّ جدًا للحفاظ على الصحة العقلية والنفسية الجيدة. كما يمكن أن توفّر التمارين الرياضية العديد من الفرص للتواصل مع الآخرين اجتماعيًا، وهو ما يعود بالفائدة على الصحة العقلية بكلّ تأكيد.
الزمن الذي تحتاجه للتحسّن
من غير الواضح كم من الوقت يحتاج المكتئب لممارسة الرياضة قبل أن يبدأ تحسين الخلايا العصبية في التخفيف من أعراض الاكتئاب، لكنّ هذا التحسّن يبدأ بشكلٍ عام بعد عدة أسابيع من بدء التمرين. لذلك ينصح الخبراء النفسيّون بضرورة المحافظة على وتيرة معيّنة ومتزايدة بهدف المحافظة على الأداء والاستمرار فيه؛ كأنْ تبدأ على سبيل المثال بخمس دقائق في اليوم من المشي أو أي نشاط تستمتع به، ثمّ تتبعها بعشر دقائق في اليوم التالي، و15 دقيقة في اليوم الذي يليه، وهكذا حتى تستطيع استعادة لذّتك ومتعتك في هذا النشاط والاستفادة المثمرة من نتائجه.
بالنهاية، توصي بعض الدراسات بممارسة ما يتراوح من 45 دقيقة إلى ساعة ثلاث مرات أسبوعيًا ولمدّة 10-14 أسبوعًا. لكن في الوقت ذاته فالأوقات القصيرة من التمارين أو النشاط البدني، من 10 إلى 15 دقيقة، قادرة أيضًا على إحداث فرقٍ في النفسية والمزاج. وقد يستغرق منك وقتًا أقصر للوصول إلى النتيجة المطلوبة حين قيامك بالتمارين التي تحتاج لنشاطٍ وطاقةٍ أكثر، مثل الركض وركوب الدراجات والسباحة.