قطع من حجر الحلان، أصباغ ومعاول تنتشر في أسواق مدينة الموصل، ليس لغرض إعادة الإعمار ولكن لأجل إعادة دفن الموتى الذين لم تسعفهم الحرب بقبر يحمل رفاتهم، ولا حتى شاهد ضريح يحمل اسمهم ويعنون الموقع الذي يواريهم تحت التراب.
الآلاف من أهالي الموصل قضوا في حرب استعادة الموصل من قبضة تنظيم داعش، حيث قدرت أعدادهم وفق تقارير صحفية بـ40.000 شخص، غالبيتهم دفنوا تحت أنقاض منازلهم أو قام ذويهم بدفنهم في حدائق المنازل أو في أي أرض فارغة تصلح للحفر، حيث تعذر الوصول للمقابر الرئيسية في طرفي المدينة.
شواهد قبور صنعت حديثًا لمتوفين منذ عام 2015
“وادي عقاب” أحد أكبر مقابر المدينة في الجانب الغربي للموصل، يلاحظ الزائر لها عدد غير محدود من القبور الجديدة والشواهد التي وضعت حديثًا لكن العجيب أن غالبيتها تحمل تاريخ الوفاة يعود لسنوات حكم داعش للمدينة.
تجارة دفن الموتى تزدهر رغم الركود الاقتصادي
“نقاش القبور” مهنة وتجارة تزدهر في مدينة يعاني اقتصادها الكثير من المطبات على أعقاب الخروج من حرب مدمرة قضت على البنية التحتية للمدينة وأخرجت أسواقها الرئيسية من الخدمة.
قبور جديدة تعود تاريخ وفاة اصحابها لفترة حكم داعش
فعند زيارتك لسوق المدينة الرئيسي في الجانب الأيسر وعند سفح تل جامع النبي يونس – عليه السلام – تلاحظ محل لنقش وبيع شواهد القبور وهو في حالة ازدهار وعمل متواصل، وعند التدقيق في الشواهد المنتجة ستجدها بتواريخ وفاة تتراوح بين عامي 2015 و2017!
هناك عدد كبير من العوائل ما زالت لا تعرف شيئًا عن مصير أولادها
المشهد هناك سوف يقودك لحجم المعاناة لأهالي انتظروا سنوات ليدفنوا ذويهم بالطريقة المناسبة، هذا الواقع يجسد أحد أقسى وجوه الحياة التي عاشتها المدينة في السنوات الماضية وما زالت ارتداداتها مستمرة.
إعادة دفن الموتى رفاهية لا يقدر عليها الجميع
في طريق عودتي من السوق لإعداد هذا التقرير وكعادة سائق سيارة الأجرة في تُبادل أطراف الحديث مع الزبون، عرف أنني صحفي أُعد تقريرًا عن موضوع إعادة دفن الموتى فقال بطريقة تهكمية ردًا على تأثري بما شاهدت عند نقاش القبور: “جيد أنهم يمتلكون المال ويعرفون أين مكان قتلاهم”، مؤلم هذا الرد بكل تأكيد لكنه يعكس حقيقة الكثير من العوائل التي لا تمتلك مبلغًا قد يتجاوز 200 دولار لإعادة دفن الموتى بمدافن نظامية وهو ثمن استخراج الميت ثم حفر القبر الجديد ووضع الشواهد.
محل بيع شواهد قبور في الموصل
كما أن هناك عددًا كبيرًا من العوائل ما زالت لا تعرف شيئًا عن مصير أولادها، في جلسة شاي سريعة مع أحد الأصدقاء القدماء في مقهى بالموصل القديمة ذكر لي 5 أشخاص اعتقلهم تنظيم داعش خلال فترة حكمه ولا يزال مصيرهم مجهولاً وذويهم يعتبرونهم في عداد الموتى، فيما تتعلق الكثير من العوائل بأمل ضعيف وتطالب بشكل مستمر ومتكرر الحكومة العراقية والجهات المعنية بكشف مصير ذويهم لكن دون أي نتيجة أو إجراء حقيقي يمكن أن يعول عليه.
فحوصات الحمض النووي وإعادة توثيق المقابر الجماعية المنتشرة في عموم مناطق سيطرة التنظيم قد تعطي الإجابات لأمهات وزوجات ثُكلن بأبنائهن ورجالهن دون مصير معروف أو قبر يزار
في أقصى غرب المدينة هناك موقع حفرة كبيرة حادثة نتيجة نيزك، أو انكسار في طبقة الأرض يدعى “الخسفة” استخدمها التنظيم لإلقاء جثث معارضيه الذين تم تصفيتهم مما جعل استرجاع الجثث عملية عسيرة جدًا بعد مرور هذه السنوات وكثرة ما ألقي فيها من ضحايات.
لكن، عند مغادرة تنظيم داعش الموصل ترك أرشيفًا ضخمًا قد يكون أحد حلول كشف مصائر الكثير من أبناء الموصل المفقودين، كما أن فحوصات الحمض النووي وإعادة توثيق المقابر الجماعية المنتشرة في عموم مناطق سيطرة التنظيم قد تعطي الإجابات لأمهات وزوجات ثُكلن بأبنائهن ورجالهن دون مصير معروف أو قبر يزار فيوضع عليه الورد أو يقرأ له الدعاء من الأحباب الذين فارقهم.