تتبع الشركات التجارية والرقمية نهجًا إستراتيجيًا في التسويق لمنتجاتها وخدماتها، فهي تنفق المليارات على الدعاية والإعلان كجزء من خطتها في تحويل فضول وسعادة المستهلك بالاكتشافات والأدوات الجديدة إلى عادات روتينية وخيارات بديهية، تدفعه إلى الإدمان على سلعها دون تفكير، فهل تساءلت يومًا لماذا تتجه إلى محرك البحث جوجل للحصول على معلومة ما؟
يُعرف كتاب “العادات الشرائية” للخبير المتخصص في سلوك المستهلك نيل مارتن العادات بـ”العلم الجديد في التسويق”، ويقول: “تكمن قوة العادات في أنها توجه سلوكنا وتؤثر بما نقوم به دون وعي، ويأتي نجاح السوق فعليًا من ابتكار منتج أو خدمة يستعملها الزبائن اعتياديًا”، ومن هذا المنطلق يأخذنا مارتن إلى نظرية جديدة تعتمد على تغيير سلوك المستهلك بدلًا من التركيز على رضاه.
لماذا نحتسي القهوة في ستاربكس؟
الانتشار والكافيين.. أسرار نجاح متاجر ستاربكس
يتساءل مارتن في كتابه قائلًا: “لماذا يدفع الزبائن أكثر من 3 دولارات من أجل فنجان من القهوة في ستاربكس 3 مرات أسبوعيًا؟”، والمثير للاهتمام أن مارتن ينفي الارتباط العاطفي بين المستهلكين والعاملين ويفسر نجاح هذه السلسلة التجارية العملاقة بأسباب أخرى، ومنها انتشارها في جميع المناطق وسهولة العثور عليها في كل شارع وزقاق.
لا ينتبه الزبائن كثيرًا إلى مواصفات منتج معين، بل يبحثون، بدلًا من ذلك، عن طرائق مختصرة وتلميحات دلالية في البيئة تمكنهم من جعل القرارات آلية
إضافة إلى احتواء قهوتها على الكثير من الكافيين، وهي مادة من مواد الإدمان الشائعة التي يسهل من خلالها تشكيل العادة والتأثير على السلوك، وهذا ما يفسر لنا سبب توجه المستهلك إلى ستاربكس دون وعي أو تركيز على الجودة، حيث يقول مارتن: “لا ينتبه المستهلك كثيرًا إلى مواصفات منتج معين، بل يبحث، بدلًا من ذلك، عن طرائق مختصرة وتلميحات دلالية في البيئة تمكنهم من جعل القرارات آلية”.
لفهم هذا الجانب، ننتقل إلى علم الأعصاب والنفس في تفسير هذه العملية الدماغية للمستهلك، فمن المتعارف عليه أن الدماغ ينقسم إلى العقل الظاهر والباطن، ولكل منهما وظيفته وميزته المختلفة، بحيث يقوم الأول بالعمليات المنطقية التي تحتاج إلى تخطيط وتحليل، أما الأخير فيؤدي عملية التفكير ويجهز الردود البسيطة والمعلومات الأساسية.
المنتجات والخدمات يجب أن تحظى في بادئ الأمر بانتباه واهتمام وإعجاب الزبون حتى يشتريها ويجربها ويتعود عليها في النهاية
على سبيل المثال، إذا سألك أحدهم ما عاصمة مصر؟ فستكون إجابتك الفورية “القاهرة”، ما يعني أن عقلك الباطني أو اللاوعي تولى مهمة الإجابة عن هذا السؤال، والأمر نفسه ينطبق على جميع العادات والقرارات السريعة التي تتخذها دون تفكير أو تعليل وتشكل سبل مختصرة – في حالة التسوق – يسلكها المستهلك ليبقي عقله الظاهر فارغًا ومتيقظًا للمشكلات الأخرى.
مع العلم أن بعض العمليات يجب أن تمر بالعقل الواعي حتى تتجه إلى اللاوعي وتصبح مع الوقت عادة أو سلوك روتيني، ما يعني أن المنتجات والخدمات يجب أن تحظى في بادئ الأمر بانتباه واهتمام وإعجاب المستهلك حتى يشتريها ويجربها ويتعود عليها في النهاية، أما إذا كانت التجربة سلبية منذ البداية، فلن تصبح عملية شراء منتج ما عادة أو عملية آلية من الأساس، لأنها لم تقنع العقل الظاهر بجودتها.
كيف تصنع الشركات عاداتنا؟
إن نجاح المنتجات مرتبط بقدرتها على فرض أو إيجاد عادة شرائية جديدة أو استبدال أخرى قديمة، ولذلك يرى مارتن أنه يجب أن يكون المنتج إما بديهيًا يعتمد على الحدس أو أن يدرب المستخدمون عمليًا على استعماله، مع التذكير بأن المستهلكين لا يفضلون القيام بخطوات عديدة عند استخدام منتج ما، فقد كشفت الأبحاث التي أجريت على استعمال الهاتف الجوال – بحسب كتاب “العادات الشرائية” – أن الزبائن لا يرغبون باستخدام وظيفة تحتاج إلى الضغط أكثر من مرتين، فقلة منهم ينظرون إلى أدلة التعليمات والتوجيهات.
نظرًا لذلك، يعد تصنيع أجهزة بسيطة وبعيدة عن التعقيد في التصميم والاستعمال عاملًا مساعدًا على تكوين عادات مستدامة، يضاف إلى ذلك، تحديد رؤية واضحة للمنتج من منظور سلوكي عبر الإجابة عن بعض الأسئلة المتعلقة بعدد مرات استخدام الجهاز وهوية المستخدم وظروف الاستخدام ومدى سهولة استعماله، لأن أي خلل أو نقص في هذه المداخل قد يهدد عمر النجاح الافتراضي للمنتج.
إذا أرادت شركة “مرسيدس بينز” أن ترفع سعر نموذج معين من سياراتها، عليها أن تبرر هذا الارتفاع بمعايير أو إضافات جديدة حتى تجعل قرار الدفع آليًا وبعيدًا عن شكوك وعي المستهلك
إلى جانب ذلك، يعتقد المسوقون أن التسعير جزء من عملية تكوين العادات التي تحمي الشركة من المنافسة الشرسة في السوق وتحفظ ولاء المستهلك لها، ولذلك لا بد أن يكون السعر مناسبًا لقيمة وجودة المنتج أو أن تحسن الشركة تبريرها في فارق السعر، مثلًا إذا أرادت شركة “مرسيدس بينز” أن ترفع من سعر نموذج معين من سياراتها، عليها أن تبرر هذا الارتفاع بمعايير أو إضافات جديدة حتى تجعل قرار الدفع آليًا وبعيدًا عن شكوك وعي المستهلك.
فإذا كون المستهلك عادة ما أو سلوك استهلاكي معين فلن يعير السعر اهتمامًا عاليًا، فغالبًا لا يفكر المستهلك المخلص أو الاعتيادي بسعر فنجان القهوة في ستاربكس أو فاتورة الهاتف، لأن الشركات تحاول إخفاء التغيرات والزيادات السعرية بشكل لا يتصادم مع عتبة وعي المستهلك للسعر ولا يتطلب تفكيرًا منطقيًا من العقل الظاهر.
تمر صناعة العادة بعدة مراحل مختصرة وهي الاكتشاف والشراء والاستخدام عن وعي ثم تكرار التجربة بطريقة لا واعية
كما يعد الحيز المكاني واحدًا من العناصر التي تلعب دورًا جوهريًا في صياغة العادات الشرائية، إذ لا يصبح المتسوقون زبائن أوفياء إلا إذا تعلموا الوصول إلى المتجر أو الموقع الإلكتروني، واعتبارًا لذلك، لا بد أن تنتبه الشركات إلى مواقع متاجرها وتصاميمها بحيث تكون سهلة الوصول ولافتة النظر أيضًا، لكن إذا كان من الصعب تحقيق هذه المميزات فلا شك أن تشكيل سلوك المستهلك سيكون أكثر صعوبة.
ختامًا، تمر صناعة العادة بعدة مراحل مختصرة وهي الاكتشاف والشراء والاستخدام عن وعي ثم تكرار التجربة بطريقة لا واعية – في الحالة الإيجابية -، وأفضل مثال على ذلك، جوجل الذي اكتشفناه قبل سنوات واخترنا التعامل معه عن وعي، وعندما كانت نتائج التجربة جيدة وموافقة لتوقعاتنا، لم نعد نفكر فيه، ولم يعد مسألة اختيار، بل أصبح عادة إلكترونية روتينية.