خلال هذه الأيام طيلة فصل الشتاء البارد من كل سنة، تكتسي جبال الأطلس المغربي بحلة بيضاء ناصعة تتلحف بها الأشجار الباسقة والحجارة، بعد أن نزعت عنها رداءها الأخضر الذي تلحفت به طيلة الأشهر السابقة من السنة في مشهد يستهوي محبي الطبيعة وعشاقها، لكن في أعماق تلك الجبال قصصًا تدمي القلوب، ففيها قصص وروايات أناس سكنوا الكهوف والمغاور منذ فترة طويلة ليس رغبة منهم بل اضطرار.
كهوف الأطلس: استعمالات عدة
تحتضن المملكة المغربية الجزء الأكبر من جبال الأطلس التي تمتد إلى تونس مرورًا بالجزائر على مساحة تقدر بـ2.090 كيلومتر، وفي هذا الجزء المهم من الجبال تكونت العديد من الكهوف والمغارات التي نحتتها الطبيعة والبشر في تجاويف صخرية دقيقة.
هذه الكهوف التي نُحتت بشكل عميق في الجبال استُعملت منذ مئات السنين كمكان لتخزين المؤونة والحبوب، ذلك أن الجبال كانت موطن المغاربة الأصليين منذ القدم، فإليها يفرون عندما تستعمر السهول، وهي منبع المياه والحياة عندهم.
في غياب الكهرباء يستعمل سكان الكهوف مصابيح يدوية الصنع للإضاءة ليلًا
خلال فترة الاستعمار الفرنسي والإسباني اتخذت هذه الكهوف ملجأ للمقاومين الذين يتصيدون الجنود في تلك المناطق، دفاعًا عن بلدهم المحتل حينها من بطش المستعمر الغاصب الذي لم يبقِ ولم يذر ولم يسلم منه أحد.
مع مرور الوقت أصبحت بعض هذه المغاور العجيبة ملاذًا للمخالفين للقانون والفارين من العدالة وأجهزة الأمن، خاصة أنها أماكن يصعب الوصول إليها بسهولة، والمحتمي بها يتمتع بالأمان إلى حين، ينزل بين الفينة والأخرى للمدينة للتزود بالمؤونة ثم العودة هناك سريعًا.
صنع حياة من اللاشيء
مع مرور الوقت تحولت هذه الكهوف الواقعة بسفوح جبال الأطلس المتوسط المغربية إلى مأوي، فقد تتحول إلى مساكن لعشرات العائلات التي تعاني الفقر والاحتياج والفاقة، ففيها وجدوا مستقرًا لهم يقيهم حر الشمس وبرودة الثلج، فهي دافئة شتاءً وباردة صيفًا.
حتى تتلاءم مع عيشهم حاول سكان تلك الكهوف تحويل منازلهم الجديدة المنحوتة في الجبل إلى حجيرات صغيرة منفصلة تشكل مجتمعة نصف دائرة، تخصص العائلة حجرات صغيرة الحجم للنوم وأخرى للطبخ، وإن كانت محظوظة فستكون لها غرفة للجلوس والأكل، فيما تحرص العائلات أن يكون لها مكان خاص لجمع المؤونة.
غالبًا ما تجد إلى جوار مسكن العائلة حظيرة مخصصة للأغنام والماعز التي تمثل مصدر رزق العائلة، كما تحرص العائلات هناك على تربية الدجاج للاستفادة من بيضه وتربية حمار للتنقل به عبر سفوح الجبل لجلب الحطب أو النزول للمدينة لغياب وسائل نقل تربطهم بالحواضر.
يعيش السكان على رعي الغنم
يحاول الأهالي هناك صنع حياة من اللاشيء، فالحياة ما زالت بطيئة وكل وسائل العيش والاتصال بالعالم الخارجي شبه منعدمة وكل شيء هناك بدائي، نعم هي طبيعة جميلة وخلابة كما يراها الزائر، إلا أنها قاسية جدًا كما يراها سكان الكهوف.
يمتهن هؤلاء رعي الأغنام في غابات الأطلس، فمع ساعات الفجر الأولى وبزوغ شمس الصباح يُخرج الأطفال قطيع الأغنام من الحضيرة للتوجه به نحو المرعى ولا يعودون إلى البيت (الكهف) إلا مع غروب الشمس، وفي تلك الفترة غالبًا ما يكون زادهم الماء والخبز وفي بعض الأحيان إبريقًا من الشاي.
في غياب الكهرباء يستعمل سكان الكهوف مصابيح يدوية الصنع للإضاءة ليلًا، فيما يلجأون عادة إلى العيون المنتشرة في الجبال لجلب المياه واستعمالها للشرب وغسل الملابس والأواني وسقي دوابهم، واستعمالات أخرى.
عزلة كاملة
في هذه الأيام تحرص العائلات على جمع الحطب تحضيرًا لموسم الشتاء الذي بدأ باكرًا هذه السنة، فخلال هذا الفصل تنقطع هذه العائلات عن العالم وتعيش في عزلة بسبب تساقط الثلوج التي يراها أهل المدن جمالًا ومتعة وسحرًا، لكنها بالنسبة لسكان الكهوف قساوة ومعاناة وعزلة، نتيجة ذلك يخرج الآباء باكرًا لجمع ما تيسر من الحطب للتدفئة.
هناك تختفي شاعرية البياض الذي يسحر السياح وهم يتمتعون بمنظر الثلوج وهي ترقد بدلال على قمم الجبال وسفوحها، فتبعث الحياة في نفس المشاهد بمنظرها الخلاب، لتتحول إلى مصدر بؤس لسكان الكهوف فالحياة هناك مستحيلة، فسوء الأحوال الجوية ترمي بسكان هذه المناطق طي النسيان وتجعلهم تحت رحمة الثلوج التي تقطع عنهم الطرق.
أغلب سكان تلك الكهوف هم من الأمازيغ الذين قرروا الاستقرار في الجبال منذ القديم
موسم تساقط الثلج لإن ينتظره العديد من المغاربة للسياحة والتزلق، فإنه عند هؤلاء موسم تعب وشقاء ومعاناة أكثر وعزلة دائمة، فالثلوج تعزلهم عن العالم طوال فترة تساقطها، ما يضطرهم للبقاء في كهوفهم قرب موقد النار الذي لا ينطفئ طيلة فصل الشتاء ولا يخرجون إلا لإطعام الماشية.
من مظاهر استعدادهم لفضل الشتاء أيضًا طحن القمح واقتناء كل ما هو ضروري من المواد الغذائية، إلى جانب شراء علف المواشي التي تظل طيلة مدة تساقط الثلوج حبيسة الحظائر، ففي هذه الأماكن النائية حياة الماشية لها أهمية كما هي حياة الإنسان بالنسبة للقرويين.
معاناة دائمة
هذه الكهوف التي اصطفت في قلب الجبل ونحتت بإتقان في الصخر وتشكلت منها منازل تأوي أسرًا بأكملها، تحكي معاناة فئة من المغاربة تقول إن حكومة بلادهم قررت أن تجعل من مناطقهم على الخصوص “المغرب غير النافع”، وأن تحكم عليهم بالتهميش والعزلة والحرمان من الصحة والتعليم والطرق والماء والكهرباء وكل ما يتطلب العيش الكريم.
يقول العديد المغاربة إن سكان تلك الكهوف ما زالوا منسيين رغم الوعود الكثيرة التي تطلق من هنا وهناك، فهم مهمشون كأنهم لا ينتمون إلى المغرب وفق قولهم، فالسلطات الحاكمة لم تقم بأي شيء لفك العزلة عنهم والتخفيف من معاناتهم.
يشكو المغرب من تفاوت اجتماعي حاد، ففي أحدث تقرير لها وضعت منظمة “أوكسفام” البريطانية غير الحكومية، المملكة المغربية في صدارة دول شمال إفريقيا على مستوى “اللا مساواة بين الأغنياء والفقراء“، حيث أكد التقرير وجود تفاوتات متفاقمة بين الأغنياء والفقراء في المغرب، مبرزًا، في هذا الصدد، أن مستوى عيش أغنياء المملكة يضاعف مستوى فقرائها بـ12 مرة، معتبرًا أن هذه الفجوة لم تنخفض منذ العشرية الأخيرة من القرن الماضي.
يرجع هذا التفاوت الطبقي والاجتماعي والمجالي في المملكة المغربية، حسب العديد من الخبراء، إلى النموذج السياسي الذي اعتمدته المملكة منذ استقلالها الذي كان بمثابة الحاجز أمام عمليات التنمية، الذي ما فتئ يولد الإقصاء والتفقير في حق عدد كبير من مواطني المملكة، خاصة أنه يهدف إلى تكوين مجموعات مالية مرتبطة بالسلطة السياسية وتلبية احتياجات هذه المجموعات.
الأمازيغ سكان الكهوف
أغلب سكان تلك الكهوف هم من الأمازيغ الذين قرروا الاستقرار في الجبال منذ القديم، ويعرف هؤلاء ببأسهم وقوتهم الكبيرة، ورغم نزول عدد كبير منهم نحو المدن بسبب سوء الأحوال الجوية وقساوة الطبيعة وعزلتهم الكبيرة، فإن عددًا مهمًا منهم أثروا البقاء هناك على النزول.
ويتمسك العديد من الأمازيغ بالجبال والكهوف ويرون الحياة خارجها سجنًا، ورغم إمكانياتهم البسيطة والحياة الصعبة التي ولدوا وكبروا فيها، فإنهم راضون بحياتهم، يقتسمون المراعي ويواجهون بتضامن قساوة الطبيعة ووعورة الجبال.
قساوة الطقس لم تكن السبب الوحيدة في معاناة هؤلاء، فالحكومة أيضًا تحالفت مع الطبيعة القاسية وقررت عدم الالتفات إلى تلك المناطق ومن يسكنها، وعدم إيلائهم أي اهتمام يذكر إلا في الوعود التي تطلق من هنا وهناك، فمعاناتهم لا تتجاوز الوعود.