عندما هبطت طائرة الرئيس التركي رجب طيب أرودغان في مطار الخرطوم أواخر العام الماضي واستقبله ـ بحفاوة بالغة ـ نظيره السوداني عمر البشير، علّق الصحفي السعودي المغدور جمال خاشقجي قائلًا: “يستحق البشير جائزة بطل التوازنات في زمن التشرزم العربي الكبير”.
بالمقابل هناك عدد من السودانيين لا يوافقون رأي الراحل خاشجقي بل يرون أن رئيسهم “ملك التناقضات” وكل يومٍ هو في شأن وحال جديد لا يستقر له موقف ثابت، يدللون على ذلك بأن سعيه للاحتفاظ بعلاقات وثيقة مع طرفي الأزمة الخليجية انعكس سلبًا على البلاد ـ فبحسب اعتقاد هؤلاء ـ لم يرض شركاؤه في حرب اليمن “السعودية والإمارات” من سياسة “مسك العصا من المنتصف” وهو ما أفقده الدعم الذي كان يتوقعه مطلع العام الحاليّ عندما ضربت البلاد أزمة خانقة في الوقود، كما أبدت قطر زهدًا في دعم البشير التي ما قصّرت يومًا في إنقاذه بالودائع والمساعدات طيلة 20 عامًا.
الأسبوع الماضي استقبل الرئيس السوداني البشير، نظيره المصري عبد الفتاح السيسي في زيارة تمّ الترويج على أنها تعكس نقلةً نوعيةً بعد توترات اعترت مسار علاقات البلدين طيلة العامين الماضيين.
ولكن رغم الضجة الإعلامية الكبيرة التي صاحبت الزيارة وسبقتها، لم تثمر الزيارة التي استمرت ساعات معدودة سوى عن توقيع عدد من الاتفاقيات ذات الطابع الاقتصادي أبرزها إقرار البشير برفع الحظر عن استيراد المنتجات الغذائية المصرية وهو قرار أثار جدلًا واسعًا على منصات التواصل الاجتماعي نسبةً لتوارد أنباء عن عدم مطابقة المنتجات المصرية للمواصفات الصحية، وفيما عدا ذلك تكرر الحديث عن متانة العلاقات بين البلدين الشقيقين ولم يتم فتح القضايا الخلافية للنقاش مثل النزاع على مثلث حلايب وأزمة سد النهضة الإثيوبي.
عمر البشير اجتمع قبل مغادرته إلى إسطنبول بوفدٍ استثماري إماراتي “لم تذكر صفته بالضبط”
غير أن محللين ربطوا بين زيارة السيسي التي جرت ظهر الخميس الـ25 من أكتوبر/تشرين الأول وزيارة البشير إلى تركيا التي بدأت يوم الأحد 28 من الشهر ذاته، واعتبر هؤلاء أن البشير يحمل رسالةً لأردوغان تتعلق بالتوسط لحل ورطة السعودية في قضية الصحفي جمال خاشقجي بحسب ما ذكر المدون السوداني الشهير طارق محمد خالد، بينما اعتبر الكاتب التركي المقرب من حزب العدالة والتنمية الحاكم إسماعيل ياشا أن البشير يحمل رسالة من السيسي مضمونها رغبة الأخير في تحسين علاقة بلاده مع أنقرة.
اجتماع مع وفد إماراتي قبل زيارة تركيا
اللافت كذلك أن عمر البشير اجتمع قبل مغادرته إلى إسطنبول بوفدٍ استثماراي إماراتي “لم تذكر صفته بالضبط” ولم يعرف ما إذا كان حكوميًا خالصًا من شركة موانئ دبي أم خليط بين جهات حكومية وقطاع خاص.
المهم أن الوفد الإماراتي بحسب ما هو متاح إعلاميًا، بحث كيفية بدء شراكة سودانية إماراتية لتطوير وتحديث ميناء بورتسودان بما يمكنه من استيعاب سلع الصادر السودانية، وهو ما فُهم بأنه اتجاه لدى الحكومة السودانية لمنح شركة موانئ دبي حق تطوير وتأهيل الميناء العريق ومن ثم دخولها في شراكة مع النظام السوداني رغم الجدل والأسئلة المثارة تجاه الشركة التي تم طردها من ميناء جيبوتي، ولا ننسى أن الحكومة الصومالية اعترضت على اتفاقية وقعتها “موانئ دبي” مع إقليم “أرض الصومال” لأجل إدارة وتشغيل ميناء بربرة الذي يقع داخل الجمهورية غير المعترف بها عالميًا.
ولكن كما أسلف بعض المحللين بأن تصرفات البشير يصعب التكهن بشأنها ففي عام 2015 قال لصحيفة إماراتية إن الإخوان المسلمين يشكلون خطرًا على أمن الدول العربية، وفي سبتمبر/أيلول الماضي قال عند مخاطبته اجتماعًا لشورى الحزب الحاكم إنهم “حركة إسلامية كاملة الدسم” ولذلك غير بعيد من أن يكون الرئيس البشير ـ وهو المتحكم الأول في قرار الدولة ـ رأى منح شركة موانئ دبي حق إدارة تطوير وتشغيل ميناء بورتسودان بعد أن رفضت حكومة السودان سابقًا العرض الإماراتي لأسباب فنية مقنعة بعيدًا عن السياسة.
ولكن لعل البشير أظهر موافقةً مبدئية الآن على العرض الإماراتي رغم رفض هيئة الموانئ السودانية لمحاولة الموازنة بين علاقاته مع قطر والإمارات، فقد أعطت الخرطوم مطلع مارس/آذار الماضي حق تطوير ميناء سواكن لشركة موانئ قطر التي أرسلت بالفعل الرافعات وقوارب السحب لجعل ميناء سواكن الأضخم من نوعه في المنطقة الحيوية.
أبوظبي تستضيف قمة رياضية سودانية
غير بعيد من كل التطورات المتلاحقة الجارية في المنطقة، من المقرر أن يستضيف إستاد محمد بن زايد في أبو ظبي، مباراة قمة تجمع قطبي الكرة السودانية الهلال والمريخ يوم الجمعة المقبل، كما سيشهد المباراة وسيتوج بطل الكلاسيكو اللواء محمد خلفان الرميثي رئيس الهيئة العامة للرياضة والمعروف بقربه من ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد.
بالتزامن مع زيارة البشير لتركيا ولقائه مع الرئيس أردوغان سرت تكهنات قوية، بتحريك الرياض والقاهرة لوساطة سودانية مع تركيا لتهدئة إصرار أردوغان وإلحاحه بالإعلان عمن أعطى الأوامر لقتل خاشقجي
وبالنظر إلى التغطية الإعلامية الموسعة للحدث الرياضي السوداني في الإعلام الإماراتي قبل أن يبدأ يتضح أن هناك توجهًا إماراتيًا واضحًا لاستقطاب حكومة البشير وغير مستبعد أن نسمع خبرًا عن وديعة إماراتية للسودان في الأيام القادمة كما يتنبأ المحلل محمد أبو الذهب، خصوصًا أن وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد، قدّم دعوة لنظيره السوداني الدرديري محمد أحمد، لزيارة الإمارات، وذلك خلال لقائهما على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة بنيويورك.
ونُذكّر هنا بأن وفد شركة موانئ دبي العالمية اضطر إلى مغادرة ميناء بورتسودان الجنوبي العام الماضي وذلك عقب اعتراض عمال على وجوده والتعبير عن رفضهم لمقترح تسليم إدارة الميناء لشركة أجنبية، وأوقف العمال وفد الشركة الذي كان في زيارة للميناء الجنوبي وأبلغوه رفضهم لمقترح هيئة الموانئ البحرية بخصخصة إدارة الميناء، بينما استمع الوفد المكون من خبيرين ومترجم لحديث العمال ثم غادروا الميناء لمقر إقامتهم.
لقاء البشير بأردوغان
بالتزامن مع زيارة البشير لتركيا ولقائه مع الرئيس أردوغان سرت تكهنات قوية، بتحريك الرياض والقاهرة لوساطة سودانية مع تركيا لتهدئة إصرار أردوغان وإلحاحه بالإعلان عمن أعطى الأوامر لقتل خاشقجي، ولكن لا نعتقد أن البشير يمكن أن يلعب دورًا حقيقيًا في هذه الأزمة المعقدة مع احتمالية أن يكون قد نقل رسالة ورغبة مصرية في تحسين العلاقات مع تركيا.
الأنباء الرسمية التي وردت من لقاء البشير بأردوغان ذكرت أن الأول قال: “السودان وبما حباه الله من موارد ثمينة وموقع جغرافي متميز، مؤهل ليكون البوابة الأمثل لتعزيز التواصل التركي مع دول القارة الإفريقية”، وأكد البشير خلال زيارته لمدينة إسطنبول التركية “عمق العلاقات السودانية التركية” التي تعمّقت بعد زيارة الرئيس التركي للسودان العام الماضي.
من المتوقع أن تجد الخطوة التي اتخذها البشير بالموافقة المبدئية على التفاوض مع شركة موانئ دبي تمهيدًا لتسليمها ميناء بورتسودان رفضًا شعبيًا على غرار الرفض الذي وجده قرار فك الحظر عن المنتجات الغذائية المصرية
ذاكرة المواطنين السودانيين ليست مثل ذاكرة السمك التي تنسى بسرعة، فقد خرجت في أثناء زيارة الرئيس التركي تصريحات خليجية ومصرية مسيئة للسودان وصلت حد العنصرية المقيتة عندما غرّد إعلامي إماراتي شغل من قبل منصب المدير العام لقناة أبو ظبي الرياضية محمد نجيب، قائلًا: “كلمة لكل قياداتنا ومن وثق بالبشير.. لا تشتر العبد إلا والعصا معه، إن العبيد لأنجاس مناكيد”، مع العلم أن أبو ظبي لم تتخذ أي إجراء بحق الإعلامي المقرب من دوائر الحكم سوى فتح بلاغ شكلي في مواجهته لتخفيف الغضب السوداني ولكن سرعان ما تم دفن القضية فلم نسمع بعد ذلك مطلقًا بعقد جلسة محاكمة له.
ولذلك فمن المتوقع أن تجد الخطوة التي اتخذها البشير بالموافقة المبدئية على التفاوض مع شركة موانئ دبي تمهيدًا لتسليمها ميناء بورتسودان رفضًا شعبيًا على غرار الرفض الذي وجده قرار فك الحظر عن المنتجات الغذائية المصرية التي اتضح أن منعها كان سياسيًا فقط لتوتر العلاقات مع مصر وليس حرصًا على صحة المواطن السوداني.
نتمنى أن يتحول السودان إلى دولة مؤسسات بمعنى الكلمة وأن يخضع القرار النهائي بشأن خطط الدولة المستقبلية وعلاقتها الخارجية للمؤسسات التي تضم خبراء وطنيين تكنوقراط بعيدًا عن رأي الرجل الأول أو سطوة المتنفذين التي قد يراعوا مصالحهم الضيّقة وليس مصلحة البلد ومواطنيه، وما يحدث من طفراتٍ تشهدها دول المنطقة التي تجاور السودان خير دليل وبرهان من رواندا التي تحولت من الإبادة الجماعية إلى نموذج للريادة والتطور ومرورًا بكينيا وتنزانيا وانتهاءً بإثيوبيا التي انتقلت من ثاني أفقر دولة في العالم إلى أعلاها في معدل النمو المتسارع وتطمح إلى أن تكون دولة متوسطة الدخل بحلول عام 2025.