غزة في المنتصف من كل الخيارات

شهد قطاع غزة في الأيام الأخيرة تناوبًا غير اعتيادي بين التصعيد العسكري والتهدئة، ففي الوقت الذي يسود فيه بين الغزيين شعور بالطمأنينة واستبشار بانفراجات قادمة لقطاع غزة، تتسرب توقعات تم التوصل إليها من بين أروقة المجتمعين من فصائل المقاومة الفلسطينية والوفود العربية والدولية الزائرة لغزة.
كان ميدان القطاع يتدحرج إلى جولات من التصعيد العسكري تنذر كل جولة من تلك الجولات بأن تتطور إلى مواجهة عسكرية مفتوحة لا أحد يمكن أن يتخيل أحداثها أو أن يتوقع نتائجها، وبتدخل أطراف عدة يُطوق التصعيد وينتزع فتيل الحرب ويعود السياسيون مرة أخرى لمواصلة لقاءاتهم المكوكية الرامية إلى إبرام اتفاق التهدئة بين فصائل المقاومة الفلسطينية ودولة الاحتلال الإسرائيلي.
موجات التصعيد الأخيرة حملت في طياتها الكثير من الدلالات والمؤشرات الاستثنائية، ومنها أنه رغم السرعة الفائقة التي تتدهور بها الأوضاع الميدانية في قطاع غزة نحو التصعيد العسكري فإنها تنتهي أيضًا بسرعة فائقة مع أول تدخل لوقفها، وكأنها تنبئ عن عدم رغبة الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني في تطور الأحداث والانجرار إلى موجة مفتوحة من القتال، ورغم عمرها القصير جدًا أتت بقوة نارية مدمرة وغير معهودة، فراديو الجيش الإسرائيلي أذاع أن “جيش الدفاع الإسرائيلي ضرب نحو 100 هدف في أنحاء قطاع غزة في موجة التصعيد الأخيرة، منها 90 هدفًا لحماس و8 أهداف للجهاد الإسلامي”.
حيث عمدت “إسرائيل” في قصفها المواقع والأهداف الفلسطينية إلى تدميرها تدميرًا كاملًا أو بمعنى أدق محوها عن وجه الأرض، مما يكبد الفلسطينيين في هذه المرحلة الحاسمة من الحصار الخانق خسائر مادية فادحة من الصعب تعويضها، ويجعل من أي عمل عسكري خلال جولات التصعيد القصيرة يصب في صالح “إسرائيل” ومكسب لها خارج الحسابات الرسمية.
إقدام العدو الإسرائيلي على قتل ثلاثة أطفال، بطريقة وحشية وغير مبررة، كان كفيلاً بإطلاق شرارة حرب طاحنة ودموية، لكن فصائل المقاومة الفلسطينية ضبطت نفسها عن الرد على تلك الجريمة النكراء
في المقابل جاء رد المقاومة الفلسطينية على الجرائم والقصف الإسرائيلي جريئًا حيث رفعت سقف الرد المعتاد فقصفت بصواريخ نوعية وأهداف إستراتيجية وغيرت قواعد الاشتباك والردع وتجاوزت الردود المحسوبة والمحدودة وذلك ليس تجنيًا منها إنما رد طبيعي يتناسب مع مستوى الجرائم الصهيونية المتصاعد، المحلل العسكري في صحيفة “هآرتس” عاموس هرئيل، قال: “إطلاق القذائف المكثف من القطاع باتجاه جنوب البلاد، جرى بشكل مخالف لتقديرات مسبقة للاستخبارات الإسرائيلية”.
وأهم ما يمكن ملاحظته على جولات التصعيد الأخيرة، أن الغرض منها سياسيًا بالدرجة الأولى وليس عسكريًا، ويأتي في إطار محاولة كل طرف الضغط على الطرف الآخر ليحصل منه على أقصى المكاسب السياسية التي يمكن تحصيلها وتعزيز موقفه في المفاوضات الجارية ودفع الطرف الآخر للتنازل له والانكسار لإرادته، وفيه أيضًا سعي كل طرف لإثبات قدرته على مواصلة الصراع الناري والاستعداد لأيَّ سيناريو تفرضه الأحداث، وتأتي عملية التفاوض بين الطرفين من منطلق تجنب القتال مع القدرة عليه والجاهزية له، وقد يُلجأ إلى التصعيد حينما تتأزم المفاوضات أو تصل إلى طريق مسدود.
إقدام العدو الإسرائيلي على قتل ثلاثة أطفال تتراوح أعمارهم بين الـ13 و14 سنة، مساء يوم الأحد 28 من أكتوبر 2018 بطريقة وحشية وغير مبررة ومنعه طواقم الإسعاف من الوصول إليهم إلا بعد ساعات طويلة من قصفهم، كان كفيلاً بإطلاق شرارة حرب طاحنة ودموية، لكن فصائل المقاومة الفلسطينية ضبطت نفسها عن الرد على تلك الجريمة النكراء ولكنها لم تسقط حقها فيه، وذلك لتفويت الفرصة على الاحتلال وإعطاء مساحة كافية للجهود السياسية للعمل على التوصل إلى تهدئة تتيسر بها أمور سكان القطاع وتخفف من تبعات الحصار الظالم والخانق المفروض عليهم منذ 12 عامًا.
موقف المقاومة هذا لن يطول في حال ارتكب العدو الإسرائيلي حماقة أخرى في الأيام القادمة وخصوصًا في فعاليات مسيرات العودة وكسر الحصار حيث لوحظ في مسيرات الجمعة الحادية والثلاثين، التي حملت عنوان “غزة صامدة ولن تركع“ وسقط فيها 5 شهداء، تعمد الجيش الإسرائيلي قنص المتظاهرين في مناطق قاتلة من الجسد، فجاءت أغلب الإصابات في الرأس والصدر رغم أن الأحداث والفعاليات من الشباب الثائر كانت الأقل ضراوة منذ انطلاق مسيرات العودة.
الأمر الخطير في حزمة الأحداث الميدانية في قطاع غزة أنه ليس هناك ما يضمن أن تُحجم وتُطوق الأحداث في كل تصعيد أو توتر أمني
الشارع الغزي الذي يعيش تحت وطأة الأزمات الطاحنة ويعاني أيّما معاناة ويحرم من أدنى الحقوق الإنسانية، لم ترق لهم الجريمة الإسرائيلية، ولم يتجرعوا فظاعتها فخرجوا في مسيرات عفوية، جابت مخيمات قطاع غزة تطالب المقاومة الفلسطينية بالرد على الجريمة، فالدم الفلسطيني كما كانوا يهتفون ليس رخيصًا ولا يمكن المساومة عليه أو التسامح فيه وواجب على الفصائل الفلسطينية الرد بكل قوة وحزم.
الرسالة التي يجب على الحكومة الإسرائيلية التقاطها وفهمًا جيدًا أن الشارع الغزي بخروجه على مدار يوميين متتاليين مطالبًا فصائل المقاومة الفلسطينية بالرد على الجرائم الإسرائيلية النكراء، قد وصل إلى مرحلة عظيمة من اليأس وتبدد أمله في كل الجهود الرامية إلى إبرام التهدئة ورفع الحصار، وأنه لم يعد يقبل استمرار الحال في القطاع على ما هو عليه، وهو حين يخرج بهذا الزخم الشعبي والغضب المتوقد يمنح موافقته ومباركته لخيارات الرد العسكري من قبل المقاومة الفلسطينية ولن يكون نادمًا ولا لائمًا لها لو تطورت عملية الثأر إلى حرب مفتوحة، وهذا يحمل دلائل مهمة خصوصًا أن شيئًا من إحجام المقاومة الفلسطينية على الولوج في مواجهة مفتوحة مع الاحتلال الإسرائيلي هو مراعاة الوضع المعيشي المتأزم لسكان غزة وعدم مقدرة الجبهة الداخلية المرهقة على تحمل تكاليف وتبعات حرب جديدة.
وبهذا تكون المقاومة الفلسطينية في وضع أفضل من وضع قيادة الاحتلال التي تتجنب الحرب خوفًا من محاسبة الجمهور الإسرائيلي لها، فمسؤول إسرائيلي مقرب من رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو صرح بأن نتنياهو يدرك أن الذهاب إلى عملية عسكرية في غزة يعني أن الجميع سيصفقون في الساعات الأولى، ولكن بعد ذلك سيُغير الجميع رأيهم ويوجهون له انتقادات.
الأمر الخطير في حزمة الأحداث الميدانية في قطاع غزة أنه ليس هناك ما يضمن أن تُحجم وتُطوق الأحداث في كل تصعيد أو توتر أمني، فربما يصدر عن أي من الطرفين حدث غير متوقع تتدحرج على إثره المنطقة إلى ما لا يرغب فيه الطرفان ولا حتى الوسطاء بينهم، وإلهاء قطاع غزة بوعود لا تجد طريقها إلى الواقع، وتركه في منتصف السيناريوهات والاحتمالات دون إنجاز أي منها لن يكون محمود العواقب، ولا يمكن حينها ضمان النحو الذي ستتجه إليه الأحداث ولا على أي ناحية سترسو.