في الوقت الذي يحاول فيها الرئيس الأمريكي إغلاق أبواب حروب نووية مخافة أن تقع، فإنه يفتح الباب واسعًا أمام حروب جديدة، السلاح فيها ليس الصاروخ الإيراني أو القنبلة الكورية بل الدولار الأمريكي واليوان الصيني، تلك هي الحرب التجارية التي اقتربت نُذرها ونُفخت الأبواق شرقًا وغربًا.
القرار الأمريكي بفرض رسوم على ما قيمته 50 مليار دولار من الواردات الصينية يكاد يقابله رد فعل صيني مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه، ومع توقعات الدخول في حرب عملات فإن المخاوف تزداد، والأسئلة تتوارد عن مدى قدرة الولايات المتحدة استغلال هيمنة الدولار، وكذلك النظام المصرفي.
موقع الدولار الأمريكي
استطاع الدولار الأمريكي الحفاظ على صدارته في جميع الأسواق المالية العالمية منذ ما يقرب من مئة عام، ما أتاح له الاستحواذ على النصيب الأكبر من الاحتياطات النقدية في دول العالم كافة وفي المؤسسات الدولية، وهو ما يرجع بصورة كبيرة إلى طبيعة النظام النقدي العالمي الذي اتسم بالهيمنة الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية.
وقد أتاحت الحرب العالمية الأولى وما تبعها من مشكلات اقتصادية لأوروبا عامة، وبريطانيا خاصة، للدولار فرصة هائلة للصعود في الأسواق المالية إلى جانب الجنيه الإسترليني، ومع قرب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتحديدًا في يوليو 1944، تم عقد اتفاقية “بريتون وودز” التي أسست قواعد جديدة للنظام النقدي العالم، وتم الاتفاق على إقامة مؤسسة مالية نقدية تم إنشاؤها فيما بعد، وهي صندوق النقد الدولي.
الدولار عملة التسليع الأساسية للسلع الاستراتيجية في العالم مثل النفط، ومن ثم أصبح الدولار المكون الأساسي للاحتياطيات النقدية الأجنبية.
وقد تأسس النظام النقدي الجديد على أساس ربط عملات الدول الأعضاء بالذهب أو بالدولار، من خلال أسعار صرف ثابتة، وهو ما تضمن أيضًا تعهد الولايات المتحدة بقابلية الدولار للتحويل إلى ذهب، وكانت أمريكا تمتلك وحدها 25 مليون دولار من حجم الأرصدة المالية العالمية البالغ 38 مليون دولار، أي ما يقدر بثلثي إنتاج الذهب العالمي.
ﻛما كان يمثل إنتاجها نصف حجم الإنتاج العالمي في مجموعه، وﻛﺎﻧﺖ الولايات المتحدة آنذاك الدولة الوحيدة القادرة على تصدير السلع الزراعية والغذائية، بالإضافة للمنتجات الصناعية ورؤس الأموال، وهو ما جعل اعتبار الدول العملة الدولية المقبولة أمر طبيعي، وعلى الرغم من إلغاء الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون الارتباط بين الدولار الأمريكي والذهب في عام 1971، فقد استمر الدولار في الهيمنة على المعاملات الإستراتيجية وحركة التداول المالي في المؤسسات المصرفية العالمية.
يستخدم الدولار في نحو 90% من العقود التجارية على مستوى العالم
وهناك عدة عوامل ساعدت على احتفاظ الدولار بمركزيته في الأسواق العالمية، منها كثافة التداول، إذ إن الدولار يستخدم في نحو 90% من العقود التجارية على مستوى العالم، كما يدخل في تعاملات البورصات العالمية بكثافة قدرها 87% من إجمالي حجم التعاملات، ومن جهة ثانية، فإن الدولار عملة التسليع الأساسية للسلع الإستراتيجية في العالم مثل النفط، ومن ثم أصبح الدولار المكون الأساسي للاحتياطيات النقدية الأجنبية.
وتتمتع الولايات المتحدة باعتبارها صاحبة العملة الرئيسية في الاحتياطات الدولية بميزة “غير عادلة” مقارنة بدول العالم الآخرى، خصوصًا فيما يتعلق بقدرتها على إصدار أدوات دين تتجاوز الحدود الآمنة دوليًا، فضلاً عن قدرتها على طباعة المزيد من عملتها من دون أن يصاحب ذلك آثار كبيرة على مستوى اقتصادها الكلي.
نجحت الولايات المتحدة بعد أن ضمنت هيمنة الدولار على الاحتياطات الدولية أن تضع دول العالم في وضع المسؤول عن حماية احتياطاتهم واستثماراتهم الدولارية
وقد لجأت الحكومة الأمريكية في أعقاب الأزمة المالية العالمية عام 2008 لاتخاذ سياسات مالية توسعية كزيادة الإنفاق العام وزيادة عجز الموازنة وتخفيض سعر الفائدة إلى ما يقرب من الصفر، ولم تمنع تلك الإجراءات المستثمرين في الدول ذات الفائض، خاصة الصين من زيادة استثماراتهم في أمريكا على الرغم من الأزمة الاقتصادية.
وهكذا نجححت الولايات المتحدة بعد أن ضمنت هيمنة الدولار على الاحتياطات الدولية أن تضع دول العالم في وضع المسؤول عن حماية احتياطاتهم واستثماراتهم الدولارية، وفي الوقت نفسه أصبح بإمكان الولايات المتحدة زيادة الإنفاق من دون أن يتحمل الأمريكيون عبء هذه الزيادة.
وبالتالي أصبحت أهم صادرات أمريكا هي أوراق البنكنوت الدولارية، وأصبح الدولار مصدرًا للاقتصاد الأمريكي، وبهذه الميزة أصبح الاقتصاد الأمريكي من دون اقتصادات العالم قادرًا على زيادة الاستهلاك ورفع معدلات الاستثمار على الرغم من انخفاض معدلات الادخار المحلي، التي تعوضها المدخرات الأجنبية، وبالتالي لم تعد حماية الدولار مشكلة أمريكية فقط، بل مشكلة العالم في مجموعه.
الدولار كأداة لتحقيق المصالح السياسية
اتخذت أساليب الضغط الأمريكي عدة أساليب، منها فرض العقوبات المالية على بعض الدول التي تعتبرها دولاً “مارقة”، مثل فرض العقوبات الاقتصادية على العراق في أعقاب حرب الخليج الثانية، أو العقوبات المفروضة على كوريا الشمالية بسبب برنامجها النووي، أو بهدف معاقبة الدول التي تدعم الإرهاب، كما في الحالتين الليبية والإيرانية، أو حتى الدول غير الديمقراطية مثل ميانمار وهاييتي.
وتتركز العقوبات المالية على فكرة وقف التدفق الدولاري من وإلى الدولة المستهدفة، وهو ما يكون له أثر واسع حيث لا يتوقف فقط عند حدود تجميد الأصول المالية وحظر أو تقييد المعاملات الدولارية، ولكن يمتد الأثر أيضًا إلى إعاقة التجارة من خلال ما تخلقه تلك العقوبات من صعوبات للدفع مقابل الصادرات أو الواردات من السلع والخدمات.
وتقوم الولايات المتحدة بالرقابة على النظام المالي العالمي للتأكد من التزامها بتنفيذها العقوبات الأمريكية أو الدولية، وذلك من خلال إحدى الطريقتين، تتمثل الأولى في قيام المؤسسات المالية الخاصة كالبنوك بإبلاغ الحكومة الأمريكية بوجود أي انتهاك حقيقي أو مفترض للعقوبات المفروضة مع قيامها بتجميد الأموال التي تم تحويلها أو حتى رفض القيام بالتحويل المالي.
المادة 311 من القانون الوطني الأمريكي، والتي تخول وزارة الخزانة الأمريكية اعتبار مؤسسة مالية أو دولة أو جهة بأنها تقوم أو تسهل غسيل الأموال
أما الطريقة الثانية لاكتشاف الكيانات الخاضغة للعقوبات فتتم من خلال الفحص للبنوك أو من خلال التحقيقات التي يجريها مكتب مراقبة الأصول الأجنية التابع لوزارة الخزانة الأمريكية أو من خلال قيام أحد المصادر الموثوقة فيها بالإبلاغ عن تورط مؤسسة في عمليات مالية مع كيانات خاضعة للعقوبات.
وفي حالة اكتشاف تورط إحدى المؤسسات المالية في عملية تحويل مالي خاضغ للعقوبات من دون أن يتم تجميدها أو رفض القيام بالتحويل، فإنه يتم استدعاء المؤسسة المعنية والتحقيق معها وفرض عقوبات عليها أو مقاضاتها جنائيًا، وقد فرض مكتب مراقبة الأصول المالية مئات الملايين من الدولارات كعقوبات على المؤسسات المالية الأمريكية والأجنبية بسبب عمليات تحويل لكيانات خاضغة للعقوبات.
ويحتفظ مكتب مراقبة الأصول بقائمة للأفراد والشركات والكيانات التي يتم حظرها، ويُحظر على المواطنيين الأمريكيين أيضًا التعامل معها، وتستخدم مؤسسات التمويل الدولية أيضًا القائمة نفسها، وهي بصدد تقديم المساعدات والقروض الدولية للدول المختلفة، وهو ما يعد أداة إضافية في ترسانة الولايات المتحدة، فهذه القوانين والإجراءات تعيق الكيانات الخاضعة لهذه العقوبات من التعامل بالدولار، وهو ما قد يتسبب في شلل تام لمصالحها الاقتصادية، خاصة أن 90% من المعاملات الدولية تتم بالدولار.
اتخذت أساليب الضغط الأمريكي عدة أساليب منها فرض العقوبات المالية على بعض الدول
ويأتي من ضمن الأدوات التي تمتلكها الولايات المتحدة المادة 311 من القانون الوطني الأمريكي، التي تخول وزارة الخزانة الأمريكية اعتبار مؤسسة مالية أو دولة أو جهة بأنها تقوم أو تسهل غسيل الأموال، وبناءً على هذا الاتهام يتم حظر تعاملاتها المالية معها، حدث ذلك عام 2015 مع بنك “دلتا آسيا”، وهو بنك صيني، اعتبرته وزارة الخزانة الأمريكية مصدر قلق أساسي في عمليات غسيل الأموال، نظرًا لاشتباهها في قيامه بتعاملات مالية مع كوريا الشمالية، وهو ما تسبب في فقدانه 34% من ودائعه في غضون أيام، وتم وضعه تحت الحراسة، وجمدت الحكومة الصينية أرصدته المشتبه بها.
وفي وقت تمر فيه العلاقات بين الصين والولايات المتحدة بتصعيد خطير، بسبب الحرب التجارية، وتوقيع الرسوم التجارية المتبادل على صادرات الدولتين، كشفت صحيفة “ديلي بيست” الأمريكية، عن بُعد آخر للأزمة يشهد تورط كوريا الشمالية، إذ أشارت إلى قرار إدارة ترامب، في وقت سابق من هذا العام، بعدم تطبيق قوانين غسل الأموال ضد بنكين صينيين كبيرين، وهما البنك الزراعي الصيني وبنك التعمير الصيني، المشتبه في تعاملهما مع كوريا الشمالية.
وكانت آخر العقوبات الأمريكية تلك المطبقة على روسيا باتفاق مع الاتحاد الأوروبي بشأن فرض قيود على إقراضها الخارجي، وهو ما أثر على تدفقات رؤوس الأموال إلى روسيا، وأدى لانخفاض حجم النقد الأجنبي المتداول في القطاع الخاص الروسي بنحو 37 مليار دولار أمريكي في عام 2104، كذلك زادت الضغوط على روسيا بتطبيق عقوبات تحظر على أفراد وكيانات روسية معينة التعامل بالدولار الأمريكي.
العقوبات الأمريكية تعيق الكيانات الخاضعة لهذه العقوبات من التعامل بالدولار، وهو ما قد يتسبب في شلل تام لمصالحها الاقتصادية، خاصة أن 90% من المعاملات الدولية تتم بالدولار
تأثرت البنوك الروسية بما يمكن تسميته “العقوبات الناعمة”، والمقصود بها فرض ضوابط أكثر حزمًا عند مراجعة المعاملات المالية الروسية، وهو ما يبطئ من تنفيذ تلك المعاملات، ويرفع بالتالي تكلفة تنفيذ تلك المعاملات بصورة كبيرة.
وقد تمكنت الولايات المتحدة من عزل إيران عن النظام المالي العالمي، بدءًا من العام 2006 بسبب أنشطتها النووية، حيث حظرت على إيران القيام بأي معاملات تجارية أو مالية داخل الولايات المتحدة، كما يمتد الحظر إلى التسهيلات المالية والمعاملات الدولارية بين إيران وغيرها من المؤسسات الدولية أو الدول الأخرى.
وحتى بعد توقيع الاتفاق النووي، الذي أزال العقوبات الدولية المفروضة على إيران في مقابل تجميدها بعض أنشطتها النووية، فإن العديد من الشركات الأجنبية أحجمت عن الاستثمار في إيران، خوفًا من العقوبات الأمريكية التي لا تزال سارية على إيران، إذا إن هناك عقوبات تحظر المعاملات الدولارية المتصلة بالعقوبات التي تمر عبر النظام المالي الأمريكي، وكذلك العقوبات المفروضة على أفراد ومؤسسات بعينها كالحرس الثوري الإيراني، على أساس أنها تدعم الإرهاب الذي ترعاه الدولة.
الخيارات البديلة للتخلص من فك “الأخضر”
مما سبق يتضح أن الدولار يعد من الأدوات الفاعلة في يد الولايات المتحدة لتنفيذ سياستها الخارجية، وهنا يرى عدد من المحللين الاقتصاديين أن الأداء الضعيف للاقتصاد الأمريكي يدفع للبحث عن بدائل للدولار، حيث تقفد الاحتياطات الدولارية النقدية لدول العالم نسبة كبيرة من قيمتها، وهو ما يهدد مصالح الدول سواء كانت متقدمة أم نامية، خاصة أن الاقتصاد الأمريكي ما زال يعاني عثرات مع تراجع القوة التصديرية، فضلاً عن ارتفاع حجم الدين الأمريكي عن 21 تريليون دولار، أي ما يزيد على الناتج الإجمالي المحلي الأمريكي المقدَّر بنحو 17 تريليون دولار.
وقد دفع ما سبق بعض الدول إلى التفكير في بدائل للدولار الأمريكي، ومنها اللجوء لعلميات بديلة كاحتياطي أجنبي، إذ إن بعض الدول، وفي مقدمتهم الصين والهند وروسيا، سعت لتقليص احتياطاتها من الدولار لصالح عملات أخرى مثل اليورو، بالإضافة إلى الذهب، وبالتالي، فإنه عوضًا عن الاعتماد على الدولار كاحتياطي أجنبي هناك توجه للاعتماد على سلع تتراجع فيها قيمة الدولار لحساب عملات الدول الأخرى ذات الاقتصادات المزدهرة مثل الين واليورو واليوان.
اتجهت بعض الدول للتعامل المالي بالعملات المحلية
وهناك بديل آخر يتمثل في إقامة مؤسسات مالية بعيدة عن هيمنة الولايات المتحدة، فقد أقامت الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا تجمع اقتصادي موازٍ لتجمع الدول الصناعية الكبرى، لرفض الهيمنة الغربية على الاقتصاد والسياسية العالمية فيما عُرف بدول “البريكس“، التي تسعى لإنشاء نظام نقدي أكثر عدالة وتوازنًا للعلاقات الاقتصادية الدولية، بهدف وضع نظام بديل لمواجهة القيود التي يضعها الهيكل الحاليّ للنظام المالي والنقد والتمويل من خلال تمويل المشاريع الأساسية وحل الأزمات وتقديم قروض بشكل لا يعطي أفضلية للدولار الأمريكي.
كما اتجهت بعض الدول للتعامل المالي بالعملات المحلية، من ذلك قيام الصين بعقد اتفاقات لتمويل صفقات دولية بالعملة الصينية “اليوان”، ولعل أبرزها اتفاق المقايضة بين الفرنك السويسري واليوان الصيني، كما تعمل روسيا بدروها، وبعد فرض العقوبات الغربية عليها في إطار الأزمة الأوكرانية على تخفيف اعتمادها على الدولار من خلال اتفاقات دفع ثنائية بالعملات الوطنية مع الصين والهند وإيران.
هناك توجه للاعتماد على سلع تتراجع فيها قيمة الدولار لحساب عملات الدول الأخرى ذات الاقتصادات المزدهرة مثل الين واليورو واليوان
وقد وقعت السعودية مع الصين اتفاقًا في 26 من سبتمبر 2016، تتم بموجبه التعاملات التجارية بين البلدين باليوان الصيني والريال السعودي، وهو ما يشكل ضربة قاسمة للدولار، وذلك لأن تأسيس نظام لأسعار الصرف المباشرة بين عملتي اليوان الصيني والريال السعودي سيتيح لبكين شراء النفط السعودي بعملتها مستقبلاً، ما سيلحق الضرر بالدولار، حيث تعد الصين أكبر مستورد للنفط السعودي في العالم بما يتجاوز مليون برميل يوميًا.
ويتطلب الأمر في الواقع إيجاد بديل لنظام النقد الدولي يراعي مصالح أطرافه، فيما تتصاعد الآراء للأخذ بالاقتراح الذي قدمه اللورد جون مينارد كينز في مفاوضات “بريتون وودز” عام 1944 بشأن النظام النقدي الدولي، الذي يرى ضرورة تنظيم الاحتياطات الدولية من خلال مؤسسة دولية متعددة الأطراف مثل صندوق النقد الدولي.
لكن هناك صعوبة في إيجاد توافق عام بين الدول التي تتضارب سياستها ومصالحها المالية النقدية، ولذلك فإن البدائل الإقليمية قد تكون ذات جدوى، كأن تضع كل دولة مجموعة من الترتيبات بينها وبين شريكها التجاري بالاعتماد على عملاتها المحلية بالإضافة إلى الذهب في تسوية مبادلاتها التجارية، ومنها التجارب التي سبقت بين الصين من ناحية وتركيا والبرازيل واليابان ورسيا من ناحية أخرى، ومن ثم يمكن أن يتحول النظام النقدي الدولي من كونه نظام دولي ليأخذ شكل المناطق الإقليمية، وهو ما يجعل النظام النقدي أكثر عدالة واستقرارًا.