صباح ممطر ومشروب ساخن في طور التحضير، وعليل صباحي بارد يحمل نسمات خريفية معلنة اقتراب فصل الشتاء، طقوس صباحية لا تكتمل لدى البعض إلا بصوت فيروز الشجي، ليداعب حواسهم ويؤنس صباحاتهم، في خلوة صباحية، يرددو بأصواتهم مقاطع فيروزية استعدادًا منهم ليوم طويل بانتظارهم، فممارسة هذه الطقوس تجعل منك في نظر البعض إنسانًا مثقفًا متشبعًا بمفهوم الإيجابية وحاملًا لمفهوم الحداثة والتحضر.
بينما اختياركَ في المساء لكوكب الشرق والراحلة وردة الجزائرية، قد يجعل منكَ عاشقًا ولهانًا، غارقًا في بحر العشق والغرام، بينما اختياركِ للقيصر سيجعل منك سيدة قوية، متجبرة، عاشقة وواثقة من قرارتها. وبينما ترديدك لقصائد محمود درويش على أنغام مارسيل خليفة سيجعل منكَ مناضلًا، مقاومًا وحاملًا للقضية.
فن “الراي” أو فن الفقراء، هو نمط غنائي تشتهر به بلاد الجزائر والمغرب، مع وجود اختلاف كبير في أصوله
ألقاب وتصنيفات يؤمن بها البعض منا، ويتشبث بها آخرون، فعلى خطى المثل الشعبي: “قل لي من ترافق، أقل لك من أنت”، أصبح هناك: “قل لي من يطربك، أقل لك من أنت”، وباختلاف الأنماط الموسيقية والأصوات الموسيقية المفضلة لديك، تختلف بذلك طبيعتك وشخصيتك لدى المصنفين، لتأتي في أسفل القائمة، الطائفة البئيسة كما يطلق عليها الملقبون، الطائفة التي وجب الحذر منها بحسب اعتقادهم، فهي طائفة فقيرة بئيسة على الأرجح. فإذا كنت من محبي فن “الراي” المنتشر في بلاد الجزائر والمغرب، فأنت على الأرجح شخص بئيس فقير، ليست لك صلة بالثقافة والحداثة والوعي، كلما طالعنا محيّاك إلا وكانت نظرات الحزن أنيستك، وكأن هذا النمط الغنائي اقتصر في نظرهم على الفئة فقط.
لا زلت أتذكر وأنا طفلة صغيرة، ابنة أحد الأحياء الشعبية بمدينة طنجة المغربية، وكيف أنني كنت أتبنى نفس الرأي، كنت أرى في محبي فن “الراي”، الفشل وانعدام الحياة في وَسَطٍ حَكَم عليهم بالبطالة والفقر والبؤس، كانت كلمات الأغاني تحكي عن حقيقة الواقع المجتمعي المعاش بحزن وآلام، لكن كيف لطفل أو طفلة أن يتخيل حقيقة وقسوة الحياة من خلال الأغاني، لذلك كنت أمقت هذا النمط الغنائي، إلا أن كبرت وبحثت وفهمت حقيقته.
يعيش الراي اليوم مأساة، شأنه شأن الفنون الجميلة التي اعتادت أن تلخص لنا وتقربنا من الواقع المعاش
تلك هي مأساتنا إذًا، نصدر أحكامًا وتصنيفات على هوانا، وياليتهم بحثوا وفهموا هذا النمط الغنائي المميز، ففن الراي أو فن الفقراء، هو نمط غنائي تشتهر به بلاد الجزائر والمغرب، مع وجود اختلاف كبير في أصوله، نظرًا لتشابه ثقافات وعادات البلدين إضافة إلى تشابه كبير في اللهجات واللغة، لكن الكل يجمع على أن فن الراي هو فن شعبي نظم كلماته وتغنى به مجموعة من الشيوخ، كانوا موجودين شرق المغرب وغرب الجزائر، إلا أن الراي بصورته العصرية التي نراها حاليًّا هو اجتهاد من لدن شباب مدينة سيدي بلعباس ووهران الجزائريتان.
فعلى بساطة كلماته وألحانه، شغل فن الراي حيزًا كبيرًا في الساحة المغاربية، باعتباره لسان حال المهاجرين والفقراء والشباب العاطل ولسان أهل الحب، ليشهد أوجه في سنوات التسعينيات مع وصوله للعالمية. حيث كان يمتزج بإيقاعات عالمية وأوروبية وبصمة شعبوية حاملة لهموم الطبقة الفقيرة والكادحة. لكنه يعيش اليوم مأساة شأنه شأن الفنون الجميلة التي اعتادت أن تلخص لنا وتقربنا من الواقع المعاش. فبعد أن أوصله البعض إلى العالمية وصوروا للجميع صوتًا وإحساسًا حقيقة الوضع الذي يعيشه المجتمع من فقر وبطالة وحلم الهجرة، ها هو الآن يتجه إلى أدنى المستويات، بكلمات وحركات دنيئة، تلخّص الأزمة الأخلاقية التي يعاني منها المجتمع المغاربي حاليًّا. فمتى تعود للراي هيبته؟